"الساحة" الجزائري عمارة أوروبية وفضاء للفنانين والسينمائيين

من مقتنيات فندق الساحة التاريخي في الجزائر. 26 ابريل 2024 - الشرق
من مقتنيات فندق الساحة التاريخي في الجزائر. 26 ابريل 2024 - الشرق
الجزائر-عبد الرزاق بوكبة

آلات موسيقية قديمة، قطع من السجاد العتيق، ملصقات وبوسترات فنية في المسرح والسينما، تملأ قاعات فندق "الساحة" التاريخي، في قلب مدينة برج بوعريريج الجزائرية، وتنتمي إلى جغرافيات وتواريخ مختلفة.

تشكّل هذه القطع مادّة مهمّة للباحثين في هذه المجالات، وخصوصاً إذا أضفنا إليها الأسطوانات وأجهزة المذياع والتصوير والتحميض، التي لم تعد متاحة في الأمكنة المخصّصة للآلات القديمة. 

كتب أدباء ومسرحيون وسينمائيون وإعلاميون كبار عنه بانبهار وإعجاب، وأوصوا بزيارته والحفاظ عليه بوصفه "ذاكرة لا تنام". ويختاره المسرحيون والسينمائيون على الرغم من وجود فنادق جيدة في البلاد. 

تعود ملكية الفندق إلى فنان مسرحي معروف هو ربيع قشّي (1965)، في رصيده نحو 50 عرضاً مسرحياً بين تمثيل وإخراج، آخرها  "فن الإيهام" قبل أساببع.

يقول قشّي لـ "الشرق" عن سبب تحويل المبنى إلى فندق بروح متحفية: "تنبّهت إلى انسحاب الأغراض التي كانت تشكّل المعيش اليومي للجزائريين، لصالح الأغراض والآلات الحديثة، من دون أن نجمعها ونحافظ عليها، فلم أجد أفضل من الفندق الذي يقصده يومياً زبائن من كل الدول".

مقتنيات
مقتنيات "الساحة" الجزائري- الشرق

يكفي أن تجالس ربيع لمدة قصيرة في المقهى الذي يعلوه الفندق، وهو من المقاهي الشعبية القليلة، التي ما تزال تقدّم الشاي الأخضر في الهواء الطلق، حيث تلتقي شرائح المجتمع الجزائري كلها، على الرغم من هيمنة المقاهي العصرية والمغلقة.

 الرجل شغوف بالذاكرة الشعبية التي يعتبرها "بيت الهوية" ويقول: رهاني كفنان أن أعجن تراثي لأستخرج منه مادة قابلة، كي تنسجم مع حاضري ومستقبلي. 

يضيف: "ضمّيت في البداية كل ما كانت تملكه أسرتي إلى الفندق؛ وقصدت أسراً أعرفها، فأنا سليل قرية القصور التي شيّدت قبل عشرة قرون، ثم راح المتحف يتوسّع بالشراء والإهداء، ولا يزال المشروع مفتوحاً أمام الناس".

بيوت الأوروبيين

يقع الفندق في محيط أثري، ويبعد 100 متر عن حي "السراج" أو البرج القديم، حيث ما تزال البيوت والمباني التي كان يسكنها المستوطنون الأوروبيون قائمة، قبل أن يرثها عنهم الجزائريون بعد الاستقلال الوطني.

الفندق هو مبنى صغير موروث عن الفترة الاستعمارية الفرنسية، تاربخ تشييده يقترب من قرن.

ونلاحظ من خلال أبوابه ونوافذه وسقفه المطلي بالقرميد الأحمر وشرفاته الصغيرة، طبيعة الهندسة المعمارية التي كانت الإدارة الفرنسية تعتمدها، في المناطق الجزائرية الداخلية، وتختلف عن تلك في المدن الساحلية الكبرى، مثل الجزائر العاصمة ووهران وعنابة.

مقتنيات قديمة في فندق الساحة
مقتنيات قديمة في فندق الساحة - الشرق

ينفي قشّي أن يكون التراث مضاداً للحداثة، "ذلك أن كل حداثة لا تنبثق من تراث إنساني مكّن السابقين من التعاطي مع الحياة ومتطاباتها بعبقرية وإيجابية، هي قفزة غير مضمونة". 

