منيرة المهدية.. مذكرات "سلطانة الطرب" من مقاومة الاحتلال إلى أم كلثوم

الفنانة منيرة المهدية
الفنانة منيرة المهدية
القاهرة -ميّ هشام

يحتفظ التاريخ بأكثر من لقب وحكاية للفنانة المصرية منيرة المهدية عن كونها "سلطانة الطرب" وغريمة كوكب الشرق أم كلثوم، وأول من غنى في الراديو، وأول مطرب عربية تسجل أغانيها على أسطوانات، وأول من أسس فرقة مسرحية باسمه، فضلاً عن كونها رائدة من رائدات المسرح الغنائي في مصر بمطلع عشرينيات القرن العشرين، إلى جانب حكايات عن اجتماعات الحكومة والوزراء التي كانت تتم في عوامتها الشهيرة على ضفاف النيل.

لهذا كانت وما زالت السيرة الذاتية لمنيرة المهدية تتمتع بجاذبية خاصة تمزج بين الفضول والإعجاب، وربما هذا ما دفع الكاتبة والروائية المصرية عزة كامل إلى العمل بشغف على كتابها "مذكرات منيرة المهدية"، الصادر حديثاً عن مؤسسة "أخبار اليوم" في مصر.

وتكشف عزة كامل لـ"الشرق" أن الصدفة هي من أطلقت شرارة البداية للعمل على هذا المشروع، فأثناء بحثها في الأرشيف عن فنانة أخرى، عثرت بالصدفة على قصاصات نادرة لمقتطفات من مذكرات الفنانة الراحلة "منيرة المهدية" في إحدى المجلات، تروي فيها "سلطانة الطرب" فصولاً من حياتها التي تقاطعت مع عدد من الأحداث التاريخية، من الحرب العالمية الأولى والاحتلال البريطاني لمصر وأحداث الثورة الشعبية في مصر عام 1919.

وبعد 7 أشهر من التحقيق والتدقيق والبحث في أرشيف الصحف والمجلات الرائجة في ذلك الوقت، وزيارات متعددة إلى سور الأزبكية بمنطقة العتبة في القاهرة، حيث تباع المجلات والكتب القديمة، وإلى دار الكتب والوثائق، خرجت عزة كامل بكتابها الجديد.

الكاتبة المصرية عزة كامل -Facebook/azzakamelact

"إنصاف تاريخي"

شملت المذكرات، التي نشرتها مجلة "البوليس" عام 1958، محطات من حياة منيرة المهدية، والتي امتدت لأكثر من 80 عاماً، منذ نشأتها في بلدة المهدية التابعة لمركز ههيا بمحافظة الشرقية، حيث ولدت باسم "زكية حسن منصور بهجت"، وعملها على المسرح وهي في الثامنة، وانطلاق حفلاتها وصولاً إلى تشكيلها لفرقتها الخاصة.

وعن كتابها الصادر حديثاً، تقول عزة كامل لـ"الشرق" إنها كانت في الأصل تبحث في الأرشيف عن مواد تخص الفنانة أسمهان، وحين كانت تقلب في الصحف القديمة استوقفتها صور منيرة المهدية على المسرح، ووجدت شخصية أخرى غير تلك التي يتصورها الناس الذين يعتقدون أنها كانت مجرد مطربة لأغان وصف بعضها بالخلاعة.

ويحتوي الكتاب على سيرة مفصّلة لمنيرة المهدية، أو زكية حسن منصور، خلال حياتها (1885 - 1965) إضافة إلى عدد ضخم من المواد الصحفية التي تناولت فنها وحياتها الشخصية في ذلك الوقت.

وينضم الكتاب إلى العديد من المؤلفات البحثية والأدبية لمؤلفته عزة كامل، مثل المجموعة القصصية "حرير التراب"، وكتاب "النساء في دساتير العالم"، ورواية "خطوط شائكة"، ورواية "أنا الشمس - السالك في البرية"، المنشورة عام 2021.

