يذكر غالبية السودانيين، أن فنانهم الأشهر محمد وردي، حين غنّى في إثيوبيا عام 1994، اضطرّت السلطات لتنظيم حفل خاص له في ملعب كرة القدم، الذي امتلأ بالجمهور، نظراً للشعبية الكبيرة التي يحظى بها، كما في معظم دول شرق ووسط وغرب أفريقيا، وهو شأن الفنان الإثيوبي الكبير "تيدي آفرو"، حين غنّى في الخرطوم قبل سنوات قليلة، واستقبله السودانيون بحفاوة بالغة.
"عازة في هواك" بنكهة إثيوبية
الأواصر التي تغلّف العلاقات الثقافية بين السودان وإثيوبيا، أبعد غوراً من بضعة عقود، إذ إن فنان إثيوبيا الأكثر شهرة على مدى التاريخ، "تلاهون قسي سي"، تغنّى بأغنية "عازة في هواك" السودانية، قبل نحو ستة عقود، وهي أغنية بمثابة "النشيد الوطني" بالنسبة لغالبية السودانيين.
كما أن ظروف إثيوبيا الاقتصادية والسياسية، دفعت بالملايين منهم للجوء إلى الجارة الغربية، ووجدوا هناك دفئاً لم يشعرهم لحظة بأنهم ابتعدوا عن وطنهم.
ولعلّ تلك الذاكرة المثقلة بحب السودان وثقافاته المتنوّعة، دفعت اللاجئ السابق في السودان، ميلاكو أبيلاي، إلى فتح أبواب مركزه الثقافي "فندكة" في العاصمة أديس أبابا، أمام السودانيين الفارّين من الحرب، وخصوصاً التشكيليين والمغنيين والموسيقيين والكُتّاب والمثقفين عموماً.
يجد هؤلاء في "فندكة" ما يشتهون من "أنجيرا"، وهي خبز إثيوبي يشبه "الكسرة" السودانية، فضلاً عن القهوة الإثيوبية التي يدعونها "بُنّة"، وتقدّم في طقوس لا تختلف كثيراً عن الطقوس التي تُقدّم بها في السودان.
كما تحملهم الأغنيات السودانية التي يبرع بأدائها فنانون وفنانات من إثيوبيا، على أجنحة الحنين إلى وطنهم الغارق في العنف.
فنون إثيوبية
تأسس المركز في بداية التسعينيات، في ضاحية كزانشيز، وفيما أغلقت مراكز ثقافية شبيهة في الضاحية، نتيجة التوسّع العمراني الهائل في العاصمة الإثيوبية، كافح "فندكة" من أجل البقاء، وتمّ افتتاحه مجدداً عام 2016.
تمّ الحفاظ على لمسات التراث التي تميّز المركز، وعلى جدرانه الخشنة المزيّنة برسومات وصور، وسقوفه المتعرجة التي تصطفّ عليها حروف أمهرية، وممرّاته الضيّقة التي تمنح الزائرين إحساساً بالدفء والحميمية، فضلاً عن "النار" التي تشتعل كل ليلة على كومة حطب لطرد الحشرات، لكنها تهِب إحساساً بالبدائية والبعد عن الحداثة.
اللوحات التشكيلية في قاعات "فندكة" تعود لفنانين إثيوبيين، عادة ما ينظّمون معارضهم في المكان، وهي تذهب بعيداً في ترسيخ تشكيل إثيوبي غارق في مزج الحداثة بحروفيتها واقترابها من سريالية بيكاسو ودالي، بالمحلية الممثّلة بالرموز الكنسية الطاغية على بعض اللوحات.
ميلاكو أبيلاي
حين تولى ميلاكو أبيلاي إدارة المركز عام 2008، وضع نظام أجور شهرية ثابتة للموسيقيين والراقصين. ومنذ عام 2009، أضحت عروض فرقة "ألوان إثيوبيا" التراثية، ملمحاً رئيساً من ملامح المركز، الذي يستقبل كل سبت عرضاً مفتوحاً لشعراء إثيوبيا الشباب، كي يقدّموا قصائدهم أمام الجمهور والنقّاد.
جال أبيلاي حول العالم بفرقته الموسيقية وراقصيه، للتعريف بثقافة بلاده وإيقاعاتها ورقصاتها المنوّعة.
ذا النشاط استرعى أنظار البلدان الغربية، التي دعته مراراً لإحياء ليال في عواصم أوروبا ومدن الولايات المتحدة، إلى أن نال المركز في نهاية مايو 2024، جائزة تقديرية من الاتحاد الأوروبي، نظير العمل الثقافي الضخم الذي يضطلع به.
