حين ولدت حسنة حسينات التي ستُعرف لاحقاً بحسنة البشارية، نسبة إلى منطقة بشار، في الجنوب الغربي للجزائر عام 1950، كانت البلاد محتلة من قِبل الفرنسيين، وكان مسقط رأسها يشكّل منطقة استغلال للفحم والبشر.
جاء أجداد حسنة الأفارقة إلى الجزائر قبل قرون، واحتفظ الأحفاد بفنونهم وطقوسهم. إذ تأتي موسيقى "الديوان" أو "القناوي" في طليعة فنون هذه الشريحة الأفريقية، التي اعتنقت الإسلام والعربية، ويسمى عازفوها ومغنّوها "البلاليين"، نسبة إلى الصحابي بلال بن رباح الحبشي.
وتعتمد هذه الفنون على الإيقاع الأفريقي المعجون بروح وعبارات صوفية، ومن أشهر آلاته الوترية "القمبري"، وأشهر آلاته الإيقاعية "القرقابو".
جراح محفّزة
ورثت حسنة البشارية ذكرى أجدادها المستعبَدين، وواقع شعبها المحتل منذ عام 1830، ضمن واقع شخصي حملها على أن تخدم في البيوت، فوجدت في موسيقى الديوان متنفساً ومهرباً وطريقاً للتعبير عن الذات، وإثباتها في الوقت نفسه، ذلك أن مغني هذا النمط الفني يسمّى "المعلّم"، ويحظى بتوقير شعبي لافت.
إنه هو المقام الذي كان يحظى به والدها، فاستغلّته لتجاوز التقاليد التي تحرّم على المرأة أن تتكلم، ناهيك عن الغناء، وصنعت آلتها من مكنسة، فكأنها أرادت القول، إنها سوف تتحدّى وتكنس ما يعيق خطواتها نحو المجد.
شكّلت نهاية ستينيات القرن العشرين، مع صديقات لها فرقة نسائية، واقتحمت الأعراس والحفلات ومناسبات عودة الحجيج؛ وصمدت في وجه التشويش، حتى إنهم كانوا يقذفون خيمة عروضها بالحجارة.
وفي الوقت الذي كان مناوؤوها من حراس التقاليد يتوقّعون أن ترمي بالآلة وتلتحق بالحريم، اقتنت قيثارة كهربائية وجهاز تكبير الصوت، وأضافت إلى إحياء الأعراس إحياء حفلات في قاعات متخصّصة.
تطلّعات فنّية
دفعها شغفها الفني أن تتعلم العزف على آلات موسيقية غريبة عن فن الديوان، مثل العود والهارمونيكا، فصبغت فنها بلمسة جديدة، بيّنت أن سمراء الديوان لا تتحدى بيئتها الاجتماعية فقط، بل تتحدّى أصول الفن الذي تمارسه أيضاً، فهي تحاول أن تجدّد فيه وتخرج معه من شرنقة الموروثات.
يقول الفنان جيلالي هرويني لـ "الشرق"، "إن حسنة البشارية لم تفهم التحرّر انسلاخاً، بل فهمته انعتاقاً، وعرفت بفطرتها وحسّها العميقين، أن حريتها لن تكتمل إلا بتحرير فنها من قيوده، فراحت تغيّر فيه كلماتٍ وآلاتٍ ونوتاتٍ وطريقة عرض، حتى بات التأريخ لموسيقى الديوان بما قبلها وما بعدها".
يتابع: "لذلك فإن فن الديوان الذي كان يمارسه أبوها وبقية المعلمين، كان يعبّرعن ذاكرة الأجداد المستعبَدين، بينما الديوان الذي تمارسه حسنة، يعبّر عن واقع الإنسان الأفريقي الجزائري، المتطلع إلى غد أفضل. لقد غيّرت حتى على مستوى الخطاب؛ بما جعل أغنيتها تحظى بالقبول خارج مجتمعها".
نقطة التحوّل الأولى
كان عام 1976 حاسماً في مسار "سمراء القمبري"، بأن تلقت دعوة من اتحاد النساء الجزائريات، لإقامة حفل في مدينة تاغيت، التي تمثّل جوهرة السياحة الصحراوية، فلفتت انتباه السيّاح الأجانب، وكان فيهم إعلاميون وسينمائيون، إلى خصوصية فنها، بما مهّد لها الخروج من الشرنقة.
على مدار ربع القرن الموالي لهذا الحدث، تأرجح حضور حسنة بين ظهور في الشاشات والإذاعات، واختفاء بسبب موجة العنف والإرهاب التي اجتاحت الجزائر، خلال تسعينيات القرن العشرين.
لكن النقطة المفصلية جاءت عندما تلقّت دعوة عام 1999، للمشاركة في حفل نساء الجزائر، في واحد من أشهر مسارح باريس هو "الكاباري سوفاج"، إلى جانب فنانات متميّزات مثل سعاد ماسي، فاستغلت الفرصة، وقدّمت عرضاً ثرياً بالخصوصيات، من ذلك أنها غنّت حافية القدمين، بهندامها الأفريقي والجزائري.
نقطة التحول الثانية
سرعان ما وجدت حسنة البشارية، بعد هذه الحفلة، طريقاً إلى واجهات الشاشات والإذاعات والصحف والمجلات الغربية، وباتت لها إدارة أعمال رتبت لها تأسيس فرقة ضمّت عناصر أجنبية من فرنسا والبرازيل، فضلاً عن الجزائريين، وأطلقت ألبومها الأوّل "الجزائر جوهرة" عام 2002، وجابت به أوروبا والأميركيتين والفضاء العربي، وغنّت مع أصوات بارزة منها الإيطالي إيجونيو بيناتو.
ولئن كان ألبوم "الجزائر جوهرة" تكريماً من حسنة لوطنها الخارج لتوه من عشرية خلّفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى والمعطوبين؛ فإن ألبومها الثاني كان تكريماً لشقيقها الراحل الذي خلف أباها في رعايتها ومرافقتها فنياً، ثم كرّمت مسقط رأسها الصحراوي، من خلال ألبومها الثالث "ألوان الصحراء."
ومثلما بدأت مع الغناء المنفرد، ثم انخرطت في فرقة تضم 12 امرأة أسستها رفيقتها سعاد عسلة، عادت قبل أربع سنوات إلى انفرادها، من غير أن تتخلى عن فرادتها، التي تجلت على أكثر من صعيد، من ذلك أنها عاشت "معلمة" في فن كان من اختصاص الرجال.
خسارة الرحيل
شكّل رحيل حسنة البشارية، الأربعاء، في مسقط رأسها في بشار، صدمة لمحبيها. وظهر ذلك جليًاً في مواقع التواصل، من خلال المنشورات والتعليقات والشهادات.
وكتب الشاعر والروائي ووزير الثقافة السابق عز الدين ميهوبي: "وداعاً للصوت الذي حمل عبق الصحراء في كل العالم، وهي تعزف على "القمبري" الذي ارتبط باسمها".
أضاف: "على الرغم من ظروفها الصحية، تشارك في الفعاليات التي تُدعى إليها. حيث يحتفي بها جمهورها الواسع، ويردّد معها أغانيها، ويتفاعل مع "الجزائر جوهرة"، التي جعلت منها أيقونة في التنوّع الفني الجزائري".