لم يُنه المفكّر والناقد الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد كتابه "الأسلوب المتأخّر" موسيقى وأدب عكس التيّار، الذي كان يعمل عليه قبيل رحيله عن عمرٍ يناهز 67 عاماً في نيويورك، منفاه ومقرّ إقامته، في 25 سبتمبر 2003، بعد صراعٍ مع المرض.
هذا العمل النقدي المهمّ، الذي نُشر بعد سنواتٍ على رحيله، يمثّل بحسب النقّاد المختصّين "وصيّته الفكرية والثقافية"، أو بالأحرى "خطبة الوداع" التي حاول فيها أن يلتقط تجارب ناضجة بل "متأخّرة" لأدباء وموسيقيين عالَميين، تمرّدوا على نتاجهم التقليدي، وجدّدوا أساليبهم في الفنّ والأدب بصورةٍ فاقت التوقّعات، وهم في أعمارٍ متأخّرة.
إدوارد سعيد أحد روّاد دراسات ما بعد الاستعمار، رحل وهو يعمل على ثلاثة مؤلّفات هي: "الأنسنية والنقد الديمقراطي"، "من أوسلو إلى العراق وخريطة الطريق"، و"الأسلوب المتأخّر"، الذي لا يقلّ أهمّيةً عن "الاستشراق" و "خارج المكان"، الذي حمل سرديةً ذاتية، أسهب فيها بالحديث عن المنفى، واصفاً إيّاه بـ"تجربة لا إرادية عسيرة، لا يجوز إضفاء صفة رومنطيقية أو جمالية عليها".
"التأخّر" فلسفياً
ناقش سعيد ظاهرة "التأخّر" بعمقٍ فلسفي، وبتقديرٍ كبير للكُتاب والمؤلّفين الموسيقيين الذين تناولهم، وعكست تجاربهم المتأخّرة "روح تصالحٍ وهناءة"على حدّ تعبيره
سأل سعيد: "هل يزداد المرء حكمةً مع العمر؟ وهل ثمّة مؤهّلات فريدة في الرؤيا والشكل يكتسبها الفنّانون بسبب العمر أيضاً؟
طاقة متجدّدة
استحوذت أعمال بيتهوفن المتأخّرة على اهتمام سعيد، إذ رأى فيها قوّةً حقيقية للموسيقى الجديدة "تستخلص بشجاعة ما يترتّب على مؤلّفات بيتهوفن في أسلوبه المتأخّر".
وتناول كمثال أيضاً أعمال الأديب الإنجليزي شكسبير، الذي أسبغ في مسرحياتٍ متأخّرة مثل "العاصفة" و"حكاية شتوية" حِكَماً لافتة. وفي مسرحية "أوديب في كولونوس" لسوفوكليس، جرى تصوير البطل الهرم "وقد بلغ أخيراً قداسة لافتة وشعوراً بالثبات".
كما أنتج جوزيبي فردي عملان أوبّراليان "يعبّران عن طاقةٍ متجدّدة، تكاد تكون شبابية وتعكس إبداعاً وقوّة"، إلى جانب سير حياة آخرين سعوا نحو الجمال والكمال مثل رامبرانت، وفاغنر، وباخ..
أدورنو وفلسفته
تأثّر سعيد بآراء تيودور أدورونو، فيلسوف الجمال وعالِم الاجتماع والنفس والموسيقي الألماني، الذي أعطى هذه الظاهرة معنى كثيفاً وعميقاً. فقد اعتبر أن "فكرة التأخّر هي أن تبقى على قيد الحياة متجاوزاً المقبول والعادي"، والتأخّر برأيه "يتضمّن فكرةً تقول إن المرء لا يستطيع أن يتجاوز التأخّر قطّ"..
وعلى الرغم من تماهي الرَجُلين، يبقى سعيد مديناً لأدورونو ويعترف له بذلك، وإن اختلف معه بشكلٍ حاسمٍ في بعض التوجّهات.
