في ديسمبر من كل عام، تتجدد ذكرى اكتشاف عمل فني باهر عمره آلاف السنين.. رأس الملكة المصرية نفرتيتي. هذا التمثال الشهير المنحوت من الحجر الجيري، ذو القسمات الآسرة والألوان الحيوية، استقر في متحف برلين الجديد، ويخطف أبصار الزائرين، ويجدد آمال المصريين بعودة الملكة إلى بلادها.
لا يُعرف على وجه التحديد، ما إذا كانت الملكة نفرتيتي، زوجة الملك المصري أخناتون، نبيلة مصرية ابنة أحد رجال البلاط، أم أنها أميرة من مملكة ميتاني (في شمال الهلال الخصيب)، ارتحلت إلى مصر وتزوجت من فرعون البلاد، إلا أن الثابت أنها جاورت زوجها في رحلته غير المألوفة لإعادة تشكيل الحياة الدينية المصرية القديمة، بفرض عبادة الإله آتون خلال حكمه للبلاد في القرن الـ 14 قبل الميلاد.
سيرة الجميلة الغائبة
نفرتيتي، التي يعني اسمها حرفياً "جميلة أتت" أو "امرأة جميلة أتت"، أنجبت خلال 10 سنوات من زواجها 6 أميرات، ظهرن بجوارها وجوار زوجها في المنحوتات المصرية. وظهرت الملكة أيضاً على جدران المعابد والمقابر المُشيدة إبان عهد زوجها، في مواقف تتسم بالحدّة والعنف، كقيادة العربات أو ضرب الأعداء، فضلًا عن أداء الطقوس الدينية.
ورغم ظهورها الكثيف على مدار 12 عاماً من فترة حكم زوجها، إلّا أنه لا توجد معلومات موثّقة حول الملكة بعد ذلك، فيما يُرجّح بعض علماء المصريات أنها توفيت، بينما يُفضّل آخرون الاعتقاد أنها ظلت على قيد الحياة وحكمت البلاد لفترة وجيزة بعد وفاة زوجها تحت اسم مختلف. وبينما لم يُعثر حتى اليوم على قبرها، تمكنّت بعثة تنقيب ألمانية عام 1912 من العثور على أهم أثر خلفته الملكة حتى اليوم.
الرأس الفريد
في السادس من ديسمبر عام 1912، أبصرت رأس الملكة النور للمرة الأولى، بعد أن عُثر عليها أثناء عملية تنقيب بمنطقة تل العمارنة بمحافظة المنيا المصرية، والتي كان أخناتون قد اختارها عاصمة لدولته الجديدة.
وعثر المنقبون بقيادة عالم المصريات الألماني، لودفيج بورشاردت، على الرأس مدفوناً في الرمال بشكل عكسي، داخل ورشة تاريخية للنحّات المصري القديم "تحتمس" وفقاً لموقع قناة التاريخ التلفزيونية "History".
ويصف موقع المتحف المصري ببرلين التمثال، بأنه من بين الأعمال الفنيّة المصرية الأعلى تصنيفاً، رجوعاً لحالة الحفظ المثالية لألوانه وكذلك قسمات الوجه الدقيقة، مضيفاً أن الوجه الفردي والتاج المميز بطوله وقمته المسطحة وما يزينه من شريط، كلها علامات تحدد أن الرأس للملكة نفرتيتي دون غيرها.
ويشير الموقع إلى أن التمثال مصنوع من الحجر الجيري المغطى بطبقة من الجبس، وتميزه عينان إحداهما مطعمة بالكريستال، وبؤبؤ مُثبت بالشمع الأسود، وأخرى غير مطعمة نهائياً.
إقامة أوروبية
يُعزى وصول رأس الملكة للأراضي الألمانية بشكل كبير لعالم المصريات وقائد الحفرية بورشاردت، في واقعة لا تزال محل جدل إلى اليوم. إذ كان قانون الآثار المصرية آنذاك ينص على تقسيم القطع المكررة والمشتركة في أي كشف جديد بين هيئة الآثار المصرية والبعثة القائمة على التنقيب، وفقاً لتقرير في موقع "جريدة الأهرام" المصرية الناطق بالإنجليزية، إلّا أن رأس نفرتيتي استقر بين المجموعة التي ارتحلت عبر البحر الأبيض المتوسط إلى ألمانيا.
وفي بداية رحلته الأوروبية، انضم تمثال رأس الملكة مباشرة لمجموعة ممتلكات خاصة بممول بعثة التنقيب الألماني، هنري جيمس سيمون، الذي احتفظ به على مدار 11 عاماً، قبل أن يتاح للعرض في برلين أوائل عشرينيات القرن الماضي.
