"سيدة مراكش".. فرنسية ترجمت القرآن ورفضت الاستعمار

المستشرقة الفرنسية دينيز ماسون في طفولتها - maisondenisemasson.ma
المستشرقة الفرنسية دينيز ماسون في طفولتها - maisondenisemasson.ma
مراكش-علي عباس

"سيدة مراكش" أو المستشرقة والمستعربة دينيز ماسون (1901-1094)، التي انتقلت من حياة الممرضة الراهبة، إلى عالم الاستشراق. 

ترجمت معاني القرآن إلى الفرنسية، بعد أن تعلّمت اللغة العربية الفصحى والدارجة المغربية، وصدر كتابها في ألف صفحة لدى أشهر دار نشر في باريس "غاليمار".

 لم تذكر Denise Masson اسمها الكامل على الترجمة، تواضعاً منها، أو ربما لعدم استفزاز المشاعر الدينية، التي تنظر باستغراب إلى قيام سيدة بترجمة القرآن، واكتفى الناشر بوضع (دي)، في حين قام مستشرقون ومستعربون رجالاً بترجمة القرآن. 

فهم عميق للإسلام

يشيد أغلب الباحثين بسلاسة ترجمتها وروحانيتها، فهماً عميقاً للقرآن والإسلام، إذ يعدّها الشيخ اللبناني صبحي الصالح  "من أجود الترجمات وفاء لمعاني القرآن".

ويقول المستشرق ومترجم القرآن جان غروجين في مقدّمته لكتاب ماسون: "النص القرآني هو معجزة، فهل يكرّر مُترجمه المعجزة تلك؟ يبدو أن الأمر ممكناً عن طريق التعلّق بالنص، والصبر على استقراء معانيه، وذلك ما فعلته ماسون". 

رياض المستشرقة الفرنسية دينيز ماسون في مراكش. 23 مايو 2024
رياض المستشرقة الفرنسية دينيز ماسون في مراكش. 23 مايو 2024 - if-maroc.org

 التحرّر من الاستعمار

عاشت ماسون بدءاً من العام 1938، في رياض بُني في القرن الثامن عشر، ولا يزال يحمل اسمها حتى اليوم، في درب زمران في حي باب "دكالة" المراكشي في المدينة العتيقة.

استقبلت روّاد الحركة الوطنية المغربية، تشجيعاً ومساندة لدول المغرب العربي في التحرّر من الاستعمار الفرنسي، عاشت في الجزائر، واشتغلت ممرضة في تونس والرباط.

يقول الباحث والصحفي عبد الرزاق القاروني: "يعدّ الرياض الذي يحمل اسم ماسون، من المعالم التاريخية والسياحية والثقافية بمراكش. بعد وفاتها عام 1994، تولى شؤونه المعهد الفرنسي في المدينة، جاعلاً منه فضاء لاستقبال الفنانين من أجل الإقامة والتفرّغ للإبداع، وتنظيم الفعاليات الثقافية، وورش الفن التشكيلي".

يضيف: "استقبلت ماسون على مدى ستين عاماً كبار الفنانين والمثقفين، وهي كاتبة وموسيقية ورائدة حوار الثقافات الأورو- المغاربية، والديانات السماوية الثلاث".

إرث عريق

لم يكن رياض المستعربة دونيز ماسون بمنأى عن الفنون التشكيلية والبصرية وقت إنشائه، فقد ورثت عن أبيها حب الفن وصداقاته مع الفنانين، مثل النحّات الفرنسي رودان.

كان والدها شغوفاً بالأعمال الفنية الانطباعية، وأهدى مقتنياته إلى متحف مدينة "ليل" في فرنسا. وهكذا، ينظّم الرياض المعارض الفنية واللقاءات التشكيلية والندوات الأدبية دورياً.

منزل ماسون في مراكش
منزل ماسون في مراكش - maisondenisemasson.ma

"أماكن روحية"

 يقول الفنان أحمد بن إسماعيل لـ"الشرق" عن معرضه "أماكن روحانية"، الذي يقام في رياض المستشرقة دونيز ماسون: "يعود تاريخ الصور الفوتوغرافية إلى العام 1982، وفيه تشخيص لمعالم مدينة مراكش التراثية، ذات الفضاء البصري والروحي، في علاقة الفنان مع المدينة، أي المدينة فوتوغرافياً".

maisondenisemasson.ma
 معرض "أماكن روحية" للفنان بن إسماعيل- maisondenisemasson.ma

يضمّ المعرض مجموعة من الصور القديمة والحديثة، التقطها ما بين 1986 و 2024، لأماكن تتميّز بطابها الروحي، وتقع في قلب مدينة مراكش.

يقول الفنان: "شغفت بالتصوير الفوتوغرافي منذ الطفولة، وكانت مراكش التراثية ملهمة لي. كان والدي فقهياً معروفاً يومذاك. الفنان هو من يحرّك العدسة، ويجعلها عيناً له". 

معرض
صورة فوتوغرافية من المعرض - maisondenisemasson.ma

يضيف: "حاولت تقديم مراكش، في صور وكأنها بورتريهات، ذات حكايات وسيرة مكان". 

يحضر الفن التشكيلي والفوتوغرافي معاً، لدى الفنان بن إسماعيل في تعالق وتخادم، معطياً أجنبية العمل الفني في استثمار للصورة مع التشكيل.