حين اتجهت السلطات الإثيوبية، أخيراً، لهدم أحياء في أديس أبابا، بغية تطويرها، تصدّى صحفيون ومثقفون إثيوبيون، لفكرة هدم المركز، لما يمثّله من قيمة فنية وثقافية كبرى، فعدلت السلطات عن رأيها وأبقت عليه.
وجه إثيوبيا الثقافي
قال ميلاكو أبيلاي لـ "الشرق": "بدأت كراقص في هذه المنطقة التي تضجّ بالحياة الليلية، لكن لم يكن المردود المالي جيداً، وكنت أجني القليل مما ينقدني به بعض الحضور كل ليلة".
أبيلاي، المُعدم آنذاك، طلب من مالكي المطعم، أن يسمحوا له بالنوم فيه، لأنه كان من دون مأوى، وبقي هناك 7 أعوام كاملة. عام 2008 تمكّن من استئجار المكان، وللمرّة الأولى في أديس أبابا، استطاع أن يمنح الراقصين والموسيقيين كلهم "أجوراً شهرية ثابتة".
تمكّن أبيلاي بعد سنوات قليلة من شراء المكان. لكن عملية الشراء تخللتها قصة طريفة رواها أبيلاي لـ "الشرق"، وأشار فيها إلى أن المالكين اشترطوا عليه دفع 400 ألف يورو، لكنه رفض، وعرض عليهم 200 ألف يورو، لم يكن يملك منها يورو واحد.
لكنه بدأ آنذاك بالتجوال مع فرقته حول العالم، فوقّع معهم عقداً بالدفع الآجل، وبالفعل دفع المبلغ لاحقاً.
على مدى سنوات، نما المركز من خلال بيع الأطعمة والمشروبات، وتقديم العروض الفنية، وتنظيم المعارض التشكيلية، وتعليم الموسيقى والرقص، إلى جانب الرحلات الخارجية، وخاصة إلى البلدان الغربية، جعل من أبيلاي قادراً على التكفّل بنفقات مركزه كلها.
يقوا أبيلاي: "أسأل نفسي لماذا أفعل كل ذلك، وأجيب لأني أحب بلدي، فهو عالمي".
يضيف: "تضم إثيوبيا الأديان والثقافات كلها، ونحن نشأنا في ظل التنوّع والاختلاف في هذا البلد. الجميع هنا يمارسون طقوسهم الدينية معاً، اختبرنا الحروب، وهربت أمي مع إخوتي إلى القضارف شرق السودان، وأنا في عمر الثالثة".
يتابع: "والدتي لا تكفّ عن ذكر السودان، وكرم الشعب هناك، ولطف الناس، ولهذا أنا أحب السودان. الآن التاريخ يعيد نفسه بطريقة مغايرة، قلبي مكسور جداً على ما يحدث هناك. "فندكة" هو بيت السودانيين، وأنا أبكي حين أراهم هنا".
وأشار أبيلاي، إلى أن "الأواصر الثقافية والفنية لا تقتصر على التجارب الشخصية، إذ إن كبار فناني إثيوبيا، مثل محمود أحمد ومنليك وأليمايو شاتيي، كلهم تغنّوا بأغنيات سودانية، ساهمت في تشكيل الوجدان الإثيوبي، كما تغنّى كبار الفنانين في السودان بأغنيات إثيوبية، بل غنّوا معاً أغنيات إثيوبية وسودانية".
ولفت إلى أنه أنشأ من "فندكة" مكاناً بـ "روح سودانية"، بحسب حكايات أمّه عن الناس في القضارف شرقي السودان، "إذ يساعدون بعضهم بعضاً، ويأكلون سوياً، وتلفّهم أجواء من المودّة".
جسر ثقافي
يرى أبيلاي أن "فندكة" هو عبارة عن "فراشة صغيرة حالياً، لكنه يطمح أن يكون جسراً ثقافياً بين إثيوبيا والعالم، وخصوصاً السودان".
يضيف: "بوسع الفن أن يصنع السلام والوحدة، بالاتكاء على السلام الداخلي لدى الفنانين، وهؤلاء بوسعهم، أن يساعدوا الناس من خلال الإبداع، على فهم الآخر، واستيعاب قيمة السلام والتعايش".
