افتتح الفنان التشكيلي المصري محمد عبلة، الثلاثاء، معرضه الجديد "زمن الصبار"، الذي يقام في "غاليري سفر خان" بالقاهرة، ويستمر حتى منتصف مارس المقبل، ويقدم فيه الفنان لوحات أنجزها خلال عام العزلة التي فرضتها جائحة كورونا.
لماذا الصبار؟
"الصبار كان موضوعاً مؤجلاً، لكنه تسرب إلىّ تدريجياً خلال فترة العزلة"، هكذا قال عبلة لـ"الشرق". وأضاف: "بدأت رسم حياتي اليومية، المرسم، والأدوات، الأحفاد يلهون، والكلب، الضوء والظلال داخل المرسم، واللوحات المعلقة على الجدران، كنت أريد أن أرسم شيئاً قريباً مني، في الوقت ذاته خطرت لي فكرة زراعة الحديقة الأمامية للمرسم، ففكرت بالصبار لأنه لا يحتاج الكثير من الاهتمام، وهكذا، بدأت بأبسط أنواع الصبار، واكتشفت أنه عالم مليء بالألوان والأشكال والمشاعر".
وتابع: "كانت فكرتي أن الصبار كله أخضر متشابه، لكن على الرغم من أنه ينتمي إلى فصيل واحد، إلا أنني وجدت بداخله اختلافات هائلة، تشبه البشر، وقريبة من تقلبات الحالة الإنسانية، فهناك صبارات تقبل الارتباط بأخرى، وأخرى لا تقبل، صبارات قاسية، وأخرى أشواكها مستترة قد تغشك وتجرحك، صبارات شديدة اللمعان، وأخرى تتمدد بشكل أفقي، وثالثة تقوم بشكل رأسي، وجدت أنه عالم مليء بالتفاصيل، جاء ذلك في وقت كنت أفكر فيه في رسم الناس، لكن الحالة انسحبت على الصبار، وصرت أتعامل معه كحالة إنسانية وكنت أشعر بأنه يقف أمامي لأرسمه، وأني أمام حضور إنساني ما".
أمل وسط الأشواك
يكشف عبلة، أنه مع الوقت تحرر تماماً من الصورة النمطية للصبار، وقانونه الخاص في النمو والحركة، ويقول: "في البدء كنت مستسلماً للحالة الطبيعية، ثم بدأت أخلط الأزهار مع الأشكال فشعرت بالألفة ونسيت الأشواك، ووجدت حالة من البهجة والأمل".
يتأمل عبلة، أزهاره الملونة وهي تجذب الفراشات والنحل والناس، ويقول: "استطاع الصبار أن يعبر عن مزيج البهجة والألم خلال فترة العزلة وانتشار الوباء، ولعبت العزلة دوراً كبيراً في تطوير فكرة المعرض، وتكنيكاته، وأسئلته، ففي حياتي لم أقضِ فترة طويلة في موضوع واحد، عام كامل ولا زلت مشغولاً بالصبار، الذى فتح في ذهني تساؤلات ورؤى، اخترت لأول مرة منذ سنوات طويلة أن أرسم بألوان الزيت".
الزيت لأول مرة
وجد عبلة فرصة ذهبية في استخدام الألوان الزيتية التي لم تكن من الألوان المفضلة لديه لأنها تحتاج إلى وقت لتجف، لكنه يعترف بأنها أعطته هذه المرة الفرصة للتعديل والتأمل، والعودة مراراً وتكراراً، يقول: "في العزلة اكتشفت أني لم أستخدم ألوان الزيت منذ نحو 20 سنة، شعرت أن لدي إصراراً هذه المرة على تجربة تكنيك جديد، اكتشفت أني صرت مثل البستاني، صاحب مزرعة صبار، وأخذت منها للمرة الأولى منذ وقت طويل الإحساس بالنغم، صرت أراقب بدقة هجوم الأشواك، والزهور التى تنبت من هذه الأشواك، هذا التنوع البصري بين الملمس الخشن والأزهار المبهجة، جعلني أشعر بالموسيقى، وكنت منذ وقت طويل توقفت عن سماع الموسيقى وأنا أعمل، كانت متعة أن أعيش مثل هذه التجربة التي يمتزج فيها التكنيك البطيء، والموسيقى وزراعة الصبار وصناعة المشهد نفسه منذ البدء، مراقبة الصبار ينمو ومعايشة هذه الرحلة، ربما دون أن أدرى هناك علاقة بزمن العزلة الإجبارية، وأزمة كورونا التى أوقفت الحياة بإيقاعها السريع، وأعطتنا فرصة أن نعود إلى الطبيعة وأن نعود إلى ذواتنا أكثر".
عطايا العزلة
وجد عبلة في انتشار وباء كورونا "عطايا" ربما لم يرها أحد غيره، ففيها جاءته فكرة الكتابة، واعتاد أن يشارك أصدقاءه عبر "فيسبوك" سلسلة من الحكايات حول بداياته الفنية، والشخصيات التي أثرت فيه، مذكرات فيها لمحات ساخرة أحياناً، ونقد لاذع لكثير من الفنانين الذين احتلوا مكانة مرموقة.