المجتمع من منظور الأدب
الكاتب والناقد الدكتور فواز طرابلسي الذي تولّى ترجمة "الأسلوب المتأخّر" وسيرة سعيد "خارج المكان و"الأنسنية والنقد الديمقراطي"، أكّد في حديثٍ لـ "الشرق"، أن أهمّية "الأسلوب المتأخّر" تكمن في كونه "يمثّل مرحلةً متأخّرة من فكر سعيد، والمعبّر فيها، أن من كتبها هو ناقد فنّي - ودراسات النقد الفنّي نادرة أصلاً باللغة العربية_ وقد كان في أواخر أيامه، وعالج فيها الأساليب الناضجة لعددٍ من الأدباء والموسيقيين، والتقط الفترة الأخيرة من حياتهم، واختار مجموعةً ممّن بقوا على حالٍ من الاحتجاج والإبداع حتى سنّ متقدّمة".
أضاف: "كان سعيد مهموماً بنقد الموسيقى، وقراءة الحقبات التاريخية من خلال الأدب، علماً أنه لا يُعترف له بهذا النوع من الدراسات لأن "الاستشراق" أكله بالمعنى المجازي، لكنه من أوائل النُقّاد الذي جعلنا نقرأ المجتمع من خلال الأدب، ودعانا إلى قراءة الفعل الكولونيالي من خلال الروايات الإنجليزية".
الراهنية الكبرى
الكاتب والناقد الأدبي فيصل درّاج، تحدّث لـ "الشرق" عن الراهنية الكبرى في فكر إدوارد سعيد، فقد "ناضل من أجل الحرية والثقافة الجديدة وقضايا التحرّر والمرأة وغيرها، وكان مصيباً في آرائه، ولا يزال كلّ ما قاله صحيحاً ومفيداً ومعبّراً حتى يومنا هذا".
واعتبر أن "اسم سعيد له بُعدان: فهو مثقّف عالَمي، وأستاذ وأكاديمي لامع، وباحث عالي الصوت في مجالات الأدب، لقد كان يميل إلى مفهوم النقد الثقافي وليس النقد الأدبي، لأنه كان يعتقد أن الثقافة هي طُرق حياة المجتمعات، تتجاوز كثيراً النصوص والنقد الأدبي.
"يتدخّل" في ما لا يعنيه
يضيف درّاج "بهذا المعنى كان مثقّفاً "يتدخّل" في ما لا يعنيه، كارهاً لكلّ أشكال الاختصاص، وكان يفضّل مفهوم المثقّف الهاوي، الذي يسير بين أنواعٍ عدّة من المعارف. وبهذا المعنى كان متمرّداً وداعياً لتحرّر البشر جميعاً، بمن فيهم الفلسطينيين واليهود وغيرهم".
ورأى "أن الراهنية في فكر سعيد "تحمل ثلاثة أبعاد هي، الاستشراق الذي ندّد فيه بالمراجع الغربية، وردّ على اختراع الغرب لإسلام لا علاقة له بالإسلام الحقيقي، ومواجهة السلطة بالحقّ، وهي من مفاهيم سعيد الأساسية، ومفهوم المثقّف ودوره".
أضاف "رأى سعيد أن المثقّفين لهم موقع القداسة، ليس بوصفهم أنبياء، وإنما أراد من خلال هذا الوصف أن يُحمّلهم مسؤولية كبرى، وينبّههم إلى دورهم الأخلاقي والوطني تجاه القضايا العربية عموماً، والقضية الفلسطينة بشكلٍ خاصّ".
تمرّد النهايات
الكاتب والناقد فخري صالح قال "أحبّ أن أترجم On Late Style بـ"الأسلوب الأخير"، لما في كلمة المتأخّر في العربية من دلالاتٍ سلبية". لافتاً إلى أن سعيد "يرتكز في تنظيره للأسلوب الأخير على تنظيراتٍ سابقة للفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو حول المفهوم نفسه، وخصوصاً ما كتبه عن الموسيقي الشهير بيتهوفن.
أضاف في تصريحٍ لـ "الشرق"، "إذا كان أدورنو يعرّف الأسلوب الأخير بأنه ارتداد الموسيقي أو الكاتب في نهايات تجربته أو عمره إلى شيءٍ من التقليدية أو الركون إلى الأساليب العتيقة، فإن سعيد يقلب المفهوم رأساً على عقب، ويرى أن العكس هو ما قد يحصل في تجارب النهايات، إذ قد يتمرّد الكاتب على نفسه، وينتفض على أسلوبه بطرقٍ غير متوقّعة".