"دموع سوداء"
وفّر مركز "فندكة" منصّة ثابتة لعرض الأعمال التشكيلية السودانية، لفنانين أجبرهم القتال على ترك كل شيء خلفهم واللجوء إلى إثيوبيا. عبد الرحمن حسن، عميد كلية الفنون في جامعة السودان، نظّم معرضاً في "فندكة" بعنوان "دموع سوداء" عن الحرب في بلاده، استمر ضيفاً ثابتاً عليه.
تابع حسن معارض زملائه التشكيليين الإثيوبيين، وحضر العروض الموسيقية التي يقدّمها المركز، الذي أصبح ملاذه، مثل كثيرين غيره هرباً من الذاكرة المثقلة بالدم.
وقال حسن لـ "الشرق": "كنت متابعاً لصفحة المركز على "فيسبوك"، وحين هربت إلى أديس أبابا، بحثت عنه حتى وجدته كي أعرض لوحاتي. ولم يمانع بيلاي من تنظيم الفعالية على مدى شهرين".
واعتبر الأكاديمي والفنان السوداني، "أن بيلاي تفهّم ظروفه كفنان، وظروف الحرب وتعقيداتها في السودان، علاوة على إحساسه العميق بالمآسي، وهو الذي جرّب الحرب سابقاً، وفرّ مع أسرته إلى السودان".
وأكد أن "موقفه الراسخ ضد الحرب، دفعه للعمل بفرشاته وألوانه، لأن شأن الفنان هو الوقوف ضدها، ورصد فظائعها إبداعياً، كما فعل بيكاسو في لوحته "غيرنيكا" في إسبانيا، وكما هو شأن جداريات "مروي" القديمة في شمال السودان."
ولفت إلى أن وسائل الإعلام الإثيوبية غطّت معرض "دموع سوداء" بكثافة، "عكست اهتماماً كبيراً بالثقافة السودانية، وتضامن الجانب الإثيوبي مع الشعب السوداني في محنته".
وأكد حسن أن المركز "هو أحد أبرز مراكز إثيوبيا الثقافية، ويعدّ "سفيراً" لبلاده في مجالات الموسيقى والرقص. وخلال وجودي في أديس أبابا، سافر ميلاكو أبيلاي وفرقته إلى الولايات المتحدة لشهر كامل".
في ختام المعرض، نظّم حفل موسيقي ضخم بمشاركة فنانين وموسيقيين سودانيين، وأتى الكثير من السودانيين الذين عبّروا بالدموع والرقص وترديد أغنيات وطنية عن شعورهم بالمأساة في بلادهم وحنينهم إليها. ومنذ ذلك الحين، بدأ المركز باستقطاب المثقفين السودانيين الذين نظّموا بعدها حفلاً في ذكرى ثورة أكتوبر 1964 في "فندكة".
"تلاهون" و"وردي"
من ناحيته، قال الفنان السوداني أبوبكر سيد أحمد لـ "الشرق": "يلعب مركز "فندكة" دوراً مهماً كجسر ثقافي بين الشعوب، ويستقطب حضوراً أجنبياً كثيفاً، وخصوصاً من أوروبا، لأن المركز درج على تقديم نماذج منوّعة من الغناء الإثيوبي والأفريقي، من خلال فرقتي "جاز" و"تراث".
وأكد أن المركز "يمثّل امتداداً لتواصل قديم من قِبل روّاد الفن السوداني مع الجانب الإثيوبي، وصولاً إلى إريتريا والصومال وتشاد، كما أن السودان، بفنونه، أصبح "أخا أكبر" لهذه الشعوب التي تتلقى إنتاجه الثقافي بشغف".
ولفت إلى أن مالك "فندكة"، ونتيجة نشأته في السودان، "يكنّ محبة خالصة للسودانيين، فاتحاً لهم أبواب مركزه ليقيموا عروضهم بشكل ثابت، بل هو وظّف فناناً سودانياً في المركز".
وأشار المطرب السوداني "إلى وجود تداخل لحني وموسيقي وأغنيات مشتركة قديمة بين السودان وإثيوبيا، بدأت مع الفنان الإثيوبي تلاهون قسي سي، الذي تغنّى بأغنية الشاعر والمبدع السوداني خليل فرح "عازة في هواك"، تلاه أداء فنانين إثيوبيين لأغنيات محمد وردي وسيّد خليفة، وهذا سهّل التعاون بين الفنانين في البلدين".
من المقرّر أن يسافر أبيلاي وفرقته إلى منطقة "بحر دار" قريباً، ثم إلى طوكيو ولندن وبرلين ونيويورك لتقديم عروضهم الفنية.