من الطبيعي أن تنتقل رباعيات عمر الخيّام التي كتبها في القرن الحادي عشر الميلادي، من الفارسية إلى اللغات الحيّة في العالم، ومنها العربية، بصفتها نصّاً كونياً ومركزياً في الثقافة الإنسانية، حيث صدرت أكثر من ترجمة للرباعيات، منها ترجمة الشاعر المصري أحمد رامي، وغنّت أم كلثوم بعضاً منها عام 1950.
أما أن تكون الترجمة إلى لغة غير معيارية، هي في الأصل لهجة شعبية صعبة، وغير منتشرة على نطاق واسع، مثل اللهجة المحكية الجزائرية، فالأمر يدعو إلى الاستغراب.
ومعلوم أن كل العرب الذين نقلوا رباعيات الخيّام إلى إحدى اللهجات الشعبية، مثل أحمد سليمان حجاب، الذي نقلها إلى اللهجة المصرية عن ترجمة وديع البستاني عام 1912، لم يتمّوا ترجماتهم، ما عدا أحمد رامي، الذي درس اللغة الفارسية خصّيصاً، من أجل ترجمة الرباعيات عام 1924، وأنجزها كاملة.
هذا ما فعله لاحقاً الكاتب والباحث في التراث الشعبي الجزائري، محمد بلقاسم الشايب، وأثارت ترجمته للرباعيات عن "دار أسامة" في الجزائر، الجدل حول قدرة لهجة شعبية، على استيعاب الثراءات الفلسفية والجمالية لنص، هو من علامات التراث الإنساني.
سلطة الأيديولوجيا
يقول الشاعر والأكاديمي محمد الأمين سعيدي لـ "الشرق": "إن التشكيك في قدرة اللهجات المحكية العربية، على قول الأبعاد الكونية للشعر، أو على استيعابها، من خلال الترجمة إليها، سلوك غير ثقافي، وهو ثمرة لاحتقار هذه اللهجات من قِبل أشخاص وجِهات أيديولوجية، ترى في هذه اللهجات نقيضاً للمعيارية الفصحى".
ويشرح صاحب كتاب "شعرية المفارقة في القصيدة الجزائرية المعاصرة" قائلاً: "إن التعاطي القومجي والأيديولوجي مع اللهجات الشعبية، حاصر الأدب الشعبي في المنابر الإعلامية والصروح الجامعية لعقود، بما حرمنا من كنوز كثيرة لا توفّر لنا وجبات جمالية فقط، بل تشكّل أيضاً وثائق مهمّة عن تمظهرات العيش لدى الشعوب العربية".
معايير انتقائية
يسأل الباحث محمد بلقاسم الشايب، "ما معنى أن يتقبّل رافضو الأدب الشعبي والمشكّكون في قدراته الجمالية "ألف ليلة وليلة"، والموشّحات الأندلسية، والتغريبة الهلالية، ضمن الأدب العربي الرسمي، وهي تجارب مؤسّسة للأدب الشعبي القائم على التعبير باللهجة المحكية، ويرفضون الإبداعات المتأخّرة شعراً ونثراً؟"
يضيف: "كبرت على قراءة وحفظ قصائد الشعراء الكبار، بالفصحى والعربية الدارجة، من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، ولم أكن أجد فرقاً بين الإبداعين، فامرؤ القيس وعنترة بن شداد والمتنبي وأبو تمّام وأبو نوّاس، هم نسخ فصيحة من ابن قيطون ومصطفى بن إبراهيم وابن كرّيو ولخضر بن خلوف في المحكية الجزائرية".
يقول: "على مستوى السير الذاتية أيضاً، نجد لشعراء المحكية سيراً أسطورية، فهم أيضاً لم يكونوا منتجي قصائد فحسب، بل كانوا منتجي تجارب إنسانية ملهمة، والحديث قياس على شعراء المحكية المعاصرين، حيث نجد منهم نظراء لشعراء الفصحى المكرّسين".
ويعتبر "أنه إذا كانت الترجمة من العربية الفصحى إلى المحكية غير ذات جدوى، بحكم أن المتلقي العربي يفهم كلتيهما، فما المانع من أن نترجم نصوصاً من لغات أخرى إلى المحكية العربية مباشرة".
من هنا، انطلقت مغامرة الشايب في جزأرة رباعيات الخيام، فإذا كانت الترجمة من لغة معيارية إلى لغة معيارية أخرى تحدّياً في ذاتها، فإنها تصير تحدّياً مضاعفاً من لغة معيارية إلى لغة محكية.
شجاعة المترجم
يرى الشايب أنه إذا كان المانع أيديولوجياً، ويتمّ استبعاد العامية من باب حماية الفصحى، فإن النقاش يصبح غير مجدٍ مع أصحاب هذه القناعة، أما إذا كان المانع لغوياً، فسيجد من يملك روح المغامرة أن الأمر مجرّد حكم جاهز، لا يصمد طويلاً أمام التجربة. يكفي أن تجرّب شرط أن تكون عارفاً وشجاعاً ومتحرّراً وشغوفاً".