مراجعة المعاني
مايكل وود أستاذ جامعة برنستون في نيوجرسي وصديق سعيد الذي أعاد جمع الكتاب، يقول في مقدّمته، "تجدر مراجعة المعاني المتغيّرة بدقّة لكلمة "متأخّر"، وهي تتراوح بين مواعيد أخلفناها، أو انقضاء الحياة، وربما الأكثر شيوعاً هو فوات الأوان، أو لم يحدث في موعده.. إن التأخّر لا يسمّي علاقة واحدة بالزمن، لكنه يصطحب الزمن دائماً برفقته، إنّه طريقة في تذكّر الزمن، أكنا نفتقده أو نلتقيه أو نضيّعه".
انشغل سعيد بحقولٍ فلسفية وفكرية وسياسية عدّة، ورأى إلى المعرفة من وجهة نظر الحقّ و"الحقيقة"، وأعطى النقد الأدبي والفنّي جلّ وقته، وخصوصاً موضوع "الأسلوب المتأخّر"، بحسب مريم سعيد زوجته، "فقد اهتمّ بهذه الظاهرة وكرّس لها الوقت منذ الثمانينيات، وكتب مقالاتٍ عدّة عن الأعمال المتأخّرة لبعض الكُتّاب والمؤلّفين الموسيقيين، وألقى سلسلة من المحاضرات عن الأسلوب المتأخّر في الجامعات الأميركية".
"ديوان أوركسترا شرق غرب"
اهتمّ سعيد بالعزف والموسقى، وقد كان عازفاً متمرّساً على البيانو، ووصف "الموسيقى بأنها منفى اللغة، بل إن الموسيقى تحمل فائض معنى يستحيل ترجمته".
لقد كرّس اهتمامه هذا بإطلاق مشروع ثقافي فنّي عُرف بـ "ديوان أوركسترا شرق غرب"، أسّسه مع دانيال بارنباوم في العام 1999. وفي فلسطين تأسّس معهد إدوار سعيد الوطني للموسيقى، "بهدف إيصال ثقافة موسيقية مبدعة وحيوية إلى كلّ بيت فلسطيني".
نوعية الوقت
بعد وفاة والدته التي مثّلت له الكثير، اكتشف سعيد إصابته بسرطان الدم في العام 1991. وقد غيّر هذان الحدثان من نوعية الوقت لديه، وهو الذي قال"لا أعتقد أنّي كنت خائفاً في وقتٍ ما من الموت، لكن سرعان ما أدركت أن الوقت المُتاح لي قصير".
في العام 1994 بدأ بكتابة سيرته الذاتية، "خارج المكان"، ونشرها بعد 5 سنوات في العام 1999.
شخصية متأخّرة
لم يكن سعيد شخصيةً متأخّرة أبداً، بل عُرف عنه أسبقيته في طرح موضوعات الاستشراق والمنفى والآخر وغيرها، وإن قيل الكثير عن عدم أسبقيته إلى طرح الاستشراق، "فقد تناول هذا الموضوع قبله بعقود المفكّر اللبناني عمر فاخوري في كتابه "آراء غربية في مسائل شرقية" (1925)، طارحاً الإشكالية نفسها مع الغرب الكولنيالي.
كما طرح المفكّر الفلسطيني عبد الطيف الطيباوي (1910- 1981) القضية نفسها، وقد علّق سعيد مثنياً على هذه "التماهيات"، معتبراً أنها "تشكّل له دافعاً للاطّلاع على ما كتبه آخرون في هذا المجال". من مقالة أحمد فرحات "مع إدوار سعيد على شاطىء خورفكان" (يونيو 2014).
تجدر الإشارة إلى أن زيارة سعيد لخورفكان جاءت على هامش تسلّمه جائزة العويس الثقافية، في حقل الإنجاز الثقافي والعلمي (1997-1996)، وهي الجائزة التي فاز بها الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، والشاعر نزار قباني.
