إذا كان الفكر ما يزال يعتدّ بمقولة الفيلسوف غرامشي: "القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد، وبينهما تظهر أعراض مرضية كثيرة وعظيمة في تنوعها"، فإن أزمة كورونا تحديداً، أسهمت بالحسم وهو أن الجديد، قد ولد فعلاً.
ويقول فيلسوف التفاؤل بثورة الاتصالات ميشيل سير: "المستقبل ليس لمجتمعات الإنتاج، بل لمجتمعات التواصل والاتصالات".
لقد وجّه الفيروس انتقادات كثيرة للفكر والمعرفة والفن والأدب، وذلك بعدم الاستجابة إلى المتغيّرات والظروف الجديدة التي انتجتها الكارثة الكورونية، فتثاقل الفكر باستيعاب ما حدث، بدعوى تتطلّب الاستجابة المعرفية والتأني وانتظار النتائج.
تعاونت التقنية مع المعرفة بسبب كورونا في إنتاج الوجود الرقمي، الذي يضمّ، الفكر والأدب والفن وسوى ذلك، عن طريق الذكاء الاصطناعي والتواصل الرقمي.
أشهر كاتب غير معروف
عَرف حفل توقيع الكاتب السعودي أسامة المسلم (1977)، في معرض الرباط للكتاب، إقبالاً شديداً من جمهور مغربي شاب، متحمّس لكتاباته في عالم الفانتازيا والخيال والرعب والتشويق، بعد أن صدرت له في هذا المجال 32 رواية، أبرزها سلسلة "بساتين عربستان" و"خوف".
جاء جمهوره، في غالبيته من الفتيات (12-17 سنة)، وأحياناً بصحبة أحد أفراد العائلة، من مناطق متنوّعة في المغرب، بغية الحصول على نسخة موقّعة من الكاتب لإحدى رواياته، ما أسفر عن حالات التدافع وإغماء لم يشهد لها تاريخ معرض الكتاب ذاته، ولم تحدث مع أي كاتِب شهير البتة، ما دفع إدارة المعرض لإلغاء حفل التوقيع.
قال أحد المُعجبين "إن المسلم هو كاتب الفانتازيا الأوّل عربياً". وأفاد الكاتب السعودي ذاته قائلاً: "أنا سعيد بهذا الحشد الضخم، وحزين في الآن ذاته، لأني لم أستطع تلبية طلبات جمهوري".
"نحن أمام رسالة قصيرة جاءتنا من المستقبل: أن استيقظوا، إن عالماً جديداً يتشكّل، ويولد معه إنسان جديد لا يخضع بالضرورة لقوالبنا القديمة وأدوات فهمنا العتيقة".
أضاف: "بنيت علاقتي بالجمهور المغربي منذ 3 سنة، وفوجئت بهذا الاندفاع نحو أعمالي، سأحاول بالتعاون مع وزارة الثقافة تنظيم حفلات توقيع ما بين شهري يوليو وأغسطس".
أدب الفانتازيا والرعب والغيرية
يقول الكاتب السعودي في حديث مع القناة "الإخبارية": "إن الأدب الفانتازي يحتاج إلى بناء خاص.. الكاتب يجب أن يسبق الجمهور ولا ينبغي أن يظل وراءه"، كما أشار إلى إتمام صفقة لإخراج أعماله إلى السينما والتلفزيون.
يجيب الناقد المغربي والباحث في سيكولوجيا الأدب حسن المودن، عن سؤال "الشرق"، حول أدب الرعب: "تستحقّ رواية الرعب دراسة متأنّية رصينة في علاقتها بنوع الفئات الاجتماعية التي تُقبل عليها، في ضوء السياق التاريخي والاجتماعي والنفسي للمجتمع العربي اليوم، في علاقة مع الموت والعنف والشرّ".
يتابع: "أهم ما يميّز رواية الرعب، هو الخوف؛ لم يعد الآخر مثلاً هو الحب والأمان والملاذ في التفكير الإنساني عموماً، كما كانت صورته في السبعينيات. لذلك، يتعلّق قارئ هذه الروايات، بنوع من الخلاص، الذي يقدّمه له البطل كمقاومة الموت المعنوي والجسدي".
إعلام التواصل والإشهار الأدبي
تابعت "الشرق"، ما كُتب عن ظاهرة الكاتب السعودي، في الصحافة المغربية والعربية وفي مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تضاربت الآراء ما بين، مؤيّد ومعارض.
يقول الكاتب والمترجم محمد آيت لعميم لـ"الشرق": " في الحقيقة لا يفرح بهذا النتاج الأدبي، لا كاتبه، ولا قرّاؤه الذين هم غير مؤطّرين قرائياً ومعرفياً".
بينما كتب يونس مسكين: "نحن أمام رسالة قصيرة جاءتنا من المستقبل: أن استيقظوا، إن عالماً جديداً يتشكّل، ويولد معه إنسان جديد لا يخضع بالضرورة لقوالبنا القديمة وأدوات فهمنا العتيقة".
"ثمّة من يقول باعتماد الكاتب السعودي على شركة تجارية تتولى الإشهار والترويج الرقمي له عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك رأي مفاده، باعتماده على اليوتيوبيرز".
أضاف: "أسمع بهذا بالكاتب للمرّة الأولى، وأكثر ما شدّني في هذا النقاش، هو العجز الذي استبدّ بنا أمام ما يجري حولنا من تحوّلات، وإصرارنا على استقبال الوقائع والأحداث بدافع الأحكام المسبقة واليقينيات، والاحتماء بالمتاريس الرملية، ومسارعتنا إلى إنتاج المواقف والأحكام بدل عناصر الفهم والاستيعاب".