وبالرغم من تداعيات الحرب العالمية الثانية، ظل رأس الملكة المصرية في ألمانيا على مدار عقود، وقيل إنها حظيت باهتمام الزعيم النازي أدولف هتلر. ومؤخراً في عام 2009، استقرت في قاعة شبه منفردة بمتحف برلين الجديد، ما يمكن زوارها من تأملها من كل الزوايا.
وُيشدد دكتور وسيم السيسي، الكاتب والباحث في تاريخ مصر القديمة، في تصريحات لـ"الشرق"، على أهمية تعرّف الأجيال الجديدة إلى قصة الرحيل المفاجئ تلك، واصفاً الواقعة بـ "خديعة" قادها بورشاردت، عبر وصف رأس نفرتيتي بتمثال تقليدي مصنوع من الجص، ويخص إحدى الأميرات، وليس الملكة المصرية الشهيرة.
وأضاف الباحث المصري: "يمكننا القول في النهاية إن التمثال خرج من البلاد بطرق غير قانونية، وهو الأمر الذي يمكننا إثباته بالوثائق والأدلة، ومن ثمّ إقامة دعوى قضائية رسمية في محكمة العدل الدولية".
مطالبات بالعودة
ولم تنقطع المطالبات المصرية بإعادة القطعة الفنيّة النادرة، وذلك منذ النصف الأول من القرن العشرين، كما يُحدد السيسي، من بينها مطالبة مصرية رسمية عام 1933، إبان حكم الزعيم النازي أدولف هتلر، الذي تمسك به ورفض إعادته لمصر، والثانية عام 1945، ووجهتها مصر لمجلس الحلفاء بنهاية الحرب العالمية الثانية، الذي رفض بدوره إعادة القطعة لمصر، بسبب عدم اختصاصه.
أما خلال الألفية الجديدة، فتجددت المطالبات مرة أخرى بقيادة وزير الآثار الأسبق زاهي حواس، إلّا أن المحاولات المصرية لم تجدِ نفعاً، كما أن مطالبات حواس بعرض التمثال الفريد بشكل مؤقت في مصر عام 2006 رُفضت كذلك، وعللت ألمانيا الرفض آنذاك بتحفظات فريق الترميم على نقل التمثال لتلك المسافة بين البلدين.
وعلى مدار سنوات، استمرت ألمانيا في رفض المطالبات المصرية برد رأس الملكة الغائبة، مبررة رفضها بعدم أحقية القاهرة بطلب استرداد القطعة من الأساس.
وكان السفير الألماني في القاهرة عام 2017، جيورج لوي، صرح بأن وزير السياحة المصري السابق يحيى راشد، لم يتمكن من إقناعه بوجهة النظر المصرية في ما يتعلق باسترداد نفرتيتي، مشيراً إلى أن الملكة تتمتع بشعبية كبيرة في ألمانيا.
حلم أم حق؟
لدى الحديث عن الحلم المصري باستعادة رأس نفرتيتي الغائب، يعود بسام الشماع، المُحاضر في علم المصريات إلى صورة فوتوغرافية مُلتقطة لحفريات تل العمارنة عام 1912، يظهر خلالها عامل مصري يحمل رأس الملكة، ويسلمها للمُنقب الأجنبي.
وعلّق في تصريحات لـ"الشرق": "أليست تلك الصورة، خير دليل على أحقية مصر بالأثر الذي أخرجه عمال مصريون بأيديهم، ثم سلموه للمسؤول عن التنقيب؟ وفي واقع الأمر هناك أدلة ووثائق تفيد بخروج رأس نفرتيتي من البلاد عبر الخداع، إلا أن الجهود المصرية لاسترجاع الأثر تقابل بتعنت ألماني".
ويرى الشماع، أن أغلب الحجج المتداولة لرفض إعادة نفرتيتي واهية، خاصة تلك المتعلقة بكون الأثر مؤمناً بالكامل في برلين، مدللاً على ذلك بأحداث تخريب الآثار في جزيرة المتاحف في برلين أكتوبر الماضي، عبر إلقاء مجهولين لسائل زيتي على بعض المعروضات.
مكسب معنوي
ويرى وسيم السيسي، أن عودة الملكة الغائبة إلى مصر قد تحقق مكاسب مادية جراء تأثيرها في حركة السياحة، إلّا أن المكسب المادي ليس كل شيء، وفقاً لتعبيره.
وأوضح: "هناك أرباح ومكاسب معنوية أكثر أهمية قد نجنيها من عودة رأس نفرتيتي، كأن نعطي المصريين فرصة رؤية التمثال، وتأمله والتحقق من عظمة الملكة الجميلة".
واختتم الشماع حديثه بتفسير سر أهمية تمثال رأس الملكة، لافتاً إلى أن الأثر متفرد في دقته، ولافت للعامة بألوانه الباهرة، إلا أن السبب الأكبر يكمن في كون نفرتيتي ملكة غامضة، لا تزال أغلب التفاصيل حول حياتها وأصلها خفيّة عن العامة والدارسين على حد سواء.