جان ديتور.. هكذا تخيّل عام 2024 قبل 50 سنة

الكاتب الفرنسي جان ديتور صاحب مؤلف "2024". - critiqueslibres.com
الكاتب الفرنسي جان ديتور صاحب مؤلف "2024". - critiqueslibres.com
الدار البيضاء-مبارك حسني

تحلّ بعد أيام السنة الميلادية الجديدة 2024، ويطفر السؤال الذي يُلقى في خواتيم كل عام، كيف ستكون السنة الجديدة يا ترى؟ وما الذي ستحمله؟ ما هي السيناريوهات والتهيّؤات المعقولة وغير المعقولة؟

تستند بعض هذه التوقّعات إلى استنطاق الأرقام واعتماد التحليلات المنطقية، وبعضها يلجأ إلى التخييل والتنبؤ. لكن ماذا لو تمّ اختيار مقاربة مختلفة، بالرجوع إلى الماضي والبحث عمّا قيل عن السنة المقبلة.

 تلك حالة الكاتب والروائي والصحفي الفرنسي، عضو الأكاديمية الفرنسية، صاحب الأعمدة الساخرة واللامعة في أرقى الصحف الفرنسية، جان ديتور (1920- 2011) الذي كتب روايته بعنوان "2024"، ولكن سنة 1975، أي قبل حوالى خمسين عاماً. 

هنا لا بد من الإشارة إلى أن الروايات العالمية التي تختار لها عناوين باسم السنوات، هي نادرة. ولعلّ أبرزها رواية "1984" للكاتب البريطاني المعروف جورج أورويل.

وربما احتذى به كاتبنا الفرنسي في مشروعه التخييلي التنبّؤي هذا، تأسيساً على معرفته الواسعة بالتاريخ والأدب وخصوصاً السياسة، التي خبرها فعلاً، عندما كان مقاوماً للاحتلال النازي لفرنسا، وعندما اعتقل، ومن ثم نجح في الهروب من بطش النازيين.

غلاف كتاب جان ديتور
غلاف كتاب جان ديتور - gallimar.com

 

عالم من العَجَزة

 هكذا تخيّل الكاتب الفرنسي في روايته "2024" مشهداً قيامياً، إذ نرى في روايته المكتوبة في السبعينيات، (224 صفحة، دار نشر غاليمار)، عالماً مختلفاً في 2024، يبدأ مع رجل عجوز يتجوّل في مدينة باريس (التي ترمز هنا إلى أوروبا قاطبة)، وقد صارت شبه مُهدّمة، بعد أن حلّت بها كارثة عظمى.

 لم يستطع الرجل العجوز أن يتعرّف على المدينة، فقد تغيّرت أسماء الشوارع، وشوّهت ضفاف نهر السين الراقية، وصارت غابة "بولونيا" المعروفة، متوحّشة تغزوها نباتات العلّيق والقُرّاص، حيث تسكن القوارض، وتعيش الصقور. 

 تملأ المدينة الحفر الضخمة والتراكمات الحجرية. لقد أصبحت مثل مدينة الأشباح، كما لو جرت في رحابها حرب مدمّرة، فغزتها خمسون مليون حمامة، وغطّت مساحاتها بفضلاتها بشكل مرعب، وعماراتها التاريخية متهدّمة، وبرج إيفل الشهير، العلامة التي لا تخطئها العين، منعزل تماماً تحيط به أبنية من الألومنيوم.

 في أوروبا "2024" لم تعد توجد وسائل نقل، وتحوّلت مواقف السيارات في الطوابق السفلى إلى مقابر، وصارت الجامعات مسكناً للمسنّين العَجزَة، أما حطام السيارات، فقد أصبح عبارة عن مراحيض، واندثرت مظاهر الثقافة كلها. 

