بعد قرنين من الاكتشافات الأثرية.. المصريون خارج روايات تاريخهم

التابوت الذهبي لتوت عنخ آمون الذي حكم مصر بين (1342 – 1325 قبل الميلاد) في معمل الترميم بالمتحف المصري الكبير – الجيزة  - AFP
التابوت الذهبي لتوت عنخ آمون الذي حكم مصر بين (1342 – 1325 قبل الميلاد) في معمل الترميم بالمتحف المصري الكبير – الجيزة - AFP
القاهرة- أ ف ب

تجسّد الصورة التاريخية للبريطاني هوارد كارتر وهو يتفقد تابوت توت عتخ آمون بينما يقف مصري في الظل قربه، والعائدة إلى مطلع القرن العشرين، مئتي عام من علم المصريات.

وفيما يحتفل العالم بمرور قرنين على اكتشاف حجر رشيد على يد الفرنسي جان فرانسوا شامبوليون، ومئة عام على الكشف عن مقبرة الملك الطفل توت عنخ آمون، ترتفع أصوات للمطالبة بخروج مساهمات المصريين في هذه الإنجازات إلى العلن.

وتعكس المطالب رغبة المصريين في استعادة تراث بلدهم واسترجاع كنوز من آثارهم يعتبرون أن الغرب "سرقها".

وتقول أستاذة المصريات في "جامعة دورهام" البريطانية كريستينا ريجز إن علم المصريات الذي نشأ في الحقبة الاستعمارية "خلق تفاوتات هيكلية" ما تزال "أصداؤها موجودة حتى اليوم".

ويؤكد رئيس بعثة التنقيب المصرية في القرنة (جنوب) عبد الحميد درملي أن المصريين "تحمّلوا عبء الشغل (العمل) كلّه، لم يكن هناك أجنبي يعمل بيده".

وتابع: "بدوننا (المصريين)، لما حصلت اكتشافات. العامل المصري الذي نقّب له اسم كان ينبغي كتابته، ولكنه نسي على الفور".

في الاتجاه نفسه، تقول الباحثة المتخصصة في التراث المصري هبة عبد الجواد: "كأن أحداً لم يحاول فهم مصر القديمة" قبل شامبوليون في العام 1822.

العرش المذهب للمملكة المصرية الحديثة فرعون توت عنخ آمون (1334-1325 قبل الميلاد) ، عثر عليه عام 1922 في مقبره بالأقصر ومعروض بالمتحف المصري بالعاصمة القاهرة - AFP
العرش المذهب للملك المصري توت عنخ آمون (1334-1325 قبل الميلاد) ، عثر عليه عام 1922 في مقبرة بالأقصر ومعروض بالمتحف المصري - القاهرة - AFP

مجهولون

وتوضح ريجز أن المصري الواقف في الظل إلى جوار كارتر في الصورة الشهيرة قد يكون "حسين أبو عوض أو حسين أحمد سعيد"، وهما رجلان كانا لعقود من أعمدة فريق كارتر، إلى جانب أحمد جريجر وجاد حسن.

لكنها تضيف أنه لا يمكن لأي خبير أن يتعرف اليوم على الأشخاص الموجودين في الصور.

وتقول أستاذة التاريخ: "قبع المصريون في الظل مجهولين وغير مرئيين في رواية تاريخهم"، اسم واحد فقط ظهر، هو اسم عائلة عبد الرسول.

في البداية، تم تداول اسم حسين عبد الرسول الذي يُعتقد أنه اكتشف بالصدفة، بينما كان لا يزال طفلاً، مقبرة توت عنخ آمون على الضفة الغربية لنهر النيل في الرابع من نوفمبر 1922 داخل مقبرة أصبحت اليوم الأقصر، في منطقة القرنة.

وتتعدّد الروايات حول هذا الاكتشاف: تعثّرت قدماه فوقها أو تعثّرت معزته عندها أو انقلبت منه قلة (إناء من الفخار كان يستخدم لتبريد المياه) فكشفت الماء عن وجود حجر.

وبحسب الرواية المحلية، اكتشف اثنين من أجداده أحمد ومحمد في العام 1871، المومياوات الخمسين التي عثر عليها في الدير البحري ومن بينها مومياء رمسيس الثاني.

والتقت وكالة "فرانس برس" حفيد أحد أقرباء حسين عبد الرسول ويدعي سيد، وقد انفجر ضاحكاً عندما سمع هذه الروايات. وقال مازحاً: "أقوى اثنتين عندنا ينبغي تسليط الضوء عليهما هما المعزة والقلة"، ثم تساءل "هل هذا منطقي؟".