"من دون العزلة لم يكن هناك متسع من الوقت لأحكي أو أكتب هذه الشهادات، فالعزلة كان لها منح وعطايا مثلما آلمتنا"، يقول الفنان في سياق وصفه كيفية استفادته من العزلة، ويضيف: "أهم ما في العزلة على الإطلاق، هو أن يهدأ الإيقاع وأن أتأمل ما حولي، وأن أقرأ الكتب المؤجلة، أن أكتب عن الذين أثروا بي، وعن مواقف مررت بها، وأن أفكر في استخدام أدوات جديدة، أن أستخدم ألوان الزيت التي لم أرسم بها منذ أمد بعيد".
يعتزم عبلة، جمع الحكايات الأخيرة في كتاب، وقد قاربت 70 حلقة تناول فيها فترة ما قبل سفره إلى مدريد في نهاية السبعينات، واختار فيها أن ينتقد المشهد الفني بصراحة، من دون مواربة أو تجميل، يقول: "لم يعد هناك وقت للمهادنات، الصراحة ستكون مفيدة أكثر، حين أقول إن آدم حنين (فنان تشكيلى ونحات مصري 1929-2020) نزل بالباراشوت على النحت المصري، واستغل علاقته بفاروق حسني (وزير الثقافة الأسبق) لإرغام الشباب على اتباع طريقته". ويضيف: "هذا رأيي، كلام لا بد أن يقال، كتبته وهو على قيد الحياة، ولا يهمني أن أجمّل هذا الرأي، فأنا على العكس من الكثيرين، خارج المنظومة كلها، ولست معتمداً على أحد، هذا كلام لا بد أن يقال حتى يستفيد به الباحثون والمهتمون من بعدنا".
العودة إلى النحت
انشغل عبلة منذ 3 سنوات بإعادة اكتشاف النحت، ليقدم عشرات الأعمال التى يعرض بعضها على هامش المعرض. عن تلك التجربة المتجددة، يقول: "لست مثل النحاتين، أرسم اسكتشات ثم أحولها إلى منحوتات، لكني أشعر دائماً بأن تماثيلي مرسومة أصلاً في ذهني".
درس عبلة النحت في سويسرا، ولمرة وحيدة نحت تمثالاً كبيراً في أحد ميادين ألمانيا، لكنه هجر النحت قرابة 20 عاماً. وهو يشير اليوم إلى أنه عاد إلى النحت من وجهة نظر محددة. ويشير إلى أن "النحت لا بد أن يكون بسيطاً، أمارسه على طريقة الإنسان البدائي، بأبسط التكنيكات والأدوات، وأنجزه بأبسط طريقة ممكنة، مجرد تخطيط على الأرض يتحول إلى تمثال".
هذه المدة القليلة نسبياً بعد العودة للنحت، أنتجت عشرات الأعمال، من البرونز، يستعد عبلة لإقامة معرض لها، الشهر المقبل. ويكشف الفنان أنه اختار البرونز لأنه لا يحب الوسائط المعقدة: "حين يكون هناك أكثر من وسيط أو مرحلة بين الفكرة والعمل الفني النهائي، تفقد الفكرة جزءاً كبيراً من حيويتها، أنا أريد أن تصل الفكرة والإحساس في صورته الأولى".
من هذا المنطلق، يكره عبلة شعف معظم النحاتين المصريين المعاصرين باعتماد الحجر، والمواد صعبة التشكيل، والتماثيل التى يستغرق إنجازها أسابيع أو أشهر، يقول: "للأسف معظم النحاتين المصريين تحولوا إلى نحاسين، يقومون بتلميع تمثال الغرانيت أو النحاس، من دون أن يعطوا فرصة للمادة لتتكلم عن نفسها".
طريقة عبلة في العمل أنه يفكر كثيراً قبل أن يبدأ العمل الفني، وهو ينهي لوحاته أو منحوتاته خلال جلسة واحدة: "لا أعمل إلا وأنا في الذروة، فأنا مهموم بالزمن، والفن بالنسبة لي ليس الإتقان، ممكن أن يأتي بعدنا ناس تواصل العمل على ما بدأناه وأن تصل به إلى مرحلة الإتقان، لكن الفنان مطلوب منه الفكرة ونقل الحالة، أن ينفعل وأن يعبر عن زمنه وليس عن القادم أو الماضي".
أول متحف للكاريكاتير
محمد عبلة، المولود في عام 1953، فنان غزير الإنتاج، عرضت لوحاته في عشرات المحافل الدولية والمحلية، بعد تخرجه في كلية الفنون والجميلة جامعة الأسكندرية في عام 1977. التحق بكلية الفنون والصناعات بمدينة زيورخ السويسرية في عام 1981، وعمل مديراً لقاعة الفنون التشكيلية بدار الأوبرا المصرية لأشهر عدة، ثم أستاذاً زائراً للفنون في مدرسة أوربرو السويد، وعرضت لوحاته في ألمانيا وإيطاليا وهولندا والسويد، لكن مشاركته الأهم في الحياة الثقافية المصرية كانت بتأسيسه مركز الفيوم للفنون في عام 2005، ثم أول متحف للكاريكاتير في 2009، بقرية تونس النائية غرب مدينة الفيوم، لتتحول القرية بمشاركة عدد من الفنانين الآخرين إلى وجهة لكل المهتمين بالفن.