صلاح جاهين.. أكبر قدر من "البساطة والبراءة والمصرية"

الشاعر والرسام المصري صلاح جاهين - ""
الشاعر والرسام المصري صلاح جاهين - ""
القاهرة -محمد شعير

طبعة جديدة من أعماله الكاملة، وسيرة تستعرض فيها زوجته منى قطان حياتهما معاً، وندوات عديدة عن حياته وإسهاماته الإبداعية. هكذا تحتفل القاهرة بصلاح جاهين (1930- 1986) الذي تم اختياره شخصية العام في الدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولي للكتاب الذي تستمر فعالياته حتى السادس من فبراير المقبل.

تحت زجاج مكتبه كتب صلاح جاهين 3 عبارات، شكلت دستوره في الحياة والفن: "أكبر قدر من البساطة.. أكبر قدر من البراءة.. أكبر قدر من المصرية"، وربما تشير هذه العبارات إلي  فلسفة جاهين تجاه الفن، وتكشف سراً من أسرار حضوره الدائم في المشهد الثقافي المصري عابراً للأجيال والاختلافات السياسية. 

كانت البساطة بالنسبة لجاهين هي الترفع عن التحذلق والتغريب، أما المصرية فهي استلهام واقع الشعب لا الانفصال عنه، عاكساً ملامح التراث الشعبى الموروث أو الواقع المعاش.

أما البراءة، فقد كان جاهين يرى أن كل أعماله، بما فيها السياسية والفلسفية مكتوبة بروح طفل صغير، مهما حوت هذه الأعمال أفكاراً ومواقف سياسية أو اجتماعية أو فلسفية.

كان جاهين، بحسب وصف زوجته، "مثل طفل في السن المدرسة يلهو بالكلمات يبني ويعيد الأفكار والمعاني كما يفعل طفل بمكعباته الملونة ليخلق منها أشكالاً شتى حتى يفرغ من لعبته متجهاً إلى أخرى، بحثاً عن المزيد من التحدي والجدة والتشويق، مثلاً، استطاع أن يكتب قصائد بالعامية المصرية على نسق القالب الشكسبيري للسوناتا الأوروبية".

الراحل صلاح جاهين في صورة جمعته مع زوجته منى قطان.
الراحل صلاح جاهين في صورة جمعته مع زوجته منى قطان

طفولة أبوية

والفن كان القيمة العليا والأولوية الكبرى في حياته، لذا يصفه ابنه الشاعر بهاء جاهين بـ"الطفل الأب اللعبي الحكيم، كان لعبه جاداً، وهمه عاماً، وإرادته قوية، وطفولته أبوية، وكل تجلياته عبقرية".

ولد جاهين في حي شبرا، في البيت نفسه الذي ولد فيه أيضاً الموسيقار بليغ حمدي، لم يلتق الاثنان في طفولتهما حيث كان والد جاهين قاضياً يتنقل بالأسرة بحكم عمله في محافظات مصر المختلفة.

وفي تنقلاته مع والده كان جاهين يقرأ حتى أنه تعلم القراءة قبل أن يتعلم المشي، فعندما كان في الثالثة من عمره، استقالت أمه من عملها كمُدرسة حتى تتفرغ لتربيته وخلال شهور قليلة كان يقرأ ويكتب "أقرأ وأكتب".

وقد حكى لزوجته منى قطان كما كتبت في كتابها الجديد "صورة شخصية لزوجة الشاعر" الصادر عن "دار الكرمة"، أنه كان قارئاً نهماً: "ذات مرة أغلقوا عليه مكتبة مدرسته الابتدائية في صعيد مصر، وظل بها محبوساً طوال الليل، لأن المشرفين لم يلاحظوا وجوده عند موعد الإغلاق وظلت أمه تبحث عنه في كل مكان".

بوابة المرض

ومن بوابة المرض دخل صلاح جاهين دنيا الفن. وفي المرض. في سن الحادية عشر قضى 4 شهور في سرير المرض "جثة بلا حراك" كما قال، وعندما بدأ في التعافي كان والده يقرأ له الكتب: "استولى على كل انتباهي العليل كتاب من دون الكتب، اسمه (مشاهير المصورين) سيرة ذاتية لكبار الرسامين العالميين، من ليوناردو دافنشي وحتى فان جوخ.. مازلت أذكر أبي وهو يقرأ لي الفصل الأخير في الكتاب". 

وبعد أن انتهت الشهور الأربعة واسترد عافيته، وجد نفسه يغادر السرير، ويفتح شباك الغرفة ويكتب أولى قصائده.

ويومها قرر أن يكون لديه مكتبة: "أنا عندى مكتبة وسرير ومرتبة.. أطنطن ما بينهم واتشقلب شقلبة" وهي القصيدة التي كتبها في سن الخامسة عشر ابتهاجاً بمكتبته. 

بدأ صلاح جاهين بكتابة الفصحى في أواخر الأربعينيات، وفي عام 1951 رأى في الصحف صور الفلاحين وهم يساقون كالقطيع. قال لنفسه: "لا فائدة لشعري إن لم أكتب بلغة هؤلاء الناس".. ومن يومها بدأ الكتابة بالعامية، "لكني مع الزمن اكتشف أني أكتب بالعامية أفكاراً فصحى".

الشاعر والرسام المصري صلاح جاهين بريشته -
الشاعر والرسام المصري صلاح جاهين بريشته

 وعندما قرأ قصيدة "في سجن مبني من حجر.. في سجن مبنى من قلوب السجانين.. قضبان بتمنع عنك النور والشجر زي العبيد مترصصين" لشاعر مصري يكتب العامية، وقرر البحث عن هذا الشاعر، الذى لم يكن سوى فؤاد حداد: "رجل مثقف يجيد الفرنسية والإنجليزية ومتمكن من العربية والعامية، لا أجد شاعراً يضاهيه سوى المتنبي" حسبما قال صلاح.

