"ليست مكتبة.. بل دار كتب"، انطباع يخطفك فور زيارة منزل المؤرخ والأستاذ بجامعة القاهرة ووزير الثقافة المصري الأسبق، عماد أبو غازي؛ إذ تتميز مكتبته التي شاركت عائلته المثقفة بامتياز في تكوينها، بتنوع كبيرة، بين الأدب، والتاريخ، والسياسة، والآثار، والفن بصفة خاصة، ما أضفى عليها أهمية كبيرة.
في أحد أركان المكتبة جزء خاص يضم ما تبقى من مكتبة الفنان والنّحات الشهير محمود مختار (10 مايو 1891-28 مارس 1934)، حيث مرّ على ذكرى ميلاده 130 عاماً.
ترك محمود مختار أرشيفاً ضخماً، ومشروعات عدّة لم تكتمل، وأوراقاً تُشكِّل أرشيفاً لحياته الفنية والخاصة، وصوراً شخصية أو لأعمال فنية مفقودة، ومراسلات مع العائلة، والأصدقاء، وأوراقاً خاصة سجل فيها يومياته وخواطره.
كما يضم الأرشيف أوراقاً لعمله الفني الأشهر تمثال "نهضة مصر" الذي يقع حالياً في الجيزة، وبعض وثائق "جماعة الخيال" التي شارك في تأسيسها خلال عشرينات القرن الماضي، وكانت تضم مجموعة من الفنانين والأدباء المصريين والأجانب المقيمين في مصر.
قصة أرشيف
وقال عماد أبو غازي لـ"الشرق"، إن الأرشيف تجمع من 3 مصادر رئيسة، أولها ما آل إلى الأسرة وحافظ عليه ابن شقيقة الفنان الراحل، بدر الدين أبو غازي، بل أضاف إليه ما جمعه من أوراق وصور كانت لدى أصدقاء مختار، ثم ما تجمّع لدى أحد تلامذته المهتمين بإحياء تراثه، وهو الفنان الراحل علي كامل الديب الذي كان سكرتيراً عاماً لجمعية أصدقاء مختار في مراحلها الأخيرة.
وثالثاً ما احتفظت به صديقته الفرنسية مارسيل دوبري من كتب وأوراق أرسلتها إلى العائلة قبل رحيلها. أما مكتبة مختار، فقد تبقى منها ما يقرب 600 كتاب تقريباً، كثير منها باللغة الفرنسية.
البداية
في عام 1908، تأسست مدرسة الفنون الجميلة، فالتحق مختار بها ضد رغبة عائلته التي أرادت أن يستكمل دراسته في الأزهر، واعتبرت اختياره دراسة الفن إهانة لها، ولكن مع إصرار مختار على دراسة الفن، قطعت العائلة علاقتها به، فأسقط مختار اسم العائلة من لقبه، واكتفى باسمه المفرد المركب محمود مختار بدلاً من محمود مختار إبراهيم العيسوي.
وفي مرحلة المدرسة، أظهر مختار موهبة غير عادية، حتى تم تخصيص مرسم خاص له داخل مدرسته، وأقيم معرضه الأول، ولم يكن قد تجاوز الـ17 بمشاركة عدد من الطلاب.
وبعد أن انتهى مختار من دراسته، كتب أستاذه الإيطالي تقريراً يوصي فيه بإرساله إلى باريس لاستكمال دراسته، تقديراً لنبوغه. وسافر مختار إلى باريس عام 1911 في رحلة اعتبرها رحلة جهاد في الفن.
حاجز اللغة
كانت اللغة هي الحاجز الأكبر الذي أعاق تمتع مختار برحلته في البداية؛ إذ عجز عن التواصل مع رفاق الرحلة في المركب الذي حمله من بورسعيد إلى مارسيليا.
وفي نص له بعنوان وصول المثّال (نُشِر في كتاب بعنوان باريس أعدّه أحمد الصاوي محمد)، كتب مختار: "كنت لا أعرف من الفرنسية شيئاً يُذكر، وقد أوصوا بي فرنسياً وزوجه كانا مسافرين معي، وكان ذلك من بورسعيد ولي من العمر 19 عاماً".
وتابع: "لما جاء الظهر ودق جرس الطعام سار الناس أفواجاً، وكانت الباخرة كبيرة آتية من الهند، فتبعتهم فإذا بهم يجلسون إلى الموائد فلم أجد شجاعة من نفسي للجلوس إلى جانبهم إذ زعمت أنه ربما لم يكن لي حق في ذلك وعدت أدراجي".
