أثناء حفر قناة السويس في مصر (1859 - 1869)، كان الاحتياج إلى الفن مُلحاً، وفي تلك الظروف، تولّد تُراث "الضمة" الفني. فبعد يوم من العمل الشاق، يجتمع العمال في حلقات "ضمة" ويتغنون بالأشعار الصوفية وقصائد الغزل، ولاحقاً، انضمت لهذا الطقس الغنائي آلة السمسمية.
وبعدما انضمت آلة السمسمية إلى هذا الطقس قادمة من السودان، أضاف الصيادون والبحارة في لون الفن الشعبي البورسعيدي، بحركات غاية في الخفة أو ما عُرف بـ"الرقص البمبوطي"، وهو رقص محلي يحاكي حركات "البمبوطية" أو تجار البحر.
وجمع هذا النمط من الرقص ما بين المؤديين والجمهور في وصلة تفاعلية وارتجالية، لتكتمل أركان فن تراثي ينتمي إلى مدن القناة عموماً، ومحافظة بورسعيد خصوصاً.
وفيما يُهدد الاندثار تلك الحالة الموسيقية التراثية البورسعيدية التي تجمع الرقص والعزف والغناء، تجتهد فرقة الطنبورة، إحدى الفرق المصرية المحلية، في تمرير ذلك التراث الموسيقي لأجيال جديدة، تضمن بقائه بعد رحيل حامليه وعشاقه.
براعم الطنبورة
في فبراير الماضي، تخرجت دفعة جديدة من المدرسة التابعة لفرقة الطنبورة التراثية "براعم الطنبورة". ويستغرق تخرج دفعة جديد عادة نحو 3 سنوات، إذ يلتحق الطلاب بالمدرسة أطفالاً، ويتخرجون فنانين و"صحبجية"، وهو اللفظ الذي يُطلق على الفنان الشعبي الهاوي في بورسعيد.
دفعة فبراير الماضي، ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، وفق مؤسس الفرقة، والمدرسة، الريس زكريّا إبراهيم، فقد أسسها عام 2003، عندما سيطر عليه الخوف من اندثار ما يقدمه وزملاؤه في الفرقة برحيلهم.
ويقول إبراهيم في حديثه لـ"الشرق": "بدأنا المدرسة حين شعرنا بأن الأجيال الأكبر من الفنانين ترحل، لذا أسسنا مدرسة للبراعم لتأهيل أجيال جديدة من الفنانين الحافظين لأشعار الضمة، والراقصين، وعازفي الإيقاع والسمسمية".
اليوم، وبعد 19 عاماً من تأسيس المدرسة، أفرزت تلك الفكرة أجيالاً عدة عززت فن "الطنبورة الأصلية". ويشكل الدارسين في مدرسة البراعم، 40% من الأعضاء الحاليين للفرقة، وفق الريس زكريا.
غير أن فرقة الطنبورة الأصلية ليست الوجهة الأولى لخريجي البراعم، فالدفعة الأولى على سبيل المثال أسست فرقة "الصحبة"، وانضم البعض الآخر لفرق أخرى، أو لقصور الثقافة المصرية، أو لم يحترفوا الفن الشعبي بعد التخرج.
ورغم ما تواجهه من صعوبات، إلا أن فرقة الطنبورة ليست الأقل حظاً بين الفرق التراثية، فوفقاً للريس زكريا، يعاني الفن الشعبي في مصر تهميشاً كبيراً نتيجة لعوامل عديدة، فعلى المستوى الرسمي، يقع الفنان الشعبي في أسفل سلم الثقافة الرسمية.
وبحسب إبراهيم، ينتاب الجيل الشاب من الفنانين "ميل عارم للتغريب وتعلم الآلات الغربية"، وهو ما يجعل الآلات التراثية في وضع هش، يناقض الحفاوة التي قوبلت بها فرقة "الطنبورة" في جولاتها خارج مصر خلال عقد التسعينات، حين مرت بباريس، والأردن بمهرجان جرش، وإيطاليا وكندا والسويد وبريطانيا.
ظروف مشابهة
المخاوف التي دعت الريس زكريا لتأسيس "براعم الطنبورة"، تكاد تتشابه مع الظروف التي دعته قبل عقود لتأسيس فرقة الطنبورة نفسها، بالتحديد عام 1988، فآنذاك، كان "الصحبجي" العائد لبورسعيد بعد التهجير، والدراسة في جامعة القاهرة والانخراط في الحراك الطلابي، يتساءل عن المكانة الروحية والمجتمعية للفن الشعبي في المدينة، في ضوء صعود ما أسماه "الفرق التجارية".
"كانت السمسمية هي البلسم لي في رحلة التهجير" بتلك الكلمات يصف الريس زكريا الدور الذي لعبه الفن الشعبي في الحفاظ على معنويات المهجّرين لحين العودة، إذ كان حينئذ مراهقاً في الـ17، عندما هُجر رفقة أسرته عام 1969 إلى محافظة الدقهلية.
ويشير مصطلح التهجير إلى حالة النزوح الداخلي التي أجبر عليها سكان مُدن القناة (السويس وبورسعيد والإسماعيلية) في أعقاب حرب 1967 مع إسرائيل، تمهيداً لإعداد جبهة القتال، وحماية للمواطنين بتحريكهم إلى مدن أخرى حتى عام 1973.
أوائل الثمانينيات، كان الذين يعزفون السمسمية وحفظة تراث الضمة تواروا لصالح الفرق التجارية التي دعم صعودها التغيرات الاقتصادية التي ألمت بمدينة بورسعيد، وتأثر خريطتها الاجتماعية بسياسات الانفتاح الاقتصادي، عندها بدأت رحلة بحث زكريّا عن أرباب "الحظ"، أحد الأسماء المرادفة للفن الشعبي في بورسعيد، والعازفين المخضرمين.
لسنوات لم تكلل محاولات زكريا بالنجاح، قبل أن يبدأ في العثور على طرف الخيط عام 1988، ويؤسس الفرقة، ويستعين بمن عثر عليهم في العثور على المزيد من المتوارين والمبتعدين عن ساحة الفن.
ناظر المدرسة
وفيما يضطلع الريس زكريا بمهام مدرسة البراعم الإدارية، توكل المهام الدراسية إلى عازف السمسمية المخضرم، وأحد أعضاء الطنبورة الأصلية، محسن العشري، الذي يفضل أن يحمل لقب "ناظر مدرسة البراعم".
وفق العشري، لم يكن توارث وتعلم تراث الضمة في السابق نظامياً، فعادة ما يورّث الفنان الشعبي فنه لأحد أبنائه الذي قد يقرر الاحتراف لاحقاً واستكمال المسيرة، أو لا يفعل.
كان نموذج التوارث هذا، الوسيلة التي تعلم محسن العشري عبرها عزف آلة السمسمية، إذ تعلم على يد والده الريس حسن العشري، أحد العازفين المخضرمين، غير أن مدرسة براعم الطنبورة وفرت سياقاً آخر للتعلم، إذ تنشر إعلانات عبر مواقع التواصل، وتستقبل المتقدمين، وتمتحنهم، وتسكّن كل طالب وفق قدراته إما في فصل العزف أو الرقص أو الغناء.
لا ينفي العشري صعوبة ومشقة مهمة التعليم، خصوصاً المرحلة العمرية التي يتعامل معها، غير أن شعوره بالضجر والإرهاق يتلاشى حين يعثر على طفل موهوب، من شأن مهمة تعليمه أن تسهم في حفظ الفن الذي أفنى عمره لأجله.
ويبقي العشري نطاق مدرسة البراعم محدوداً بمحدودية القائمين عليها وإمكانياتهم، فالانتظام بالمدرسة يتطلب أن يكون الطالب من سكان محافظة بورسعيد حتى يستطيع المداومة على حضور الفصول والبروفات، فيما يؤكد: "على قدر ما يتاح لنا من إمكانيات، أعتقد أننا نحرز إنجازاً".
فن جديد
لا ينشغل العشري كثيراً بأن يسير طُلابه على نفس الدرب الذي سلكه، على العكس، يحثهم على "التعبير عن ذاتهم بواسطة ما تعلموه".
وفي حديثه لـ"الشرق"، يتحدث العشري بفخر عن طلابه الذين أصبحوا زملائه لاحقاً، وغيرهم ممن أسسوا فرقاً مستقلة بينها فرقة "الصحبة"، وهي فرقة تتكون من جيل جديد بالكامل، و قامت بالعزف أمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في حفل افتتاح قناة السويس الجديدة عام 2015.
يرى العشري أنه أدى دوره تجاه السمسمية على أكمل وجه، إذ طورها إلى حد أنه من الممكن أن تدمج في أي "تخت موسيقي".
يدرك العشري جيداً صعوبة القبض على الفن الشعبي، خصوصاً في ظل تراجع المقابل المادي، الأمر الذي يجعله يتفهم أيضاً عزوف بعض طلابه عن مواصلة العمل بالفن.
بدوره، يختلف معه الريس زكريا، قائد فرقته، ففيما يقر أنه ليس بيده أن يمنع طلاب المدرسة من إنتاج نسختهم من الفن الشعبي البورسعيدي، يتمسك بأن الفن الشعبي "خفيف الظل"، وأن تمريره للأطفال لا ينطوي على إثقال كاهلهم بفن "متحفي" أو "محنط" على حد تعبيره.
أحلام شابة
أحمد فتحي الأصيل، ذو الثلاثة عشرة عاماً، عازف براعم الطنبورة الأساسي وأحدث خريجي مدرسة البراعم، طالب بالصف الأول الإعدادي، هوى السمسمية والعزف عليها بسبب حُب والده لها، فوالده هو أحد الصحبجية.
بدأت رحلة الأصيل مع السمسمية منذ عامه الخامس، أما باقي فنون تراث الضمة والرقص، فتعلمها بحلول العاشرة من عمره.
على خُطى أستاذه، محسن العشري، يتمسك الأصيل بتراث السمسمية ويحرص على استمراريته، لكنه لا يستبعد أن يغني لوناً آخر بخلاف الطرب الشعبي لاحقًا.
ويضيف في حديثه لـ"الشرق": "مهارتي في العزف والغناء والرقص منحتني شهرة في المدرسة الابتدائية، وعرفت عن طريقها الصعود على مسرح الأوبرا، والظهور على شاشة التلفزيون، ومن ثم أود الاستمرار فيها، وأن أجول العالم بصحبة براعم الطنبورة".
وفي حين تشمل أغاني الضمة بعض المعاني التي قد لا يستوعبها الأصيل جيداً، نظراً للغتها القديمة وحداثة سنه، يتخير الفنان الشاب عادة الأغاني التي تبرز صوته، ومن ثم، يحرص على فهم معانيها جيداً كي يستطيع أن يحفظها ويشعر بمضمونها، دون أن يلقي بالاً لألوان الموسيقى التي تستهوي الشباب هذه الأيام كالراب والمهرجانات الشعبية وألوان الغناء الغربي.