الوجود الرقمي والأدب
ثمّة من يقول باعتماد الكاتب السعودي على شركة تجارية تتولى الإشهار والترويج الرقمي له عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك رأي مفاده، باعتماده على اليوتيوبير المغربي عبد الله ويلقب بـ(بيرمون)، الذي قدّم بعض روايات أسامة المسلم في فيديوات جذّابة للشباب، عن طريق برامج الذكاء الاصطناعي، مروّجاً لها في مواقع التواصل الاجتماعي.
إن الاعتماد على "وكيل" ثقافي وأدبي، هو شائع في أوروبا وأميركا، بينما يتغاضى المبدع والفنان في العالم العربي عن ذلك.
الشركة التجارية أو الوكيل الثقافي
أطلقت هولندا تقليداً ثقافياً شعرياً، بعنوان "شاعر الأمّة"، وكان الشاعر الهولندي خيرت كوميريه، هو أوّل من حاز اللقب، ثم شعراء هولنديون آخرون (يعتدّ الجمهور بنتاجهم).
لكن حالما تغيّر أسلوب آلية الترشيح والتصويت من قبل الجمهور عبر الإنترنت، انكفأ الشعراء المكرّسون في الأدب الهولندي، بسبب عدم تفضيلهم العمل بالتقنية وبناء شبكة علاقات رقمية، بينما نال ذلك اللقب شعراء هولنديون شباب، لا ينتمون إلى التراث الشعري الهولندي (الجاد)، بمعنى منتقدي أسامة المسلم.
دراسة تلك الظاهرة اجتماعياً وإبداعياً
ذهب السجال في غالبيته إلى القيمة الإبداعية والروائية لدى الكاتب أسامة المسلم، إذ وجّهت له انتقادات على صعيد اللغة العربية والبناء، وفي ما يتعلّق بالأدب الجاد والملتزم، وقد أوفى كل ذي حقّ حقَه من جهة رأيه وتفكيره، بينما المطلوب هو دراسة تلك الظاهرة اجتماعياً وإبداعياً، فمَن يقول بأن أدبه هو جادّ ومحترم، ينظر سواه باعتباره غير ذلك.
يقول ميشيل سير: "نحن نتواجد على ظهر سفينة يتسلّل إليها الماء تدريجياً، لذلك، علينا التوقف عن الجدال والصراع، والعناية بإصلاحها". وهكذا ينبغي العناية بالظاهرة وليس تفسيرها، أو توجيه اللوم إلى "التفاهة" والسطحية فحسب.
كان الأدب دائماً في موضع خلاف وهنا قوّته، بينما الاتفاق عليه، يُضعف تنوّعه. نحنُ نتاج الزمن وهو الذي يقرّر موقعنا. يقول شوبنهاور "إن الذات التي تدرك العالم، هي التي تجعله موضوعاً لها؛ ومن هنا فهو "تمثّلي"؛ أي أنني (أنا) الذي أمثّله لنفسي على نحوٍ ما".
أيّدت أبحاث العلوم الطبيعية هذا الرأي، إذ قالت بأن الألوان أو الأصوات، هي ذاتية، أي إنها ليست صفات في الأشياء نفسها، بل تضفيها الذات على الأشياء، وأكده الفيلسوف الألماني (كانت)، حين جعل المكان والزمان صوراً ذاتية، وكذلك المقولات التي تفهم الذات من خلال العالم الخارجي.
نحن نرى الظاهر من العالم فحسب. فنقول (نحنُ العالم)، وهكذا نُسقط عليه تصوّراتنا، بينما العالم هو قوّة ووجود مستقل بذاته.
الطب والتربية وجيل الإصبع السادس
استعار الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير حكايات الأطفال، موظّفاً إياها، في كتابه "الفتاة ذات الإصبع الصغير"، أي الإصبع المستعمل في الكتابة على شاشة الهواتف الذكية والحواسيب، إذ يكتب الشباب بإصبعين بشكل سريع ومتزامن، وكأنهم يمتلكون إصبعاً سادساً، مقدّماً نظرة تفاؤلية بإنجازاتهم "المجتمع المعلوماتي"، في منظومة تعليمية وتربوية كاملة.
مَن يقوم بالعمليات الطبية الدقيقة والصعبة التي تعتمد الليزر، وتتطلّب حركات مرنة للأصابع واليد؟
تقول التجربة العملانية الطبية: هم الأطباء الشباب تحديداً، أصحاب الإصبع "السادس" ولديهم سرعة فائقة كتابة على شاشة الهاتف الذكي، مقارنة بكبار السنّ. يتعلّق ذاك الإصبع بالتربية أيضاً عندما يُنصت الأب إلى تعليمات وتوجيه ولده أو ابنته شرحاً لاستعمال التقنية والهواتف ومواقع التواصل الاجتماعي، فيصبح الأب أو الأم منصتاً (ة) وتابعاً لولده بعد ما كان هو الرئيس والقدوة.
وداعاً للرصانة الأدبية .. مرحباً بالخفّة
تغيّرت سيمائيات الإشهار بفضل الوجود الرقمي، كذلك المكتبات والكتب التي يمكن حفظها في (يو أس بي) صغير. تغيّرت التربية ومفاهيم العدالة والحرية وحقّ الأمم في تغير مصيرها، وها هي الحرب ضدّ غزة، تفضح الغرب والعدوان على الإنسان، عربياً أم أوروبياً.
وعليه، لماذا لا تتغيّر الكتابة والفن والسينما والإبداع؟ لم تعد الفلسفة إلّا "فناً للعيش"، أو "العيش بصحبة الفلسفة"، وما التراجيديا إلا في معنى الفرح والحياة، احتفاءً باليقين والشك، وبالغياب في شكل الحضور، والركام في صورة الباعث على البناء.