واعتبر أن المشكلة تكمن في أن "أناساً آخرين كتبوا (التاريخ)، ونحن لم نكتب".

وتشير كريستينا ريجز إلى أنه في كل مرة نُسب فيها اكتشاف إلى المصريين، كان الفضل يعود إما إلى "أطفال أو لصوص مقابر"، إن لم تكن "حيواناتهم".

أما هبة عبد الجواد فتشير الى أن "علم الحفائر وعلم الآثار في الأساس يقومان على علم الجغرافيا، وخصوصاً معرفة طبقات الأرض المختلفة التي يمكن من خلالها تحليل ما إذا كان هناك شيء أم لا، وهذا ما يعرفه الفلاح المصري كونه يحتك بشكل يومي مع التربة والأرض في الزراعة".

لهذا انتقلت عمليات التنقيب من جيل إلى جيل في القرنة حيث يعيش آل عبد الرسول، وإلى قفط في شمال الأقصر التي تم تدريب سكانها على البحث عن الآثار في العام 1880 على يد البريطاني وليام فلندرز بيتري.

وكان الجدّ الأكبر لمصطفى عبده صادق من بين هؤلاء في مطلع القرن العشرين. استقرّ الرجل على بعد 600 كيلومتر شمال قفط للتنقيب في جبانة سقارة بالقرب من أهرامات الجيزة.

وساعد مع أولاده وأحفاده على مدى قرن من الزمن في الكشف عن عشرات المقابر، بحسب ما روى لـ"فرانس برس" الحفيد، وهو نفسه عالم آثار معروف.

وقال إن أسرته لم تأخذ حقها، رافعاً صور أجداده الذين لا يظهر اسم أي منهم في كتب التاريخ اليوم.

صورة التقطت في 8 فبراير 1967 أعضاء متحف القصر الصغير يكشفون قناع الدفن للفرعون المصري القديم توت عنخ آمون  - AFP
صورة التقطت في 8 فبراير 1967 لأعضاء متحف القصر الصغير وهم يكشفون عن قناع الدفن للفرعون المصري القديم توت عنخ آمون - باريس -  AFP

أبناء توت عنخ آمون

وترى عميدة كلية الآثار في أسوان مونيكا حنا أنه "تم تجاهل المصريين في كتابة تاريخهم بسبب الاستعمار الثقافي لمصر منذ 200 سنة".

وتقول المحاضرة في معهد الآثار الشرقية في القاهرة فاطمة كشك، إنه ينبغي أن نأخذ في الاعتبار "السياق التاريخي لمصر خلال الاستعمار" البريطاني.

في مطلع القرن العشرين، وعلى خلفية الروح الوطنية المتصاعدة، أصبح التراث الفرعوني أداة لتقوية الحس الوطني. وتحولت الحرب الثقافية إلى معركة سياسية.

في العام 1922 الذي شهد اكتشاف مقبرة الملك الطفل في وادي الملوك، غنّت المطربة الأشهر آنذاك منيرة المهدية "إحنا ولاد توت عنخ آمون".

في العام نفسه، وبعد حملات متكررة نددت بهيمنة الأجانب على التراث الوطني، تمكنت القاهرة من وضع حد لنظام التقسيم الذي كان سارياً خلال الحقبة الاستعمارية، ويقضي بأن يحصل الغربيون على نصف ما يتم اكتشافه من آثار مقابل تمويلهم عمليات التنقيب.

غير أن مصر القديمة فُصِلت نتيجة ذلك عن مصر الحديثة، وبات يُنظر إلى "الحضارة المصرية القديمة على أنها حضارة ملك العالم بأسره، ولكن هذا العالم كان متمركزاً في الغرب"، بحسب ما تقول هبة عبد الجواد.

وبقي توت عنخ آمون في مصر، ولكن "أرشيف عملية التنقيب" الضروري لأي نشر أكاديمي وعلمي ذهب إلى كارتر واعتبر من مقتنياته الخاصة، وفق حنا.

وأضافت: "كنا لا نزال مستعمَرين، ولذلك تركوا لنا القطع، ولكن أخذوا منّا القدرة على إنتاج المعرفة عن مقبرة توت عنخ آمون".

وعندما قررت ابنة شقيق هوارد كارتر أن تتبرّع بهذا الأرشيف بعد وفاته في العام 1939، اختارت أن تهبه لـ"جامعة أكسفورد" وليس إلى مصر.

وتنظم "جامعة أكسفورد" في الوقت الراهن معرضاً باسم "توت عنخ آمون: تنقيب في الأرشيف" لكي تلقي الضوء على "المصريين المنسيين غالباً من الفرق الأثرية".

