بشاعرية مفرطة ولغة مفعمة بالذكريات، تروي اللبنانية الفرنسية ديما عبدالله في باكورة أعمالها الأدبية "أعشاب ضارة"، الصادرة بالفرنسية عن "دار سابين فاسبايزار"، والحائزة أخيراً جائزة "مُرسل بالبريد" الفرنسية التي تمنح عن الرواية الأولى، قصة حب بين طفلة وأبيها بترت الحرب الحوار بينهما.
تتراكم الصور الشعرية وتتكثّف اللغة الأدبية في سرد سلس يشبه طراوة الحشائش التي تنبت على جوانب الطريق الهشّة، لترحل بنا الرواية على لسان فتاة صغيرة من ذكريات الطفولة العصيّة على النسيان، إلى إشكالية المنفى وعدم التكيّف مع المحيط والعالم.
الأب المخلّص والحب غير المشروط
تبدأ الرواية التي كافأتها لجنة تحكيم جائزة الأدب العربي "لاغاردير" في دورتها التاسعة منذ أيام، من ملعب المدرسة في بيروت الحرب الأهلية في عام 1983، حيث يشتدّ القصف ويهرع الأهالي لاصطحاب أبنائهم المرعوبين من صوت القذائف والرصاص. لكن ساندرين بطلة الرواية ابنة الـ 12 سنة، المعتادة على التظاهر بعدم الخوف تبدو خائفة على "مخلّصها" ذاك الأب العملاق والهشّ في الوقت نفسه، الذي يحاول طمأنتها بسرد النكات والأحاديث العابثة بعيداً عن العنف والأجواء المشحونة.
تحكي ديما عبدالله (43 سنة) عن علاقة استثنائية مفعمة بالحب والرقة والمشاعر بين الطفلة وأبيها، علاقة تسكنها الكلمات والكتابة التي ورثتها الكاتبة عن أبيها الشاعر محمد العبدلله وأمها الروائية هدى بركات. فهي تتماهى بشكل كبير مع حياة الكاتبة التي تركت لبنان وأمها وأخيها كما بطلة الرواية، إلى باريس المنفى تاركة الأب وراءها "فرّقتنا الحرب وسرقت مني والدي فخلّفت فيّ قساوة وحزناً دفيناً"، كما تقول في حديث لـ"الشرق".
في القسم الأول من الرواية تستعرض ديما بقايا صور من بيروت الحرب الأهلية والفوضى عبر إيقاع متسارع للأحداث، وتصوّر ذكريات طفولتها التي تتضاءل كالضوء البعيد مع تواتر الزمن. ثم تنتقل إلى باريس حيث تلجأ العائلة للفرار، آخذين معهم حقائب السفر وصندوق دمى الجنود لأخ ساندرين، تاركين وراءهم متعلقاتهم والنباتات التي تحبها الفتاة الصغيرة.
حدّثني عن المنفى والنباتات
في المنفى يدور الحديث المفترض مع الأب حول النباتات، وتغوص الكاتبة في ما خلّفه القسم الأول وحياة الطفولة في الصبية الناضجة التي يلازمها المنفى والعزلة وعدم التكيّف من بلد إلى بلد. فتكتب: "انتهت الحرب منذ فترة طويلة ولا يزال منزلها ليس منزلها. ربما يكون الهدوء بعد العاصفة هو أسوأ جزء، "حيث لا تتحرك كثيراً بما يكفي لتتمكن من ترك الكوابيس عالقة في الجدران التي تركتها. حان الوقت الآن لإدراك أن الوقت ينفد لدينا لفرز أطنان حبوب الأرز وإعادة زراعتها. لقد تم تدنيس الأرض لدرجة أنه لن يتمكن أي وطن من دفعها إلى الوراء".
تظل الابنة ساندرين في "أعشاب ضارة"، كما أبيها متفلّتة من أي انتماء، وبالتالي متحررة من العلاقة بالمكان والمجتمع والناس. لذا تأتي الرواية بصوتين: الحساسية المفرطة للأب التي تستجيب وتتقاطع مع حساسية الابنة، وإن كانا لا يتبادلان الحديث بشكل مباشر، وإن كان الصمت يتسلّل إلى حياتهما والخوف يحتلّ عالمهما. فنُصبح أمام رواية فلسفية عن البُعد الإنساني في عالم غامض قاسٍ متفلّت من حدود المكان والجغرافيا والوقت والزمن. رواية تتحدّث بلغة الأطفال عن خسارة وطن وخسارة أب وقسوة العالم وضحايا الحرب، وزيف المجتمع والعزلة المفرطة التي يختارها الفرد كي لا يذوب في عنف الجماعة.
رواية ليست عن الحرب
تحضر الحرب الأهلية بقوة في نص "أعشاب ضارة"، لكن الرواية "ليست عن الحرب الأهلية بينما الحرب هي الخلفية والديكور الذي عشت في كنفه وأعرفه. الرواية هي قصة حب وغرام بين ابنة وأبيها، تتقاطع فيها القساوة والشاعرية والأحاسيس"، كما قالت الكاتبة لـ"الشرق".