مقدمة الكتاب بالفرنسية
مقدمة الكتاب بالفرنسية -gallimar.com

اعتزال الإنجاب 

هذا ما جرى إذن عام 2024، والسبب وراء ذلك هو النقص الهائل في عدد السكان. فقد رفضت النساء الإنجاب، ولم يعد بإمكان الرجال القيام بأي شيء، بعد أن فقدوا القدرة والرغبة في ذلك. وطبعاً تتجه الحياة في المدينة نحو النهاية الحتمية، أي المَوَات البطيء. 

شريحة سكان العالم تشمل الآن كبار السن والضعفاء فقط. وفي خلال رحلته المدهشة التي تملأها الرهبة، يلتقي الرجل فجأة (الذي كان في العشرين من عمره عام 1975)،  بمشهد مختلفٍ تماماً، وعلى النقيض مما يراه محيطاً به.

لقد شاهد طفلاً يبلغ من العمر ست سنوات يعيش "بالطريقة القديمة"، برفقة والده وأمه وأخيه وأخته، وتبدو على ملامحهم أمارات السعادة والهناء والرضى، متضامنين متّحدين برباط عائلي قوي.

الكاتب الشاب لا يتورّع في الدفاع عن العائلة "السعيدة" وعن منزلها، إذ راح يطلق الرصاص على جحافل الحَمَام. فهذا اللقاء بعائلة متعددة الأجيال وسط الانهيار التام، شكّل معجزة بالنسبة إليه. فالحاضر كئيب والماضي جميل، والحسرة كبيرة على تعذّر العيش في عالم لن يعود فيه مكان للأطفال. 

مسألة التأكيد على الأعمار أساسية هنا، لأن الموضوع المطروق يتعلق بالولادات، أي التوقّف عن الإنجاب وإنتاج الأجيال، وتقلّص أعدادها بشكل رهيب في سنتنا القادمة كما يراها الكاتب. وبالتالي فخط السرد يعتمد المقارنة ما بين ما كان عليه الأمر من عنفوان الحياة وبهجتها، وما سيصير عليه العام المقبل.

العلم.. قاتل

هكذا تخيّل الكاتب سنة 2024 مليئة بالشيوخ، بعد أن قتل الازدهار العلمي أميركا، وتقلّص عدد سكان الاتحاد السوفياتي (روسيا) بسبب الموت إرهاقاً جراء العمل الإجباري، وانقرض سكّان الصين بسبب سياسة الطفل الواحد لكل عائلة، التي سنّها الحزب الشيوعي الحاكم. هكذا صار "كوكب الشباب" هو  كوكب المسنّين.

 ولأن جان ديتور قادر على السخرية على نحو لاذع، فقد تخيّل أن رئيس فرنسا المحتمَل سنة 2024، يزهو بنفسه وهو يقف ويصرخ بأن البلاد مع وجود هذه الحالة أصبحت "دولة راشدة". وأن ذلك يجب أن يكون مصدر سعادة قصوى. 

عالم التفاهة 

هنا تتجلى فكرة الكاتب، إذ كيف يصير الرشد مرادفاً لتقلص الحياة، وعدم تجديدها بدماء محمّلة بأفكار غير أفكار الراشدين، الذي عاثوا فساداً في العالم، بأنانيتهم المتعالية التي لم تتسبّب إلا بالحروب الكبرى، والمعارك الأصغر في كل حدب وصوب.

لقد أدى ذلك كله إلى عالم منحطّ، قذر، مليء بالتفاهة في كل شيء. هذا هو القدر الإنساني سنة 2024، في ثنايا صفحات الرواية، بحسب رؤية الكاتب المستقبلية. وهو أي ديتور، لم يكن رحيماً على الإطلاق، بل جد متشائم. 

يفصّل الكاتب هذه الحالة المقزّزة بالقول، "الحياة الجنينية التي عشناها، هذه الرقّة المرّة، لم تكن مصنوعة من القبول أو الحب، بل من التفاهة، والتي استقرّت في علاقات الإنسان بأخيه الإنسان، الذين لم يعد لديهم ما يكفي من القوّة ليحبوا بعضهم، ويكرهوا بعضهم أيضاً.

صار العالم منحطاَ، يتحكّم فيه قتل الناس لبعضهم، أو التضحية بالنفس، أليس هذا جحيماً حقيقياً؟ يسأل الكاتب، ويضيف: كانت لديّ أفكار غريبة، وربما حقيقية، عن الخير والشر. اعتقدت أن علامة الشر هي القسوة والرذيلة، بل الحزن. وقلت لنفسي إن الجحيم ليس سوى ذلك: حزن هائل هادئ، وربما غير مؤلم."

 

الصحّ أو الخطأ

تنبؤات ديتور مرعبة من النواحي كافة، وقد لا يصيب في هذا التخييل، عبر تصوير عوالم سوداء، وطغيان شخوص ممسوحة الطباع وبلا طموح ولا حماس، ينسجون حبكة غير بسيطة، ويمنحون صورة محتملة لسنة 2024. لكن الأساس الأخلاقي الممزوج بالسخرية هو ما يُحدّدها.

 إن فكرة المغالاة في البحوث العلمية والتكنولوجية المُتَسارعة، في اختراع كل ما من شأنه أن يدفع بالمزيد من التقدّم إلى الأمام، هو ما سيتسبّب في دمار الإنسانية. وذلك بدلاً من الاهتمام بالجانب التربوي والأخلاقي الذي تجَسِّده قيم العائلة وتلاحم أفرادها، الأمر الذي يتوافق لدى الكاتب بالاهتمام بالجانب الروحاني، الكفيل برأيه، بتجنّب الواقع الأسود الذي يصفه.

ويلاحظ في الدول المهيمنة المذكورة في الرواية، تنامي التنافس في مجال البحث العلمي، وخصوصاً في مجال تطوير الأسلحة، وخصوصاً منها سلاح الدمار الشامل، الذي يستخدم في حروب تندلع هنا وهناك. 

هذه الدول هي نفسها التي تعرف بحسب أرقام إحصاءاتها تناقص المواليد، وتعرف بعضها اعتماداً أكثر على الهجرة المنتقاة من باقي دول العالم، كي تحافظ على ديمغرافية بشرية معيّنة. 

ناقوس الخطر

لكن الأهم في الرواية، وإن لم يتحقّق المصير المظلم الذي تنبأ به دوتير، أنها تضجّ بالهواجس الكبرى والأسئلة الملحّة التي كانت سائدة في الزمن الذي كُتبت فيه، مع كمية كبيرة من القلق الذي كان وراء تأليفها، جاعلاً منها ناقوس إنذار للخطر العظيم المحدق بالإنسانية. 

إن بعض مظاهر التغييرات الجذرية، وتحديداً على مستوى النظر إلى القيم وتعريفها، حاضر بقوة في عصرنا هذا، وسيتكثف أكثر سنة 2024، وما النقاشات الكثيرة التي تتناول مفهوم العائلة حالياً، إلا مظهراً من مظاهر هذه التحوّلات الكبرى التي ذكرها جان ديتور. 

فهناك صراع يصل إلى حدّ التناقض الكامل بين ما تُعلنه وتَوَدُّ تحقيقه دوائر نافذة في أوروبا والغرب في هذا المجال، وما لا تقبله شعوب ودول في الشرق، وفي دول الجنوب. 

طبعا، لن يحصل الدمار في بنيات ومدن العالم، بالمعنى المادّي الصرف، لكنه قد يحدث على المستوى الرمزي والأخلاقي والمعنوي، وهذا الأمر جعل الكاتب يتخيّل سيناريوهات بهذه القسوة، لإثارة أسئلة وجودية ملحّة، وتلك إحدى وظائف الكتابة والكُتّاب، وخصوصاً في الأدب المؤسَّس على الديستوبيا، أو على مجتمع خيالي، فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه.

 

 

تصنيفات

قصص قد تهمك