الشاعر العراقي علي البزاز لـ"الشرق": المادّة الشعرية كثيفة الأحلام

الشاعر العراقي الهولندي علي البزاز أمام معرضه الفنّي في أمستردام - الشرق
الشاعر العراقي الهولندي علي البزاز أمام معرضه الفنّي في أمستردام - الشرق
دبي-ثناء عطوي

الزخم اللغوي في قصائد الشاعر العراقي-الهولندي علي البزاز، يجعلها تبدو في حالة اصطدامٍ مع الواقع، ومع المفاهيم وأساليب الكتابة التقليدية، لكنها تحمل خلفيةً أقرب إلى الباحث في عزلته كغريب، وفي المنافي وتناقضاتها، وفي ذاته المرتبكة أمام ذاته الأخرى.

يكتب البزاز بالعربية والهولندية، ومؤلّفاته الشعرية فاقت العشرة كتب، "بعضه سيدوم كالبلدان"، الذي يضمّ 4 مجموعات شعرية، كان مفتتح إنتاجه الشعري في العام 2008، وقبل ذلك، كان قد أصدر  4 كتبٍ أخرى بالهولندية، قَرَأت بعضاً منها رئيسة البرلمان الهولندي أمام الطلبة الأجانب، وضُمّت الكثير من أشعاره إلى أنطولوجيات الشعر الهولندي.

عن مسيرته بين اللغات، وعن الكتابة والرسم، وعن كتبه الأخيرة "لا تعبر الفجر هامشياً"، "كالزحف كالنذير مهرّج في شكواي"، "لبعض السفر أحتاجك"، تحدّث علي البزاز إلى "الشرق":

 

غلاف كتاب
غلاف كتاب "لا تعبُر الفجر هامشياً" - الشرق

 الكتابة باللغتين

تكتب قصائدك باللغتين الهولندية والعربية، هل الكتابة الشعرية بلغتين، واحدة  بلغة الأمّ وأخرى "غريبة" هي بنفس السيولة والسهولة؟ 

* تعني الكتابة ذلك العمل في الورش التقليدية الكبرى، مثل ورشة الحِدادة، ورشة الإعمار، ورشة العجين والخبز.. ومن هنا، ينبغي النظر إلى السهولة أو الصعوبة، إذ لكلّ ورشة نظامها وعملها، وينبغي على الكاتب المُشتغل في تلك الورش تطوير عمله وآليات اتصاله بالوجود، وأن يبقى دائماً متابعاً له، في علاقةٍ وتدريب، أيّ يبقى، كالعامل في مهنته، كاتب ورشة البناء، وكاتب ورشة الحِدادة .. إلخ. 

يقول المِعماري العراقي رفعة الجادرجي :"العِمارة مهنة، وليست حرفة، والفنّ ما يميّزها". الكاتب موظّف لدى الكتابة، أي عامل – فنّان، وأنا شخصياً موظّف لدى القراءة والكتابة، أشتغلُ كعامِلٍ لديهما.

هناك مسألة مهمّة، وهي مادّة الكتابة، أي المادّة التي يُشتغل عليها في الورشة: نقول "المادّة" الشعرية مثلاً وهي أسوةً بالمادّة في العمران من الإسمنت والخشب وغيره، وبالمادّة في الملابس، وبمادّة الأحلام و الذكريات، في اتّصال بالمستقبل وليس بالماضي كما هو شائع (الذكريات). يشملُ الشعر موادّ متنوّعة وهي تختلف عن المواد الآنفة، ولكن ليس بمعنى أن الشعر يُقاطعها، أو غير معني بوجودها. 

  المواد، أكانت في العملية الإبداعية أم الداخِلة في البناء والأجهزة وغيرها، يُمكِن تطويعُها وجعلها قابِلةً للحلم وللتحوّل، فحلم مادّة الإسمنت التقليدي، قد جعلها تتطوّر إلى مرِنة كما في الطابعة ثُلاثية الأبعاد. وهكذا هو حلم الوردة والموديلات، ولكن لكلّ مادّة أسلوبها وشدّة أحلامها. ومادّة الشعر كثيفة الأحلام. 

في ما يتعلّق بالكتابة باللغة الغريبة - الهولندية : الأجنبي، موجود في كلّ مكان، مادّياً ومعنوياً، يقول دولوز في كتابه "بروست والعلامات"، إن "الكتابة الإبداعية هي الكتابة باللّغة الأجنبية"، وليس هنا المقصود الكتابة بغير لغة الامّ، بل هي الكتابة بلغة الأمّ ولكن خارج سياقاتها المعرفية والدلالية، فلنا أن نتصوّر مدى صعوبة الكتابة ذاتها، وإن كانت بلغة الأمّ ذاتِها. 

