انطلاقاً من فرضية أن شهرزاد وشهريار هما آدم وحوّاء الأدب، يسرد الشاعر والباحث فتحي عبد السميع نظريته النقدية الخاصّة حول دور الإصغاء للحكاية متمثّلاً في المروي له (شهريار)، ودور الحكي متمثّلاً في الراوي (شهرزاد)، عبر صفحات كتابه "وجوه شهريار"، الصادر حديثاً عن دار "أخبار اليوم" في مصر، ضمن سلسلة "كتاب اليوم" عدد ديسمبر.
شهرزاد تروي للمبدع حكاية جديدة خلال لحظة الإبداع، فيما يمارس المبدع دور شهريار الذي يحفظ ما تمليه عليه، بحسب عبدالسميع. غير أن تلك الحكايات، التي تمليها شهرزاد، تنبع من "صندوق شهريار"، وهو المصطلح الذي يستخدمه الكاتب للإشارة إلى الحكايات التي استمع إليها المبدع في حياته، واختزنها في أعماقه.
نصوص إبداعية
يتبدّى شهريار عبر وجوهٍ عدّة، وقد يكون المتلقّي أو المروي أيضاً، سواء أكان المروي له داخل الرواية، أو القارئ الذي يستدعيه مستهدفاً الحكاية أثناء عملية الكتابة، التي يتّصل فيها الشاعر والقاصّ والروائي، تحت مظلة الحكّاء.
ويستعرض عبدالسميع في كتابه "وجوه شهريار" في 5 نصوص إبداعية، وفق ما يطلق عليه ثنائية الحكّاء والحكّاء الآخر، الذي قد يكون المؤلّف أو الراوي أو المروي له، الذي يلعب بدوره دوراً خارجياً في الحكاية، مثل شهريار، أو المبدع الذي يعيد إنتاج حكاية قديمة.
في الفصل الثاني، يتناول الباحث فتحي عبدالسميع بالدراسة رواية "اللصّ والكلاب" لنجيب محفوظ، باحثاً عن الرموز والإحالات المرتبطة بالرموز المسيحية، وبالتحديد عن المسيح، ويهوذا الأسخريوطي وبطرس الرسول ومريم المجدلية.
كيف تحوّل نجيب محفوظ إلى الحكّاء الآخر في تلك الرواية، التي كتبها أوائل ستينيات القرن العشرين؟ يرى عبدالسميع أن نجيب محفوظ كعهده في كتابات أخرى يستدعي الحكايات القديمة ويصوغها على نحو آخر، منتقّلاً بها نحو آفاق أرحب.
في "اللصّ والكلاب"، يُعيد محفوظ إنتاج قصّة مجرم حقيقي شغلت قضيته الرأي العام عام 1960، لقّبته الصحف بـ"السفاح"، لكن من دون الالتزام بتفاصيل القصّة الحقيقية في أحيانٍ كثيرة، على نحو يعبّر فيه عن رؤية خاصة للسفّاح تخالف صورته التي تكرّست في الصحف.
سيرة المسيح
على مستوى المؤثّرات المسيحية، يذهب محفوظ إلى استحضار تفاصيل من سيرة السيد المسيح وشخوصها، لا سيما الحاضرة في واقعة العشاء الأخير، مسبغاً تلك التفاصيل على أبطالها.
يورد عبد السميع المزيد من الإحالات داخل "اللصّ والكلاب" للرموز المسيحية المستدعاة، في مقدّمتها مشهد إنكار "سناء" ابنة المجرم- البطل سعيد مهران- لوالدها، ومحورية ذلك المشهد في منطق تلك الشخصية، وماتستدعيه من مشهد إنكار بطرس الرسول للسيد المسيح في ليلة العشاء الأخير.
ومن سناء إلى نور، حبيبة البطل الصعيدية، التي يرى أنها مكافئاً لمريم المجدلية في القصّة ذاتها، أو على الأقل يستدعي حضورها في الرواية ذكر المجدلية في ملامح عدّة.