3 مراحل تلخّص فكره
في هذا السياق يعتبر طرابلسي "أن فكر سعيد يُنظر له بصورةٍ شاملة من خلال 3 مراحل:
نقد الاستشراق أوّلاً، والثقافة والإمبرالية التي لم يعد فيها لا شرق ولا غرب بل حركات تحرر ثانياً، والنزعة الإنسانية التي يعبّر عنها عندما ينتقل من نقد الاستشراق إلى نقد الإمبريالية ونقد حركات التحرّر، ويخلص إلى رؤية إنسانية أخيراً".
يقول طرابلسي إن "همّ سعيد الأساسي كان التنبيه إلى أمرَين: أن الفكر الذي يدخل في الأكاديميا من خلال الاستشراق، هو فكر يُسهّل الانقياد، وأن بعض دراسات الاستشراق تخدم الاستعمار وأهدافه".
واعتبر أن "الردّ على هذا النمط من الخبرة المدّعية بالمنطقة، من قِبل الذين يعرضون أمور الشرق لجمهور غربي بأساليب ملوّثة بالفتنة الاستعمارية، هو دعوة الشرقيين كي لا يروا أنفسهم من خلال هذا المنظور، بل ينتجوا معارفهم عن أنفسهم. وخلاصة ما أراد قوله سعيد إن الجواب عن الاستشراق ليس الاستغراب".
وعن علاقته الشخصية بالراحل، يقول طرابلسي "إدوارد سعيد مثقّف عربي رغم أنه عاش وأنتج في أميركا، هو ناقد أدبي وفنّي، من أبرز خصائصه الدأب، الحساسية، الموهبة، فضلاً عن علاقته مع طلّابه، فهو أنتج أجيالاً من الطلاب على مدى عقود، وخصوصاً في مجال الدراسات الأدبية والأدب المقارن".
تحوّل في الخطاب
بدوره يؤكّد فخري صالح أننا "نواجه تحوّلاً في خطاب الاستشراق. فإذا كان وصف "المستشرق" في السابق ينطبق على العارفين بلغات الشرق وآدابه وآثاره، والرحالة والأدباء الذين كتبوا عنه أو تخيَّلوه، فإن وصف "المستشرق" بدأ يصحّ إطلاقه على أشخاص يعملون في حقولٍ أخرى لا تتّصل بالشرق وعوالمه ولغاته وثقافاته، بل إنهم قد يكونون علماء سياسة (مثل صمويل هنتنغتون)، وعلماء اجتماع، وصحفيين، لا يعرفون شيئاً من لغات الشرق وثقافاته".
أضاف: "نحن نشهد تشكُّل صيغة من صيغ الاستشراق المعاصر الذي يعتاش على فرضيَات الاستشراق القديم، وصوره النمطية، وتمثيلاته للشرق، وعلاقته بالإمبراطورية. لكنه، في الوقت نفسه، لا يتغطَى بالمعرفة والدور الحضاري، بل يُسفر عن دوافعه الأيديولوجية ووضعه هذه التصورات في خدمة الغرب عموماً".
الإنسانوية: خريطة طريق
الإنسانوية التي توّج بها سعيد مسيرته أراد منها "توسيع مجالات النضال الممكنة، والاستعاضة عن فورات الغضب الجامح التي تأسرنا، بفكر ٍوتحليل أكثر عمقاً”. كما جاء في مقاله الأخير الذي كتبه قبل أيامٍ من رحيله ونشرته مجلّة "لوموند ديبلوماتيك" تحت عنوان "الإنسانوية، السور الأخير في وجه البربرية".
وقال سعيد "أسميت ما حاولت القيام به الإنسانوية، وهي الكلمة التي ما زلت مصرّاً على استخدامها على الرغم من رفضها بازدراء من قِبل نقّاد ما بعد الحداثة. إن الإنسانويّة تغتذي من المبادرة الفردية، ومن الحدس الشخصي وليس من الأفكار المتلقّاة، ومن احترام السلطة. إنها متراسنا الوحيد إن لم أقل الأخير، في مواجهة السياسات اللاإنسانية التي تمسخ تاريخ البشرية".