طبيب جزائري

يحكي أن المبنى "يعود في الأصل إلى مثقف جزائري، هو الطبيب بن سالم، الذي استطاع في النصف الأول من القرن العشرين، أن يقهر الإكراهات التعليمية التي فرضها الفرنسيون على الجزائريين، إذ كانت الدراسة غير التقليدية، حكراً على أبناء الفرنسيين والمعمّرين الأوروبيين وحدهم".

 هكذا فإن قيمة المبنى تتأتى من كونه ملكاً لعائلة مثقفة ومناضلة، من أجل الاستقلال الوطني، وما تزال بعض أغراضها معروضة في الفندق".

كبسولة الزمن

على السلّم الرخامي والغرف الإحدى عشر وقاعة الاستقبال وردهة الفندق، نجد أغراضاً تتعلق بعمليات الحرث والحصاد وجني الزيتون وإعداد الأطعمة الشعبية، مثل الكسكسي وجزّ الصوف والنسيج والختان والحلاقة وقلع الأسنان وإطعام الحيوانات والطيور. 

أما الإضاءة، فتتأتى بالإضافة إلى المصابيح الكهربائية، من قناديل تقليدية يعود بعضها إلى القرن السابق، بما يوفّر حميمية خاصة، تمنح المكان ومقتنياته نكهة مختلفة. 

وليس مستبعداً أن نعثر من بين التحف التي يضمّها المكان، على أغراض نادرة، مثل الصندوقين الخشبيين الكبيرين، ويعود أحدهما إلى عهد الدولة الحمادية، التي هي إحدى الإمارات الإسلامية الأمازيغية، قامت في الجزائر خلال القرن الميلادي الحادي عشر، فيما يعود الثاني إلى العهد العثماني الذي بدأ في الجزائر، خلال مطلع القرن الميلادي السادس عشر.

روح الفن

يقول الروائي الجزائري أمين بن باطة، "إن الوقوف أمام نقوش الصندوقين، جعله يرصد الفرق بين طبيعة الثقافة الأمازيغية والثقافة العثمانية، وكيف انصهرت أبعاد الهوية الثقافية الجزائرية في البعد الإسلامي.

يسأل بن باطة الذي يستثمر روائياً في رموز الثقافة الأمازيغية: "لماذا لا تجمع فنادقنا الكبرى التي تفخر بعدد نجومها مثل هذه الأغراض، بحكم أنها مقصودة كثيراً من قِبل الأجانب، ليعرفوا تراثنا وكنوزه المختلفة؟ أقترح على وزارة السياحة أن تضيف إلى معايير ترقية الفنادق، مدى اقتنائها للتحف التراثية".

مخرج الأفلام القصيرة عصام تعشيت يقول إنه "يشعر بخيانة روح الفن إن هو اختار فندقاً آخر، بل أشبه بأن يبيت إنسان عند أسرة غريبة، أثناء زيارته لمدينة ما".

يشرح مخرج فيلم "هيومن" والمشرف على مهرجان "إمدغاسن" السينمائي فكرته: "ما أجمل أن تغمض عينيك على صور فنانين كبار، وعلى مجلات وكتب تضعه في السياق التاربخي الذي نشأت فيه فنون بلاده، وعلى ملصقات لأفلام ومسرحيات تذكّره بكونه سليل حركة فنية وثقافية كبيرة". 

يضيف: "أفكر في إنجاز فيلم يكون الفندق فضاءه المكاني، وليس بالضرورة هو المقصود في الفيلم، لكن ما سيوفره من إضاءة وديكور ات، ستمنح الفيلم عمقاً خاصاً".

من جهته، قال الإعلام رابح سلطاني، إنه تعوّد أن يجد أغراضاً خاصة بفن معين في متحف متخصّص، لكن أن نجد الأغراض المتعلقة بكل الفنون في فضاء واحد، "فإن الأمر يعدّ إنجازا فنياً في حد ذاته. كثيراً ما نتحدث عن حوار الفنون، لكننا قليلاً ما نحقّق ذلك الحوار في مكان واحد". 

تصنيفات

قصص قد تهمك