لكن بمرور الوقت تحرر مختار من مخاوفه، وبدأ في تعلم اللغة، ولم يعد غريباً، لم يعد "رمسيس الثاني" كما لقّبه زملاؤه الفرنسيون الدارسون معه في مدرسة الفنون الجميلة الفرنسية (البوزار)، ولكن أصبح "محمود مختار" فقط.
ألف ليلة وليلة
كانت الترجمة الفرنسية لـ"ألف ليلة وليلة" هي وسيلة مختار لتعلم اللغة، لا تزال النسخة الفرنسية النادرة بأجزائها الأربعة في مكتبته.
يقول عماد أبو غازي: "عندما سافر مختار إلى باريس كان يريد تعلم الفرنسية بسرعة، ربما وجد في ألف ليلة ضالته للتعلم، وربما كان يرى أنه يستطيع أن يملك اللغة أكثر من خلال قراءتها من كتاب على معرفة وثيقة به".
وهل استلهمها في أعماله؟ يجيب أبو غازي: "في بدايات مختار كان يستمع في القرية إلى السِّير والحكايات الشعبية التي يلقيها شعراء الربابة، ومن بينها سيرة أبو زيد الهلالي، وربما أيضاً كان الشعراء الشعبيون يلقون "ألف ليلة" في تلك الفترة، وربما أثّرت هذه الحكايات الشعبية في خياله".
ويضيف: "وهو ما عبرت عنه منحوتاته الأولي في القرية، ثم منحوتاته المتأثرة بشخصيات تاريخية أثناء دراسته في مدرسة الفنون مثل: خالد بن الوليد، وخولة بنت الأزور، وربما يعود تأثير "ألف ليلة وليلة" إلى تلك الفترة، حيث التأثر بالأبطال التاريخيين".
لم تكن "ألف ليلة" وحدها هي وسيلة مختار لتعلم الفرنسية، في سنواته الأولى في باريس كان يقرأ كل ما تقع عليه عيناه، لكنه احتفظ بمكانة خاصة لأعمال الأديب الفرنسي جى دو موبسان (1850- 1893)، حيث تتوافر في مكتبة مختار العشرات من أعماله، من بينها La Maison Tellier أو بيت الصرّاف، وغيرها.
كما تضم المكتبة مئات الكتب عن تاريخ الفن الغربي، والموسوعات الفنية حول المدارس الفنية المختلفة، وكتالوجات العديد من المعارض، وتاريخ النحت، ويبدو ولع مختار الشديد بمايكل أنغلو تحديداً.
تاريخ مصر
لكن الأساس في مكتبة مختار هو كتب تاريخ مصر، وخاصة تاريخها الفرعوني، كما يلاحظ عماد أبو غازي، ربما حدث ذلك في رحلة بحث مختار عن صوته الفني المختلف، وربما أيضاً كان بتأثير من علاقته بصديقه المؤرخ محمد صبري الذي كان أول مصري يحصل على دكتوراه من جامعة السوربون (1924)، ومن ثم أطلق عليه أصدقاؤه -فيما بعد- لقب السوربوني.
ولذلك، فليس غريباً أن تضم مكتبة مختار عدداً من كتب "السوربوني" من بينها كتاب "أدب وتاريخ"، وكان السوربوني ومختار قد التقيا في باريس، وبدأت علاقتهما منذ عام 1919 حتى رحيل مختار، وكانا عضوين فيما سمي "الجمعية المصرية بباريس"، وهي إحدى جمعيات الطلبة التي تشكلت في أوروبا للدفاع عن القضية المصرية حينها.
وساندت الجمعية الوفد المصري عندما وصل إلى باريس (وفد قاده سعد زغلول لعرض قضية استقلال مصر علي مؤتمر الصلح الذي عُقد في ڤرساي عام 1919)، واعتمد الوفد على الجمعية في الدعاية للقضية المصرية، لكن الخلاف سرعان ما دبّ بين الطرفين، كما فككت الانقسامات الجمعية وذهب كل عضو من أعضائها في اتجاه، خاصة بعد عودة أغلبهم إلى الوطن.
ذكريات باريسية
وكتب السوربونى عن ذكرياته الباريسية مع مختار في مجلة "المجلة" عام 1962، مشيراً إلى بعض قراءات مختار في تلك الفترة وولعه بشخصية كليوباترا، حيث قرأ كل ما كُتِب عنها بالفرنسية، وكذلك ولعه بالتاريخ المصري القديم والحديث.