لكن لماذا انطلقت ديما عبدالله من تلك الحرب؟ أجابت: "الحرب هي كل طفولتي، أنا ولدت في 1977 أي بعد اندلاع الحرب بسنتين، وسافرت إلى فرنسا في عمر الـ 12 سنة، فكبرت وسط هذه البيئة وتتمركز ذكريات طفولتي حولها. أنا لم أتناول الحرب كتيمة بل كتبت عنها كسياق يعيش فيه البطلان وكيف أثرت أحداثها وقساوتها على علاقتهما، لأنهما حساسيَن جداً ولم يتأقلما ولم يتعوّدا على الوضع القائم في بلادهما ولم يستطيعا التمظهر بأن الحالة جيدة كباقي الناس".
وأوضحت ديما: "هاتان الشخصيتان تشعران بأنهما غريبتان عن العالم حولهما في لبنان وفي بلد آخر، تشعران بأنهما وحيدتان وغريبتان في المجتمع ككل، وعندما نكبر في كنف الحرب في سنواتنا الـ12 الأولى، ستصبح كل ساعة وكل ثانية في حياتنا الباقية متلازمة مع ذكريات الحرب التي لا تتركنا ونحملها في لاوعينا".
الحرب خطفت أبي مني
تبدو عبدالله في حديثها عن الحرب وكأن هناك ثأراً شخصياً بينهما؟ "أشعر بأن الحرب الأهلية خطفت أبي، فشخصية البنت وهي صغيرة في الفصل الأول من الرواية، تعرف من اللحظة الأولى أنها تفقد أبيها ويتسرّب منها. فهي تعرف جيداً مدى حساسيته واختلافه عن الآخرين، لدرجة أنه لا يمكن إلا أن يسقط وينكسر، خصوصاً بالنسبة لرجل في الحرب، لا بد أن يكون له رأي فيها، أن يقاتل ويحمل السلاح أو ينخرط في حزب أو ميليشيا، في حين أن هذا الأب بعيد كل البعد عن كل ذلك. لذا تشعر بطلة الرواية مثلي بأن الحرب تسرق أباها منها".
أما بالنسبة إلى العنوان "أعشاب ضارة"، فتوضح ديما عبدالله أنه جاء من فكرة حديث الأب والابنة المتواصل عن موضوع النبات، وهو موضوع نقاش اخترته لتجنب الحديث عن أمور أخرى، وأردت أن أنطقهما بالشعر الذي يشعران به، وهما يطلقان رؤيتهما الشعرية في الحياة، وكي لا يتحدثا في أمور أخرى، فالرواية قائمة على أنهما يحبان بعضهما لكنهما لا يستطيعان التحاور بهذا الشأن مع بعضهما". وتفيد بأن الأعشاب الضارة هي الأعشاب الحرّة التي تنبت طبيعياً ولا تدخل في النسق النظامي للنبات ولا في القالب الذي يرسمه المزارع، فهي أعشاب غريبة".
الكتابة ليست مستجدة
وعن أبيها تقول ديما عبدالله: "من المؤكد أن أبي الشاعر محمد العبدلله حاضر كمُلهم ومؤثر فيّ هنا، والرواية عبارة عن تحية لذكراه وأنا تأثرت بنظرته للحياة وحبّه وشخصيته وشعره". أما عن الأم التي لا تمرّ إلا بشكل عابر في الرواية، فتقول إن القصة "تتمركز حول الأب، لكن علاقتي بأمي مليئة بالحب وقد أثر والداي فيّ بشكل متوازٍ، ومنحاني ثقافة واسعة، حيث كنت أستحمّ بالكتب وأتشرب الكتابة كصلاة صباحية". وتشير ديما إلى أن "الكتابة ليست مستجدة عندي، أكتب منذ صغري شعراً ونصوصاً أدبية قصيرة لا أنشرها، لكن بعد كل هذا الاحتفاء بروايتي الأولى شجعني على الاستمرار في الكتابة والنشر، ولا شك أنه سيكون لهذه الرواية أخوات".
وتختم روايتها بقصيدة لوالدها ترجمتها من العربية، وتقول: "أردت أن أعطيه الكلمة الأخيرة بما أن الرواية تحية لذكراه، فاخترت قصيدة من قصائده الأخيرة تتحدث عن الموت كدعوة للنوم. يتخيل والدي الموت على أنه دعوة من نجم يشعل النار فيه ويدعوه إلى العناق والنوم ثم النوم".
وتعبر ديما عبدالله عن سعادتها بجائزة "مُرسل بالبريد" وبمكافأة لجنة تحكيم جائزة الأدب العربي التي يمنحها معهد العالم العربي في باريس، وتقول: "لم أكن أتوقع الفوز والاحتفاء، كما لم أكن أتوقع يوماً ما نشر رواية كتبتها بشكل حرّ وفطري دون خطة أو رؤية، ولا التفكير في هوية القارئ الذي أخاطبه".