مومياء في البيت

في القرنة، يتذكر أحمد عبد الراضي (73 عاماً) أنه عثر عندما كان طفلاً على رأس مومياء قرب أساسات المنزل الذي كبر فيه والذي شُيّد فوق واحدة من مقابر جبانة طيبة حيث كبر.

ويقول إن أمه انفجرت باكية وهي تتوسل إليه أن يعامل "هذه الملكة" باحترام. ولكنها كانت في الوقت ذاته، بحسب عبد الراضي، تخزّن البصل والثوم في تابوت من الجرانيت.

اليوم، لا توجد في قرية القرنة إلا الأنقاض التي تنتصب بينها، بين المقابر والمعابد، أعمدة ممنون التي بنيت قبل 3400 عام، وكأنها تسهر على رعاية الأحياء والموتى.

في العام 1998، بدأت جرافات تابعة للحكومة بتدمير المنازل الصغيرة المشيدة بالطين والحجر والتي تأوي 10 آلاف من سكان القرنة وتوجد أسفلها مقابر يعود معظمها إلى الحقبة ما بين العامين 1200 و1500 قبل الميلاد.

وفي اشتباكات مع الشرطة، سقط أربعة من السكان الذين رفضوا إخلاء منازلهم. ودافع وزير الآثار آنذاك زاهي حواس عن قرار إزالة المنازل قائلاً "كان ينبغي القيام بذلك للحفاظ على التراث".

ووفق مونيكا حنا، أرادت السلطات إجلاء "الناس لتجعل من الأقصر متحفاً مفتوحاً، فيأتي السائح ويرى الآثار كما كانت منذ مئات السنين".

 مومياء الملك توت عنخ آمون المغلفة بالكتان معروضة في صندوقه الزجاجي المتحكم في المناخ في مقبره تحت الأرض  جنوب مدينة الأقصر - AFP
مومياء الملك توت عنخ آمون المغلفة بالكتان معروضة في صندوق زجاجي يتحكم في المناخ في مقبرة تحت الأرض جنوب مدينة الأقصر - AFP

غنيمة حرب

على مدى قرون، خرجت أعداداً لا تحصى من الآثار من مصر، بعضها، مثل مسلة الأقصر في باريس أو معبد ديبود في مدريد، منحتها الحكومة المصرية هدايا لدول صديقة.

ولكن قطعاً أخرى أرسلت إلى المتاحف الأوروبية في إطار نظام التقاسم الاستعماري، وذهبت مئات الآلاف من القطع إلى "مقتنيات خاصة في جميع أنحاء العالم"، وفق هبة عبد الجواد.

ويريد زاهي حواس أن يطلق حملة في أكتوبر من أجل استعادة حجر رشيد، وتمثال نفرتيتي، وزودياك دندرة، وهي ثلاث قطع تثير جدلاً منذ سنوات.

ويعرض حجر رشيد الذي حفرت عليه في العام 196 قبل ميلاد المسيح كلمات باللغات اليونانية القديمة والمصرية القديمة والهيروغليفية، في المتحف البريطاني في لندن ومكتوب إلى جواره "أخذه الجيش البريطاني من مصر في العام 1801".

وقال متحدث باسم الجيش البريطاني لـ"فرانس برس" إن الحجر "هدية دبلوماسية"، ولكن هبة عبد الجواد تقول إنه "غنيمة حرب".

أما تمثال نفرتيتي فحط في متحف في برلين (Neues Museum) بموجب نظام التقاسم الاستعماري، وفق السلطات الألمانية.

ويؤكد حواس أن رأس نفرتيتي التي رسمت في العام 1340 قبل الميلاد وجلبها علماء آثار ألمان في العام 1912 "خرجت من مصر بشكل غير مشروع".

أما زودياك دندرة فوصل إلى باريس عام 1820 عندما أرسل عمدة المدينة سيباستيان لوي سولنييه فريقاً لنزعه بالمتفجرات من أحد المعابد في جنوب مصر.

الزودياك البالغ طوله 2.5 متر وكذلك عرضه، معلّق في أحد أسقف متحف اللوفر منذ العام 1922، في حين توجد منه نسحة من الجص في دندرة.

وتعتبر مونيكا حنا أن نقل الزودياك إلى اللوفر "جريمة". وتضيف: "ما كان مقبولاً آنذاك" لم يعد كذلك "بالموازين الأخلاقية للقرن الحادي والعشرين".

اقرأ أيضاً:

تصنيفات