عموماً كلّ كتابة إبداعية هي كتابة غريبة أجنبية، والكاتب هو الأجنبي في نصّه والدخيل عليه: تتقلّص العملية الإبداعية، وتجنح نحو الروتين، بوجود كاتب يرفض (أجنبيته) ككاتب وكإنسان.  

كتب الشاعر علي البزاز باللغة الهولندية
كتب الشاعر علي البزاز باللغة الهولندية

مفهوم صحراوي

تناولت في كتاباتك موضوع "الغريب" وأيضاً موضوع "العازب"، هل أردت أن تشير إلى الخواء الإنساني والوحدة والمسافة مع الآخر؟ 

ليس العازب هو غير المتزوّج، فهذا توصيف اجتماعي، إنّما العازب هو غير المُقترن أو غير المنضوي تحت الجماعات والأحزاب والعقائد، وليس له سلالة سوى سلالة الفجوات والعراء.

هو هكذا مفهوم صحراوي وجودياً وإبداعياً، بما تعني الصحراء من امتدادٍ جبار شاسع يضمّ الوجود برمّته، ويعلّم الكلّ السعي والعمل والإبداع.

ليست الصحراء ذلك المكان القفر الخالي الموحش، هذا تصوّر معرفي تقليدي. مفهوم العازب المعرفي يحمل في كينونته الغريب، ولكن ليس كلّ غريبٍ هو عازب.    

العازب كوجودٍ، هو قوّة في حالة توتّر دائِم، وهو شريك قوّة مضاعفة، غائبة فعلياً ولكنّها حاضرة معنوياً، بسبب غياب شريك فعلي (الوطن، الإنسان، الجماعة، الأحزاب)، ما يجعل توتّرَه مستمرّاً في ديمومةٍ تعويضيةٍ هائمةٍ ذاتِ شكلٍ منفصِل، تُسهِم في إعطاءِ العازب صفةَ التعويض. شكل التعويض ضخم، ما يجعلُ العازبَ عازباً في كلِّ شيء، سلوكاً وكتابة. 

يُكوِّن العازبُ من ذاته جماعةً هامشية فقط. العازب في وحدةٍ مستدامة، تأخذ كتابتُه وطريقةُ حياته صفاتٍ وأشكالَ الوحدة. 

 

غلاف كتاب
غلاف كتاب "كالزحف كالنذير" - الشرق

شعور بالعدم

ما الفرق بين الغريب واللاجئ والمنفي والمهاجر، هل ثمّة شعور بالعدم يتشاركون فيه جميعهم؟

 سوف نُصادف اختلافات (فروقات) اجتماعية وجمالية من باب الضعف والعطف، إذا ما نظرنا إلى الغريب واللاجئ والمهاجر كصفات لا غير، ولكننا سوف نلاحظ تلك الاختلافات بأشكال القوّة والإبداع والفنّ، إذا ما جمعنا الغريب والمنفي والمهاجر والعازب تحت مفهوم (الأجنبية). فالإنسان هو أجنبي في وجوده، وصفاته تكتسب الشمولية والإبداعية أيضاً، إذا كانت أجنبية.

كلّ وجود أجنبي هو وجود إبداعي، وجود قوّة قوي بغيره - بخارجه وبذاته. لا وجود (للأنا) إلّا بصفة الغيرية. الخارج، بما يعني الدخيل، الأجنبي، المهاجر، العازب والغريب، في حالة فعل وردّ فعل، عمل واستجابة له، الخارج هو العثور على شيء ما والتماهي معه، بينما لا يعني الداخل (الأصلي) عثوراً. 

لوحة
لوحة "البحر" للشاعر والفنّان علي البزاز - الشرق

"لاتعبر الفجر هامشياً"

 في كتابك الصادر حديثاً "لاتعبر الفجر هامشياً" لدى دار"أروقة " في القاهرة،  كثيراً ما تخاطب نفسك وتحمّل ذاتك اللوم والنصح، هل هو عقاب أم تدريب للذات؟

"اللوم والنصح" هما نتيجة العلاقة مع الخارج، وإن بديا ممارسةً ذاتية ظاهرياً، أي ممارسة خارجية وإن تمّت بشكلٍ شخصي داخلي، فلا داخلي أو حميمي، يقع خارج الخارج الذي هو أكثر شموليةً وإبداعية واستدامة من الداخل الشخصي. نحن نقع في الخارج، ونتيجة لذلك، نتعامل مع ذواتنا. تُعنى مخاطبة الذات، الوجودَ أوّلاً ثمّ النفس تالياً. 

"واحِدٌ، لا أُنظِّفُ إلّا نصائحَه، سأجعلُ حاجاتِهِ تتلفّتُ دائِماً سأجعلُه تَنافراً ما بين الهدايا ومانِحِيها.

يا كآبةَ الملاعِبِ يا تشتيتَ الفُرَصِ ويا توريطَ العدالةِ في الولائمِ

بِرِضاهُ أو رغماً  عَن سلالمِه، سأسمّيه الدواء حزيناً"

الكتابة الجديدة

 أدرجت الكثير من مقالاتك تحت عنوان "الكتابة الجديدة" ماذا تعني الكتابة الجديدة، ما هي شروطها وأدواتها كي تتحقّق فعلاً؟

تسعى "الكتابة الجديدة"، إلى تجريد الكاتب من أصله، كمواطن مركزي (أصلي)، وهكذا، تعتبره أجنبياً في نصّه، بل ودخيلاً عليه، وهو غير متصرّف به إلّا بجانب مُتصرّفِين كُثر، منهم القارئ، الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي أسهمت بكتابة النصّ.

 فالكاتبُ إذن في جماعة أشخاص وإمكانات وظروف وسواها. كان الكاتب في التقليد الأدبي السلفي يقول يا "أناي"، لكن الكتابة "الجديدة" تعرض عليه القول: يا نحن! ليس بعيداً عن مفهوم الصوفية حول الحب والآخر. أيّهما أشمل وأنفع للإبداع، كاتب يكتب بأناه فقط ككينونة واحدة وبطبقة واحدة، أم كاتب يكتب بمعنى الآخر؟

 شهيدٌ بلا قبر!

كتابك الذي تعمل عليه حالياً عن مناضلٍ أعدمه نظام صدام حسين، من هو هذا المناضل؟

 الشاعر المعنيّ هو الشهيد خالد الأمين؛ أُعدمَ في بداية السبعينيات في قصر "النهاية" سيئ الصيت، وحتى اليوم لم يُعثر على قبره، (نفكّر بالشاعر الشهيد الإسباني لوركا، ولكن بصورة أقسى وأعنف).

انشغلتُ بجَمْعِ أرشيفِ الشاعِر خالد الأمين أزْيَدَ من 20 عاماً. وسوف يصدر الكتاب هذا الشهر لدى دار "النهضة" في بيروت بعنوان" لِبَعضِ السَفَرِ أحتاجُك"، وحاولت أن يكون بَحثاً في الشعرية وفي الشاعر، وعلاقته بالقدر والمصير والتراجيديا.

سأستعير مقطعاً كتبه الشاعر خالد الأمين في العام 1970 عن الشاعر الفرنسي بول إيلوا، وكأنّه يصفُ نفسه:

"رجلٌ ويشتغل بالشعر

شاعرُ شرفٍ وشهامةٍ، وكراهيةٍ وبُغض

نظيفٌ ومُنزَّهٌ، ومقلَّمُ الأظافرِ".

يكتب الأمين في قصيدة "القلب البديع":

لبعضِ السَّفرِ أحتاجُكَ

لكنّما ما فِعْلُ طيش الذاكرةِ

وأيّ زنخٍ يُثيرهُ اللَّيلُ بهذا النَّهارِ البتولِ 

بل ويا للصراخِ الكالحِ المقوّسِ

 لرُبّما الملائكةُ... لولبُ الآونةِ 

والسيرُ دون رجعةٍ... 

هو أصعبُ الملاحظات"

 أخيراً التشكيل يأخذ حيّزاً من وقتك هل يكمّل الرسم شعرك ونصوصك؟

الرسم والكتابة أصلهما واحد، بتعبير بول كلي. الفنّان أو الكاتب، يبحث دائماً عمّا يسدّ الشاغِر في حياته وكتابته. الإبداع ذاته، يعني القيام بمقام الشاغر والغياب وصولاً إلى الإنجاز الذي لا يعني الكمال أبداً، فالإنجاز هو سدّ الشاغِر.  

اقرأ أيضاً:

 

تصنيفات