وأضاف صبري: "كان فناناً في طعامه وشرابه ولباسه ومطالعاته في الكتب والطبيعة والحياة. كان شغوفاً بتاريخ مصر القديم والحديث. وتجلّي أثر ذلك في جمال الخط الفرعوني المبسط الذي ظهر في أسلوبه، كما ظهر في تمثال نهضة مصر، وفي قوام الفلاحات اللواتي يحملن (جرار المياه) على ضفاف النيل الخالد وقنوات مصر وترعها. وكان يفكر في آواخر أيامه في صنع تمثال للزعيم أحمد عرابي".
وارتبط ولع مختار بالتاريخ المصري القديم، بتنقلاته الفنية، فبعد وصوله إلى باريس أتيح له الاطلاع على أحدث التيارات الفنية في الغرب، خاصة مع الاقتراب من تجربه النحات الشهير أوغست رودان (1840-1917)، ما مثل نقله عن تجربته القاهرية.
ورغم ذلك ظلّ مختار يبحث عن صوته الخاص الذي وجده في الفن المصري القديم ولكن بصياغة ملائمة للعصر، وهو ما تجسد في تمثاله الشهير "نهضة مصر" الذي جاء تالياً لثورة المصريين عام 1919.
في المرآة
وفي ركن محمود مختار بمكتبة "أبو غازي"، بعض الكتب التي أهداها الكاتب عبد العزيز البشري للمثّال المصري من بينها كتابه "التربية الوطنية"، وكتب الإهداء بعبارة "إلى الأستاذ النابغة مفخرة وطنه صديقي محمود مختار.. تذكرة مودّة وصدق ولاء".
كان البشري في ذلك الوقت سكرتيراً برلمانياً لوزير المعارف، وارتبط بعلاقة صداقة قوية بمختار، ورغم ذلك لم يسلم من قلمه الساخر عندما كتب في كتابه "في المرآة" أحد بورتريهات، ولكنه لم يكن بورتريهاً قاسياً كما اعتاد أن يفعل، بل كانت كتابة محب وصديق.
كتب البشري واصفاً مختار بأنه: "صافي النفس، عظيم الشجاعة، وافر الذكاء، لا يعنيه شيء في الدنيا قدر عنايته بفنّه الجليل".
قراءاته الفكرية
يجيب عماد أبو غازي: "كان مختار مرتبطاً بمجموعة الساسة الأسبوعية والتي ضمت: محمد حسين هيكل، وطه حسين، والشيخ مصطفى عبد الرازق وعبد العزيز البشري ومحجوب ثابت، وهناك مساجلات بينه وبين إبراهيم عبد القادر المازني حول تمثال نهضة مصر، لكن المؤكد أنه قرأ كتابات طه حسين وهيكل".
معظم هذه الأسماء سافرت إلى باريس، والتقت مختار هناك، وجمعتهم سجالات سياسية وفكرية، وكتب معظمهم عن مختار سواء في حياته أو بعد رحيله، بل إن الشيخ مصطفى عبد الرازق فكّر -قبل أن يصبح شيخاً للأزهر- أن يكتب سيرة مختار بعد رحيله، وبدأ بالفعل في الكتابة ولكن "مشاغل الحياة أقصته عن الموضوع"، وفقاً لما ذكره وزير الثقافة المصري في السبعينيات بدر الدين أبو غازي في مقدمته لكتاب "المثال مختار" صدر عام (1964).
أحلام لم تكتمل
وكانت القراءة وسيلة مختار لتعميق أفكاره، واستكشاف مناطق جديدة للفن، كما كانت وسيلة لشحن فني وتوليد أفكار لمنحوتات. قرأ ولا تزال في مكتبته أوراقاً عديدة وكتيبات عن أوبرا عايدة التي ألّفها الموسيقار الإيطالي فيردي بطلب من الخديوي إسماعيل، لتُقدم في حفل افتتاح قناة السويس، كان مختار مشغولاً بشخصية عايدة التي نحت لها فيما بعد تمثالاً.
وقبل رحيله كان مشغولاً بقراءة كل ما كُتِب عن الإسكندر الأكبر وكليوباترا، بل خطط لمشروع كامل نحت تمثال للإسكندر يوضع في مدخل مدينة الإسكندرية، محاطاً بآلهة الإغريق وحوله تقام المدرجات والملاعب والقاعات، بهدف أن "تلتقي كل عام شعوب دول البحر المتوسط وتقام الاحتفالات، وتُلقى المحاضرات وتتهيأ مصر لدور ثقافي جديد"، كما كتب بدر أبو غازي.
في السفينة التي حملته إلى القاهرة من فرنسا في رحلة مرضه الأخيرة، نحى جانباً كُتب الإسكندر- مشروعه القادم؛ ليقرأ كتباً عن المرض والموت!