لا يخفي محدّث "الشرق" أنه استمدّ كثيراً من التحفيز، حين نظر إلى المسألة عكسياً، إذ وجد "أن بعض اللغات الغربية استضافت نصوصاً بالمحكية الجزائرية، من خلال المترجمين المستشرقين، ما يعني أنها تملك هامشاً كونياً على مستوى الإحساس والقاموس والاستعارات، يؤهّلها لتحقيق التبادل والحوار والأخذ والعطاء".
يذكر من هذه الجهود ما قام به المستشرق الفرنسي سونك، خلال أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، من جمعٍ وتدوينٍ وترجمةٍ لقصائد شعبية مغاربية؛ خاصة الجزائرية منها، وظهر ذلك في كتابه المرجعي "الديوان المُغرِب في أقوال أهل أفريقيا والمَغرب".
سألنا المترجم الذي سبق له أن حصل على الجائزة الأولى في ملتقيين وطنيين في الشعر الشعبي، في ولايتي البويرة وبجاية، إن كان استعان بما يُتيحه فعل الترجمة من خيانة لتفادي الفراغات التي تفرضها الفوارق، بين لغة المصدر ولغة الترجمة، فقال:
"جعلت الأولوية لنقل روح البيت/ المقطع، بحيث أحافظ على حمولته الفلسفية والشعورية، ذلك أن الرباعيات في جوهرها فلسفة صيغت شعرياً، وبالتالي فإن اللجوء إلى الترجمة الحرفية، لم يكن مطلوباً مني، بل سيكون طعناً في مصداقية الترجمة نفسها".
يعطي مثالاً على ذلك: "لا أتصوّر أن من يعمل على ترجمة شعر أبي العلاء المعرّي إلى اللغة الفارسية، بصفته مثالاً نظيراً للخيّام، من حيث فلسفة الشعر، يكون مطالباً بالوفاء لصياغة الجملة الأصل، لأن الترجمة في هذه الحالة تعني نقل الحكمة الشعرية لا البلاغة اللغوية".
الشعرية الشرقية
لجأ صاحب رواية "ما بيننا" في ترجمته، إلى الشعر الشعبي المعروف في الجزائر بالشعر الملحون، أي المغنّى، الذي يقوم البيت الواحد فيه على قافيتين اثنتين، الأولى في صدره والثانية في عجزه، إذ حافظت الترجمة على الطاقات الدلالية للنص الأصلي، وعلى طاقته الموسيقية والغنائية أيضاً، وهي معطى صميم في هوية الشعرية الشرقية.
وعن اختياراته اللغوية من اللهجة الجزائرية، قال الشايب: "إن هذه الأخيرة من أقرب اللهجات العربية إلى الفصحى؛ بالرغم مما يُشاع عن صعوبتها، مذكّراً بكتاب "بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر"، لرئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة محمد البشير الإبراهيمي.
من هنا؛ استعمل لفظ "صياغة" عوضاً عن لفظ "ترجمة"، بالنظر إلى الأبعاد الفصيحة للهجة الجزائرية النقية، ممّا دخل إليها من كلمات أمازيغية وتركية وفرنسية وإسبانية، نتيجة تراكمات من العيش المشترك.
نموذج من الترجمة
يتجلى هذا التقارب بين الفصحى واللهجة الجزائرية؛ في أكثر من مفصل في ترجمة الشايب عن أحمد رامي.
يقول رامي في ترجمته الأصلية، قبل أن تُحوّر في ما غنّته كوكب الشرق أمّ كلثوم:
سمعت صوتاً هاتفاً في السحر
نادى من ألحان: غفاة البشر
هبّوا املأوا كأس الطلا قبل أن
تُفعم كأسَ العمر كفُّ القدر
ووردَ في صياغة بلقاسم الشايب باللغة المحكية الجزائرية عن ترجمة أحمد رامي:
الصوتْ اللي جا مْن َالحانه جاهرْ
نَابْ الـخَلْقْ الغَـافْييـــنْ مْعَ لَفْجَــارْ
نُوضُوا سَرْبُو كَاسْ خَمْرِي مَنْ ذَ الـمُرّ
قَبْلْ نْ تَرْوَى كَاسْ عُمْرِي مَ لَقْــدَار.
فالفعل "ناب" الذي من معانيه في الفصحى "قرُبَ"، يعني في الدارجة الجزائرية "نادى". والفعل "نوضوا" في الدارجة الجزائرية مشتق من الفعل الفصيح "انهضوا".
ونجد في "معجم المعاني الجامع": سرب الماء إذا سال، أما الفعل "سربى" في القاموس الشعبي الجزائري، فيعني صبّ شيئاً سائلاً.
وجاء في ترجمة رامي أيضاً:
لو أنني خُيِّرت أو كان لي
مفتاح باب القدر المقفلِ
لاخترتُ عن دنيا الأسى أنني
لم أهبط الدنيا ولم أرحلِ
وصاغها الشايب كما يلي:
لو قالولي واش تختار نخيّرْ
وجا في إيدي مفتاح لَكوان ولَقدارْ
ما كنتش خيرت هذ الدهر المُرْ
وما ندخل دنيا ما نبقى محتارْ..