تقول كامل: "بعد رحلة البحث الطويلة في تاريخها، أدركت أن منيرة المهدية بحاجة إلى إنصاف تاريخي، بعيداً عن ارتباط اسمها بالدسائس والمؤامرات وكراهية الزملاء، وطقاطيق الخلاعة. كانت منيرة المهدية صورة مختلفة للمرأة التي أخرجت أعمالاً قوية في الأوبرا، وأول من غنى في الراديو، وأول من سجل على أسطوانات، أول من أسس فرقة مسرحية باسمها، كما كان بيتها (عوّامتها الشهيرة) مقراً لاجتماعات سياسية".

يذكر كتاب "مذكرات منير المهدية" أن سلطانة الطرب هي أول امرأة مصرية تتحدى الاحتكار الذكوري للتمثيل، ثم تصبح لاحقاً أول مخرجة لنسخة فرقتها المسرحية من مسرحية "تاييس" الغنائية، والتي تحكي قصة قديسة مصرية عاشت في الإسكندرية خلال القرن الرابع الميلادي.

وبحسب الكتاب، لم تتعطل مسيرة "سلطانة الطرب" التي تربعت شيئاً فشيئاً على القمة، بدءاً من أدائها أدوار الشيخ سلامة في مسرحياته الغنائية حينما كان مريضاً، مروراً بتأسيس فرقتها الخاصة، وتعاملها مع العديد من الأسماء اللامعة آنذاك مثل داوود حسني، وكامل الخلعي، وعزيز عيد، وبشارة واكيم، وسيد درويش، وبديع خيري، وفرح أنطون، وحتى موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، الذي أمن له مسرح المهدية بدايةً جيدة لفتت الأنظار إليه.

إعلان عن مسرحية "روميو وجولييت" يعلن أن منيرة المهدية نفسها ستقوم بدور البطل "روميو"- hindawi.org

"دور وطني"

عن الدور الوطني لمنيرة المهدية، يبرز الكتاب التأثير الذي لعبه كل من مقهى "نزهة النفوس" وعوامة "هواء الحرية"، اللذان كانت تملكهما "سلطانة الطرب"، في تجميع النخبة السياسية المصرية، ومقاومة الاحتلال الإنجليزي، منذ العقد الثاني للقرن الـ20، والذي فشل في إغلاق المقهى.

وخلال تلك الفترة، برزت أدوار وطنية عديدة لمهدية، فإلى جانب تحديها سلطات الاحتلال الإنجليزي بالتغني رمزاً باسم الزعيم سعد زغلول في طقطوقة "شال الحمام.. حط الحمام" حينما كان منفياً ومحظوراً الإشارة إليه، وفتحها أبواب عوامتها "هواء الحرية" على مصراعيها لرجال السياسة وذوي الشأن للتباحث في أمور مقاومة الاحتلال والثورة، بالتزامن مع حظر التجمعات.

وبحسب كامل، كانت العوامة الشهيرة لمنيرة المهدية "هواء الحرية" ملتقى رجال الحكومة المصرية وقتها، وغنت المهدية في تلك الفترة باقة من الأغنيات الوطنية، التي دعت فيها المصريات إلى النهوض الوطني، وأغنية "صابحة الزبدة بلدي الزبدة" والتي وجهتها للفلاحين المصريين لمقاطعة العملاء الإنجليز.

غلاف كتاب
غلاف كتاب "مذكرات منيرة المهدية"

ملامح عصر

وبخلاف تتبع سيرة منيرة المهدية، توفر جولة عزة كامل عبر قصاصات الصحف والمجلات الفنية نظرة معمقة على ملامح عصر فني غابر، ومفردات لم يُعد لها وجود، نتيجة لأن سيرة المهدية، بحسب المؤلفة، هي في جوهرها تأريخ لمرحلة مهمة من تاريخ مصر والفن المصري.

من أبرز المفردات التي يبرزها الكتاب، إطلاق اسم "جوقة" على الفرق المسرحية، فهناك جوقة عزيز عيد، وجوقة منيرة المهدية، وجوقة نجيب الريحاني وغيرهم.