أما الشيخ علي الجنيدي، المتصوّف الذي آوى مهران في منزله، فلغته بحد ذاتها "تعكس تأثّر نجيب محفوظ بتلك اللغة الباطنية للسيد المسيح، وحرصه على وضع حكاية المسيح في قلب الرواية بسلاسة، تتسرّب إلى القرّاء بشكلٍ تلقائي".
وثيقة أم رواية
ومن نجيب محفوظ في مقعد "الحكّاء الآخر" إلى نجيب محفوظ وسيرته ذاتها، هي المادة التي يعيد إنتاجها الروائي أحمد فضل شبلول في صيغة روائية "الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ"، والعرض المسرحي "شقّة عم نجيب" لفرقة مسرح الغد.
في نصّ شبلول الروائي، يتحوّل شبلول نفسه إلى شبح، ويتسلّل إلى غرفة نجيب محفوظ في مستشفى الشرطة بحي العجوزة، في تلك الليلة التي فاضت فيها روح محفوظ إلى بارئها، يحظى الروائي بمحاورة طويلة أخيرة مع محفوظ، من دون أن تنتبه إليه ابنتا الأديب الساهرتين إلى جواره.
وبخلاف موقف عبدالسميع من قصّة المسيح الخفية في رواية "اللصّ والكلاب"، التي رأى أنها ربما أدت مأربها الفني، فإن شبلول لم يُفد كثيراً من تلك الاستهلالة الخيالية التي ارتقى فيها مقعد الحكّاء الآخر من سيرة محفوظ، والتزم موقفاً محاوراً فحسب، وربما انسحق في لحظات في هالة الأديب العظيم.
الخضوع لسطوة المحاور سلبت من شبلول ميزة الشبح، كما يظهر من أكثر من مثال يورده عبدالسميع من الرواية التي نشرت عام 2021، ويبدو أن دور الموثّق أيضاً الذي اطّلع على عشرات النصوص لمحفوظ وسواه، وكذلك الحوارات الصحفية، قمع الميزات الأدبية للروائي، فحرص على النقل الأمين.
ويوازن عبد السميع بين موقف نجيب محفوظ من المادة الصحفية التي كُتبت عن السفاح، وانطلق منها في كتابة "اللصّ والكلاب"، وبين موقف أحمد شبلول من المادة الهائلة التي استعان بها ليكتب روايته، عائدًا إلى الواقعية النقدية الأمينة، التي هجرها نجيب محفوظ حينما انتهى من الثلاثية، بعد أن رأى أنها استنفدت أغراضها.
غير أن عدم استحسان عبد السميع لمحاولة شبلول الروائية في الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ لا يجعله يحرمه من الجدارة الروائية، مستشهدًا بأكثر من ملمح من الرواية ذاتها، قائلاً: "بينما أهمّ بالانصراف، سقطت مني دمعتان عزيزتان. رأيت نملتين تسيران على حافة السرير، تصعدان، تمرحان في جسد الأستاذ"، فيما يعتبره "كاشفاً عن إمكانيات عالية للتفكير الروائي".
أشباح محفوظية
في الفصل ذاته، يتناول عبدالسميع بالنقد مسرحية "شقّة عم نجيب"، التي تستدعي شخصيات روايات نجيب محفوظ وأعماله السينمائية، ضمن أجواء مسرحية حديثة، تتخلى عن الصورة النمطية للعرض المسرحي، وتحوّل القاعة بكاملها إلى منصّات عرض يدور حولها المتلقّون.
يعتقد الكاتب أن المسرحية تجسّد فكرة العود الأبدي، ليس بمعناه الفلسفي كما عند الفيلسوف الألماني نيتشه، ولا كما عند الروماني ميرسيا إلياد، وإنما عبر دلالات مصرية، إذ تعود للعرض بشكل أسطوري شخصيات ابتدعها نجيب محفوظ، مثل شخصية السيد عبدالجواد.