الفنان والمدينة

الفنان المعاصر هو نتاج المدينة، وهي بدورها نتاج الفنان من حيث الأدب والفن، فضلاً عن التصوّرات المعمارية بمعنى الحدائق والأرصفة والمتاحف والساحات، خصوصاً وأن المتاحف راهناً، تحاكي الساحات العامة، التي مهّدت  لـ"الفن المفهومي"، الذي يحتاج إلى فضاء المدينة لاستيعاب تصوّرات الفنان الإبداعية والفلسفية، مثل  الجداريات، تركيبات الحديد والخشب ومواد غيرها.

لا تغادر صور المعرض (لوحات) منطقة التشكيل لجهة العناية بالضوء، وإخراجها تشكيلياً؛ الضوء هو المقصود متضافراً مع المشهد البصري العام. يستطيع المُشاهد أن يرى الضوء وكأنه تلقائياً (ظاهرياً)، وذلك لعفويته وانسيابيته، لكن عند التمعن، يرى الضوء في صناعة تشكيلية محترفة، وخاصة إذا شاهد الصور من بعيد.

ملصق المعرض والفعاليات في رياض دينيز
ملصق المعرض والفعاليات في رياض دينيز - 

ثمّة صور، في زقاق ذي دربين أو أكثر؛ إذ يُسلّم الضوء في الدرب الأول إشعاعه إلى الضوء في الدرب الثاني، في تخادم وظيفي وعاطفي من دون تدخّل تقني، بل تدخّل بصري صرف من لدن الفنان، مستعملاً خبرته اللونية التشكيلية.

 مدينة كافكا ومحمد شكري والجواهري

ثمّة علاقة تداولية بين الفنان والمدينة، تُشبه علاقة التأليف والعمل الفني، وهي علاقة وجودية. منذ بدأت المدن، حضر الفنان فيها مشكّلاً إياها. وشكلّت المدينة بدورها الفنان والأديب.

 مدينة براغ مثلاً ارتبطت بالكاتب كافكا، والقاهرة بالأديب نجيب محفوظ، وطنجة بالروائي محمد شكري. يتعلّق الأمر بعلاقة الفنان والكاتب مع المقهى والساحات العامة أيضاً.

لا تخلو أي مدينة من بصمة الكُتّاب والفنانين؛ تعتبر بغداد مثلاً مدينة الأنصاب والجداريات والتماثيل، وهناك بيوتات كثيرة فيها تخصّ العلماء والفقهاء والكُتّاب.

 كما تعني مراكش رياض دونيز ماسون، وحدائق ماجوريل، ومتحف إيف سان لوران، فضلاً عن أنها مدينة "الحكماء السبعة"، والرياضات الأندلسية التراثية، في صورة الفضاء الجمعي والفني للمدينة. 

الغريب منجم المستقبل

يطمح الفنان والشاعر والمثقف، أن يكون متعدّداً "الواحد المُتعدّد"، ومتحوّلاً في الآن ذاته. ما يجعل الفنان والكاتب، تضاريس كتابة وتشكيل ومفاهيم، ويمكن أن نسمّي ذلك، بالكتابة الأجنبية، أو الرسم بالأجنبية.

 لغة الأم أو تراث الفنان المحلي هما المقصودان، ولكن عبر توليفة من الترحّل والتعدّد تتوخّى الأجنبية. 

وجود دينيز ماسون خير دليل على استثمار أجنبية الأديب نحو الثقافة العربية الإسلامية؛ "طوبى للغرباء" القادمين من طريق النصوص والتشكيل والسينما، الغريب منجم للمستقبل.

عدسة كلاسيكية تكنولوجياً

 يقول الكاتب إدمون عمران المليح عن المعرض: "من التشكيل إلى الفوتوغراف، نجد مناخاً متميّزاً بفضل تعددية تعبيرية. مناخ لا بدّ من محاولة تطويقه من داخل هذه التعددية نفسها. ومن خلال هذه الأشكال، هذه الدوائر المتفاوتة الوضوح، وهذه الزوايا والمربعات التي تحتشد بها اللوحة، يتم استحضار عالم السحر، الراسخ بعمق في مجتمعنا، وفي أعماق تقاليده". 

يضيف: "البناء الدرامي للصورة الفوتوغرافية، هو أصعب فنياً من اللوحة التشكيلية، ويحتاج إلى دراية وتدبير، خصوصاً وأن الصور كانت بعدسة كلاسيكية قديمة تكنولوجياً، وبالأبيض والأسود، كل ذلك يحتاج إلى تسيير للصورة في عمله، يستدعي استفادة  من خبرته كفنان تشكيلي".

العين لم تتضاءل ولم تفقد بصيرتها

يقول المستعرب والكاتب خوان غويتسيلو: "تطمح صور مراكش الليل التي التقطتها عدسة بن إسماعيل، إلى بلوغ رؤية تكاملية: إذ تجمع الشاذ والفذّ إلى الثنائي المزدوج عبر قوس المجاز الكهربائي؛ ركام من تفاصيل متواضعة تشكّل بلطف هوية شاملة".

هنا مراكش تقدّم نفسها في سلسلة بصرية ومتوالية، صور سَلِسة من دون مقاومة أو تحفظ، وهي كذلك، كأن المدينة تعي (مجازاً) وجودها البصري. 

لم تفقد بعض الصور الفوتوغرافية من دقتها ونوعيتها، فلم تتضاءل العين فيها، عندما نُقلت من حجمها الصغير، إلى حجم بانورامي مشهدي أكبر.

تصنيفات

قصص قد تهمك