منيرة المهدية في لقطة من فيلم "الغندورة" - Facebook/wws.arabic

ومن أغرب ملامح العصر أن الممثلات كن يؤدين أدوار الرجال في المسرح بملابس الرجال، كما عرفت المسارح أيضاً الفصل بين الجنسين في الصالات، وحفلات عائلية الطابع، وحفلات مخصصة للنساء، وأخرى للرجال.

تقول كامل: "كان الإنتاج المسرحي غزيرًا آنذاك، فكان من الممكن أن يشهد اليوم الواحد تأدية عدة عروض على خشبة واحدة، بالتأكيد كان بناء المسرحيات بسيطاً، كما أن الصحافة الفنية النقدية الحالية بكل علاتها ليست إلا امتداداً لممارسة الصحافة الفنية حينذاك، والتي لم تخل من تحيُزات واضحة لنجوم بعينهم على حساب آخرين".

إعلان لفيلم "الغندورة" - elcinema.com

قرار الاعتزال

في الفصل الأخير من المذكرات، تسرد المهدية قصتها في حلقات مسلسلة تعتلي كل حلقة منهم عناوين صحفية، يمر على مسيرة المطربة المعتزلة بخفة ويروي ظمأ عشاقها إلى بضعة نوادر مع المشاهير من رجال الفن والسياسة الذين تقاطعت معهم عبر حياتها الحافلة.

وكانت منيرة، وفقاً لمذكراتها، قررت الاعتزال والابتعاد عن الأضواء، إذ باعت مقهاها وعوامتها، ولجأت إلى حي مصر الجديدة الهادئ، وقطعت صلاتها بالجميع، بغية الاحتجاب، غير أن صحافياً بمجلة "البوليس" باغتها في عزلتها، وأقنعتها بكتابة مذكراتها عام 1958، قبل 7 أعوام من وفاتها.

الفنان عبد الحليم حافظ في حوار مع منيرة المهدية نشرته جريدة "الأخبار" المصرية

وفي تلك المذكرات، تروي المهدية بداياتها ومآسيها الأسرية، إذ أصبحت يتيمة الأبوين قبيل إتمام العاشرة، وآلت مسؤوليتها لإحدى أخواتها، التي ألحقتها بالمدرسة، لكن منيرة المهدية فضلت التهرب من المدرسة لصالح نزهات في الحقول تستمع فيها لأغنيات الفلاحات، فتحفظها عن ظهر قلب.

الاعتزال في قمة المجد كان خيار المهدية وفقًا لمذكراتها، التي صوّرت حياتها سلسلة من النجاحات فحسب، تخللتها بضع هفوات من جراء الحسد، الذي كانت تؤمن به إيمانًا عميقًا، كما اختارت أيضاً أن تسرد هوسها بتربية الحيوانات وتحويلها حديقة منزلها إلى حديقة حيوان مصغرة تسكنها الكلاب والقطط والأسود والثعابين والفهود.

وتعتبر عزة كامل أن المهدية مهدت الطريق لكل من تلاها من المطربات، اللاتي تعلمن من تجربتها إدارة علاقتهن بالصحافة والوسط الفني وأيضاً الحياة العامة، واستفدن من المساحة التي أفسحتها للمرأة للمشاركة في الفن عموماً، والمسرح الغنائي على وجه الخصوص.

أم كلثوم

ارتبط اسم "منيرة المهدية" بحكايات عن كونها غريمة أم كلثوم، التي حاولت عرقلتها في البداية لتُخلي لنفسها الساحة من خلال مساعي معارفها في الصحافة والوسط الفني.

ولكن عزة كامل تدعو في حديثها مع "الشرق" إلى "وضع كل الاعتبارات حين تتم المقارنة بين سلطانة الطرب وأم كلثوم من حيث ظهور الأولى قبل الأخيرة بـ20 عاماً، ووجود جوقة داعمة تقدم الإرشاد لكوكب الشرق، مثل الشاعر أحمد رامي والملحن الشيخ أبو العلا محمد، بينما بنت منيرة المهدية نفسها بنفسها، فكانت نجمة عصامية".

تصنيفات