ومع حداد اكتشف جاهين أسرار الكتابة بالعامية لا كونها مجرد قصائد زجلية. وعندما ألقي القبض على فؤاد حداد لأسباب سياسية دخل جاهين فى مرحلة اكتئاب شديدة، وكان يسير فى شارع قصر العيني عندما دندن مع نفسه:

 

"مع إن كل الخلق من أصل طين 
وكلهم بينزلوا مغمضين 
بعد الدقايق والشهور والسنين 
تلاقى ناس أشرار وناس طيبين"
عجبي



وصعد صلاح إلى مجلة صباح الخير، حكى لرئيس التحرير أحمد بهاء الدين حكايات السطور الأربعة، فطلب منه بهاء كتابة 4 منها كل أسبوع للنشر بالمجلة. لتولد الرباعيات التي تعتبر واحدة من أشهر القصائد المصرية. 

السياسة مهلكة 

في عام 1955 أصدر جاهين ديوانه الأول "كلمة سلام"، وقد كتب الروائي فتحي غانم في مجلة آخر ساعة عن الديوان مقالاً حمل عنوان " شاعر مولود منذ 25 عاماً وعمره خمسة آلاف عام"، بعدها استدعاه رئيس تحرير المجلة محمد حسنين هيكل وسأله: لماذا تكتب عن الشيوعيين؟ اندهش غانم من السؤال: تقصد من؟. أجاب هيكل: صلاح جاهين.. أخبرني جمال عبد الناصر أنه شيوعي وأجهزة الأمن تراقبه!

بعد شهور قليلة كان جاهين منشد الثورة، وصانع أيديولوجيتها شعرياً، بل كتب النشيد القومي المصري "والله زمان يا سلاحي".  كان مدهشاً ذلك التحول في نظرة السلطة إلى النقيض من " شيوعى مشبوه" إلى منشد الثورة ومغنيها الأقرب والأصدق أيضاً.  

ربما كان سؤال العلاقة بين جاهين وعبد الناصر مفتوحاً باستمرار: هل أخطأ الشاعر الذي اندفع بصدق وبراءة ليغني للثورة ومبادئها، ويبشر بأحلامها؟؟

صفحة من أحد دواوين صلاح جاهين. - الشرق
صفحة من أحد دواوين صلاح جاهين

كانت أغنيات جاهين الثورية أهم تعبير فني عن طموحات ثورة يوليو وقائدها جمال عبد الناصر. سألت بهاء جاهين: هل ترى أن جاهين كان كما يقول البعض شاعر سلطة؟

يجيب: "القيادة السياسية، في وقته، كانت تتبنى مشروعاً اشتراكياً يحاول أن يحقق المعادلة بين الناس، فصادف زعيم النظام هوى في قلب صلاح جاهين، بهذا المعنى لم يكن صلاح شاعر سلطة، كان يحب زعيماً وطنياً قادراً أن يحقق رؤيته الإنسانية في الواقع المعاش.. وبالمناسبة كل القصائد التي كتبها جاهين في جمال عبد الناصر كتبها بعد أن رحل". 

وبالفعل كانت "نكسة يونيو" مؤلمة لجاهين الذي لم يكن يتوقع أن يتحول حلمه بـ"تماثيل رخام على الترعة وأوبرا" إلى كابوس موجع.. حتى أنه تراجع أمام الهجوم الشديد الذي لاقاه في فترة السبعينيات عن كل ما كتب عن الثورة، وعندما استعاد قليلاً من هدوء النفس عاد مرة أخرى ليعلن: "لست نادماً على ما كتبته من أغان للثورة.. لقد أخطأت بما قلته عنها أخيراً.. ولكن لحسن الحظ لم يصدق الناس ما قلت". 

ودفاع جاهين عن نفسه أمام الهجوم القاسي عليه في السبعينيات كان انسجاماً مع الحقيقة فهو لم يكن من ذلك النوع من المثقفين الذين تستأجرهم السلطة للدفاع عنها والإشادة بإنجازاتها، بل كان صادقاً ومتوائماً مع ما كتب، وكانت هذه الأغنيات: (هي أغاني بنات بتجري على الزراعية وليست أغاني حرب، وإنما فن شعبي "المسئولية" و"يا أهلا بالمعارك" و"صورة" لم يكن من الممكن أن توجد ما لم يحدث تزاوج بين الشعور الوطني والاتجاهات الفنية والموقف السياسي)، كما قال في أحد حواراته. 

المواهب المتعددات

كان الشعر واحداً من وجوه جاهين المتعددة، كان جاهين رساماً للكاريكاتير، مغنياً، صحفياً وكاتباً للمقال، كاتب سيناريو ومنتجاً للأفلام، صانع كتب، وممثلاً شارك في العديد من الأفلام من بينها رابعة العدوية، واللص والكلاب، وغيرها من المجالات التي جعلت كاتباً مثل نجيب محفوظ يكتب إليه في إهداء روايته "الحرافيش": "تحيات مباركات بعدد مواهبك المتنوعة". 

الإهداء الذي قدمه الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ لرائعة صلاح جاهين
الإهداء الذي قدمه الروائي المصري نجيب محفوظ لصلاح جاهين في ملحمة "الحرافيش"

وفي كل هذه الفنون كان جاهين صادقاً مخلصاً لشيء واحد هو الفن الذي يذهب فيه إلى حدوده القصوى.

تصنيفات