في "شقة عم نجيب"، توجد سعدية وزوجها عباس، زوجان مع وقف التنفيذ، نظراً لأزمة السكن، يتعثّران في إعلان مغر لشقّة، يتبيّن لاحقاً أنها مسكونة بالأشباح، تنتمي بدورها لعالم نجيب محفوظ.
يصنع مؤلّف العمل، سامح مهران، وفق عبدالسميع، جبهتين من الشخصيات، الشريرة والخيّرة. في فريق الشر الباشا الإقطاعي والسيد عبدالجواد بطل الثلاثية وغيرهم. يقيّم الكاتب تجربة تحوّل حكاية نجيب محفوظ وحياته إلى حكاية تراثية يشتبك معها حكّاء آخر.
شهريار المستمع
عودة للقصّة الإطارية لألف ليلة وليلة "شهرزاد وشهريار"، يعتقد المؤلّف من خلال "وجوه شهريار"، أن الدراسات النقدية أفردت مساحات كبيرة لما أطلق عليه "فتوحات الراوي"، مهملةً إلى حدّ بعيد دور المروي له (شهريار).
ويفرّق بين فئتين من المروي لهم: الخارجي والداخلي. الخارجي هو القارئ، والداخلي هو شخصية قد تحضر صراحةً في السرد، تكون بمثابة مستمع تتراوح فاعليته من نصّ لآخر، كأن يكون مجرّد حلقة وصل بين الراوي أو القارئ، كما يفيد في تمييز الراوي وتطوير الحبكة وغيرها من المهام.
ويورد المؤلف رواية "مواعيد الذهاب إلى آخر الزمان" للكاتب عبده جبير، كنموذج لحضور المروي له "بقوة وتنوع"، ويحضر صدى ألف ليلة وليلة في مواعيد الذهاب إلى آخر الزمان، إذ تحتوي على حكاية إطارية عامّة تتفرّع منها حكايات أخرى.
ويحكي جبير من خلال روايته عبر سلسلة من الرسائل و"الكتابة الخام"، أو في حالتها السابقة على التنقيح، كما يصفها عبدالسميع، قصّة مصري مغترب في الكويت يعمل في وكالة لتوريد العمالة، يوجّه رسائله لسلسلة من المروي لهن.
وإذ يباعد جبير بين الرواية المشار إليها وبين سيرته الذاتية، تكاد عدة ملامح خلال الرواية، تعمّق اتصالها بشخص الروائي وشخصيته، فيما يصفه الكتاب بأنه "شعرة معاوية" تتحوّل إلى حبل متين أحياناً.
صندوق شهريار
ومن عالم الرواية والمسرح إلى عالم الشعر، يرى الكاتب أن شهرزاد تتجلى من اتحاد هوية الشاعر بهوية الشعر، فتروي عليه حكاية القصيدة، أما الشاعر فهو شهريار في ذاته، وهو أوّل من يتلقى القصيدة ويفسح لها المجال.
والشاعر إذ ينتمي لحالة شهرزاد أثناء تخلق القصيدة، فإنه غالباً يقتبس مما يطلق عليه المؤلّف "صندوق شهريار"، ثم يعيد إنتاج قصيدته، إما بمجرد المحاكاة أو التجديد في الصياغة، بما يتجاوز الحكاية القديمة، كما فعل الشاعر الراحل أمل دنقل.
ويستشهد عبدالسميع بحضور الحكاية التراثية للزير سالم في شعر دنقل، التي استطاع من خلالها أن يتجاوز الحكاية الأصلية لآفاق أرحب.
ويعتقد أن ما يميّز أمل دنقل في استدعائه للتراث أنه لا يزور التراث بحثاً عن جواهر يرصّع بها عباءته الشعرية، بقدر ما يزوره بوصفه رفيقاً يطلب حواراً وليس دعماً.
اقرأ أيضاً: