ثمّة من يقول إن الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو، يكتب ضدّ النسق متجاوزاً تراتيبته، والمنهجيات الكلاسيكية والدرس الأكاديمي الأدبي. وهناك من يؤكد أنه يكتب خارج النسق أصلاً، وهكذا، ما بين الضدّ النسقي والخروج عليه.
لكن وبالرغم من هذا التوصيف، لا يتّفق كيليطو مع منهج ما، و لا يقتفي مِسطرة إبداعية ما، بل هو مع النصوص ذاتها فحسب؛ لا اتفاق معها، ولا ضدّها، بل يروم الحرية الإبداعية الكاملة لمؤلف "من شرفة ابن رشد"، و"أنبؤني بالرؤيا". وهو يبقى بذلك ضمن الاتفاق، أو الموافقة، وإن كان يهدف إلى (الضدّ وخارجه).
احتفاء بالكاتب- الشاعر كيليطو ومنهجه، نظّم بيت الشعر في المغرب، دورة أكاديمية بعنوان "كيليطو والشعر"، في مدينة مراكش، تنوّعت المقاربات النقدية فيها ما بين الفلسفية، والفيلولوجية، ومقاربة الشعر.
شارك في الدورة مجموعة من الكُتّاب والباحثين الكبار، مثل عبد السلام بنعبد العالي، محمد الحرش، جمال الدين بنحيون، سعيد العوادي، خالد بلقاسم، محمد آيت لعميم، إسماعيل أزيات، أيمان خياتي، فيصل أبو الطفيل، نبيل منصر، حسن البحراوي، حسن المودن، عز الدين نزهين، غادة الصنهاجي، منير سرحاني، عبد الفتاح الحجمري. تسيير عادل عبد اللطيف، عتيقة السعدي، خالد بلقاسم، أحمد قادم.
رئيس بيت الشعر في المغرب الشاعر مراد القادري، قال لـ "الشرق": "نجح الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو، في بناء مشروع نقدي مُتفرّد، استوعب المناهج النقدية الحديثة، وقام بتكييفها بما يناسب وجهة نظر خاصّة ومتميّزة، أتاحت قراءة جديدة للسرد العربي القديم، نتج عنه تأويل مفارق، أضحى بدوره متناً يدعو للمحاورة والإنصات والانتباه".
أضاف: "نسعى إلى التفكير في الشعر كأفق للإنتاج الفكري والمعرفي والنظري، في تفاعل مع الأسئلة التي يستنبتها مع باقي المعارف الإنسانية والأنواع الأدبية الأخرى".
الكتابة بالقفز والوثب
يكتب والقارئ سيكتشف، أي نوعٍ من الكُتّاب هو؟ يكتب في مقالة "الكتابة بالقفز والوثب": "لست قادراً على تأليف كتاب بمقدمة وخاتمة، وبينهما بحثٌ مُستفيض لموضوع ما، في فصولٍ متراصّة البناء"، مستعيراً العنوان من الفرنسي مونتي.
نادراً ما يقتبس عبد الفتاح كيليطو من نصوص آخرين، ويشير بالكاد إلى النظريات الفلسفية والإبداعية و المراجع، وهو ما تتطلبه الكتابة بالقفز والوثب؛ الاسترسال بالفواصل والانقطاعات والثغرات، ينقطع لكي يتّصل. كما في "حياة كسرد متقَطّع".
يقول الكاتب وأستاذ الفلسفة المغربي عبد السلام بنعبد العالي في كتابه "الكتابة بالقفز والوثب": "لا يكفينا تحديد طبيعة الكتابة "بالقفز والوثب" بردّها إلى حالة نفسية، وتفسيرها بمَلل القارئ أو حتّى مَلل الكاتب، لا يكفينا التأويل السيكولوجي، وإنما لا بدّ من التأويل "الشعري"، الذي يُمكّننا من أن نذهب حتى القول إنّه مَلل الكتابة ذاتها".
تزيل كتابة كيليطو، الذي يثني كثيراً على الهشاشة، الحدود عمّا يكتب؛ تزيل البطولة والتبشيرية عن النصوص، في اجتماع على الاختلاط والالتباس، يقدّم النصّ وكأنه نسيج ولكن بتضاريس كيليطوية.
كتابة صحراوية
يقول بول ريكور : "أنا نتاج الالتباس"، وعليه يقع القارئ ذاته في شباكه وفخاخه، عندما ينعت كتابته بنوع مُحدّد. إنّها كتابة صحراوية، تستدعيك للتوغّل فيها، كل اقتراب فيها هو ابتعاد عن المركز، وكل توغّل هو اقتراب منه تحت سماء" تمشي معنا كلياً" .
يسعى مؤلف "والله إن هذه الحكاية لحكايتي"، إلى تخليص أدبه من النعت المُكرّس، حيث رسميات الكتابة ؛ تخليصه من الإجماع عليه بوصفه ألقاباً، بينما هو يؤمن بالقارئ الذي لا لقب له سوى القراءة فحسب.
القارئ كاتباً
هناك إهمال واضح للأسف في الثقافة العربية للمترجم وللمحرّر وللقارئ، بل حتى للمؤلف الذي حلّ عوض عنه الكاتب في الأدبيات: الأدب هو التأليف، شاملاً في مفهومه الكتابة.
يجمع المؤلف في ذاته القارئ والتراكم المعرفي لِما قرأه، يضمّ إليه الجغرافيا والتاريخ والعلوم، وما يعثر عليه، فلا مؤلف من دون ذلك؛ هو ثلّة من الكُتّاب والنصوص والتجارب.
يقول الشاعر الفرنسي أراغون: "كلنا نُقلّد ولكن لا أحد يصرّح بذلك".. لا أعتقد أن عبد الفتاح كيليطو، يتقبّل في نفسه نعت باحث أو ناقد أو مُفكّر، ويكتفي (ربما) بتوصيف المؤلف أو الكاتب، ولعلّ نعت "القارئ" هو الأقرب إليه، وذلك لأنه يريد إعادة الاعتبار للقارئ بوصفه كاتباً بالنتيجة.
يرتكز كتابه" التخلّي عن الأدب"، على القراءة كمصير للكاتب "دون كيشوت، لا يفكّر في التخلص من الأدب، في التخلي عنه، لا يتصوّر أي مشروع حياة غير خاضع لقراءاته" .
يقول بورخيس:" ليفتخر الكُتّاب بما كتبوا، ولأفتخر (أنا) بما قرأت". نستعير تحويراً عبارة موريس بلانشو عن المترجمين: "القرّاء أولئك الكُتّاب النادرون"، هكذا يكون القارئ ذا فضيلتين وهما: "الكتابة والنُدرة"، ولعمري، مَن يريد أن يكون إلا نادراً.
كيليطو والمكتبة: ولدتُ في مكتبة كبيرة
كان بورخيس يقول "ولدت في مكتبة كبيرة"، والكاتب أصلاً هو مكتبة. كانت علاقة كيليطو مع الكتب الفرنسية والعربية منذ طفولته في مدينة الرباط. يأتي متنه الشعري من هناك من أيام الطفولة والمدرسة، وهكذا هي علاقته بالشاعر المتنبي ودانتي وأبي نؤاس والبحتري، بل وحتى رحلة السندباد، وكتاب "ألف ليلة وليلة".
يقارب الشاعر الرحلة السندبادية وحكي شهرزاد شعرياً، يشهد كتابه "المعرّي ومتاهة القول" على تقديره للشعر، حيث فيه سؤال العلاقة بالأب وبالأم، مبلوراً تأويلاً عن تصوّر المعرّي للزمن، على نحو يستجلي موقفه من الزواج ومن الإنجاب، بمقاربة موسومة باختلافها، عن الطرائق السائدة في تأويل الشعر العربي القديم، إذ يتحوّل الشعر إلى متاهات قولٍ لا حدّ لها .
لزوم ما لا يلزم
شغف كيليطو واضح بالمعرّي، إذ افتتح الدورة الأكاديمية بمحاضرة بعنوان "لزوم ما لا يلزم"، جملة الشاعر الضرير التي أصبحت مثالاً عن تخليص الأشياء من عدم وجوبيتها.
ثمّة تقدير لديه للشعر بوصفه خطاباً متحوّلاً ما بين الأجناس الأدبية والفنية، بل وحتى الجغرافيا (التضاريس). يقول: "الشعراء هم مناصرو الفلسفة"، والفيلسوف ذو مأزق شعري وحياتي عندما يريد الاقتداء بالشعر، أو يتصوّر العالم شعرياً؛ خطاب الفاجعة والخراب والوباء شعرياً.
يقول بلانشو: "الفيلسوف الذي يكتب كما لو أنه شاعر، إنما يسعى إلى دماره الشخصي، وحتى في سعيه هذا، لا يقدر أن يحقّقه. الشعر سؤال بالنسبة إلى الفلسفة التي تزعم أنها تقدّم جوابه، وتفهمه (تعرفه). إن الفلسفة التي تعيد النظر في كلّ شيء، تخفق في الشعر الذي هو سؤال يفلت منها".
الشعر لا يتجدّد إلا بالابتعاد الصريح عنه
أولى كيليطو عناية بالغة للشعر، فانشغاله بنَسق الأدب العربي الكلاسيكي، اقتضى منه على المستوى المعرفي والمنهجي، أن يُدمج الشعر، بوصفه أحد المُكّونات الرئيسة لهذا الأدب، ركّزت مقارباته على نصّين تحكمهما علاقات شديدة التشعّب مع الشعر، يتعلّق الأمر بنصّ "المقامة"، ونص "ألف ليلة وليلة".
ما موقف عبد الفتاح كيليطو (حاز جائزة الملك فيصل العالمية 2023) من الشعر؟
لا يمكن طرح السؤال هذا مباشرة، لأن الإجابة عليه تعود إلى فحص المتون الشعرية المتشعّبة والوفيرة في أدبه، على الرغم من اشتغاله على السرد العربي ظاهرياً، وكذلك إلى موقفه من ترجمة الشعر، التي يعتبرها في مأزق شعري ووجودي.
يقول كيليطو: "إن الشعر مقصور على العرب"، في اتصال بمعنى كتابه "لن تتكلم لغتي"، أي لا تستطيع أن تستبطن الشعر العربي، إشارة تأويلية إلى الشعر ولغته وعربيته ومجتمعه العربي، وفي مقاربة كذلك نحو كتاب آخر "أتكلم كل اللغات ولكن بالعربية".
ولا يغفل العلاقة ما بين الشعر والفلسفة، من ناحية التلقّي الجمالي واللغوي. "الفلسفة متاحة للجميع، بينما الشعر مهيّأ لأصحاب القربى، الشعر يحيل على غيره".
فن الذات
الشعر فنّ الذات والغيرية معاً، يتعلّق الأمر كذلك بكتابته وتوجّهه، إذ ينافس بل يتفوّق على الفلسفة بامتداداته نحو الغير، وغيريته شاملة وعميقة، وإن بدا الشعر ذاتياً.
يقول هايدغر: "مصير العالم يُعلن عن نفسه في أعمال الشعراء، من دون أن يكون قد ظهرَ وتجلى كتاريخٍ للكينونة". إذاً، الشعر معنيّ بمصير العالم، وهو مع التاريخ يشكّلان كينونته.
من هنا، اهتمام عبد الفتاح كيليطو بالشعر، الذي نجده في شعرية المقامات، إذ" تتغذّى المقامة صوتياً من الشعر، وفيها السجع والقافية نهلاً منه".
أتكلّم كل اللغات ولكن بالعربية
يستحقّ الكاتب كيليطو، دراسة وافية عن علاقته بالقارئ والهوامش والحواشي والقبسات، باعتباره من بنيات الأجنبي والغريب والمهاجر (طوبى للغرباء). ثمّة من يثني على الكتابة بمقدار وجود "الأجنبية" فيها. ها هو فالتر بنيامين، ينتقد الترجمات لأنها لم تُفرنس اللغة الألمانية مثلاً، قدّمتها في ألمانية خالصة من دون ثُلمة أو غرابة تراكيب.
الكاتب أجنبياً في حياته ونصّه، هكذا تناول كيليطو المتنبي والمعرّي ودانتي وغيرهم بوصفهم أجانب، عازبين في لغتهم وتصوّراتهم الوجودية. وهو سأل في السياق ذاته حول الأقوال العربية المأثورة بوصفها أجنبية، بقوله كيف نستطيع أن نُترجم الجملة العربية الشهيرة - الخطاب، " أما بعد" إلى العربية؟ أي نترجم اللغة (الأجنبية) إلى لغة الأم ذاتها.
كتابة المحو شعرياً
كتب أبو نؤاس الشعر، بعدما حفِظ ألف بيتٍ منه، لماذا رقم الألف تحديداً؟ هل هو اقتراب من (ألف ليلة وليلة)؟ ثم طُلب منه أن ينسى ما حفظ، فنسيه كما نسيَت شهرزاد ذاكرتها والسندباد أسفارَه.
أراد أبو نؤاس أن يصيرَ شاعراً محوِّلاً صفته. تتّجه رغبة التحويل إلى تكميل النقص، فلا بدّ لها من الذاكرة - الحفظ عبر النسيان إذاً. المحو أوّلُ تحوّل يُرافق الإنسان في تغيير ذاته، ثم في إنجاب ذواتٍ أخرى، وهو أوّل هناء تعيشه الذاكرة، وسوف يبقى هكذا.
الحكمة في الحكي
في جانب من اهتمام الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو بـ "ألف ليلة وليلة"، هو الحكمة أو العبرة من الحكي؛ البقاء على قيد الحياة، ومن أسفار السندباد كذلك، تقديم الحكمة والتجربة كخلاص، هذه خلاصة لا تهمّه إلا من الناحية الدرامية.
هنا ترتبط بالشعر الذي يقدّم الحكمة، وهي من أغراضه الأساسية، ببيت شعري واحد، ترسّخ تاريخياً كحكمة، بينما في السرد الذي لا يصل إليها، إلا من طريق حكاية طويلة أو حادثة. تصوّر الوجود شعرياً، هو ما أيقظ الاهتمام بالشعر.
تجربة حياتية ذات نسق ثقافي متنوّع، يختصرها الشعر بجملة، ويعاني السرد كثيراً من أجل الوصول إليها، كما يقول هولدرلن: "إقامتنا على الأرض، إقامة شعرية"، وهي النتيجة نفسها التي آلت إليها شهرزاد وحكايات السندباد وغيرها.
كما أن أدب عبد الفتاح كيليطو، يحاول أن يتخلّص من الخلاصات والنتائج التي تفضّلها الأحزاب والعقائد، فلا خلاصة يقدمّها هو، إنما يعوّل على القارئ بذلك، مثلما يتحاشى الفكر الشعري الخلاصات والعقائد.