رغم تكليف الكونجرس للجيش الأميركي بوضع "حدود السلامة" ومتابعة تعرض الجنود لدوي الانفجارات وما ينجم عنها من موجات تؤدي إلى إصابتهم بأمراض دماغية، إلا أن الوضع على الأرض لم يتغير، وما زال الجنود يتدربون على قاذفات الصواريخ، وفق صحيفة "نيويورك تايمز".
وعلى مدى أجيال، افترض الجيش أن هذا النوع من التعرض للانفجارات "آمن"، حتى مع تراكم الأدلة على أن تكرار الانفجارات قد يسبب "أضراراً بالغة ومزمنة".
وفي السنوات الأخيرة، أصدر الكونجرس، تحت ضغط المحاربين القدامى الذين تعرضوا لهذه الموجات الصادمة، تكليفاً للجيش بوضع "حدود السلامة"، وبدء متابعة تعرض القوات لدوي الانفجارات وما ينجم عنها من موجات.
على إثر ذلك أطلقت وزارة الدفاع (البنتاجون) مبادرة "صحة دماغ مقاتلي الحروب" لدراسة هذه المسألة، وعكفت على جمع البيانات واقتراح استراتيجيات تصحيحية.
والعام الماضي، وضعت "البنتاجون" لأول مرة "حدّاً "يُعد الانفجار خطيراً إذا تجاوزه"، وفقاً لتقرير "نيويورك تايمز".
وعلى الرغم من ذلك، لم يتغير شيء على الأرض. واستمرت التدريبات إلى حد كبير، على غرار ما كانت عليه من قبل، وقالت القوات الأميركية إنها لا تستطيع عمل الكثير من أجل الحد من التعرض للانفجارات أو متابعتها.
ومن ثم، لا تزال الأسلحة، من قبيل الصواريخ التي تطلق من الكتف، والتي تؤدي إلى إحداث موجة صدمية متجاوزة عتبة السلامة، مستخدمة على نطاق واسع.
وتتناسب هذه الحالة من التناقض بين الكونجرس والبنتاجون مع نمط تكرر منذ أكثر من عقد، إذ يتحدث كبار القادة عن أهمية حماية أدمغة الجنود فيما يفشل الجيش في اتخاذ خطوات عملية لضمان سلامتهم.
مخاطر الانفجارات متكررة
في هذا السياق قال بول شاري، الضابط السابق بقوات الصاعقة في الجيش الأميركي، وخبير السياسات بمركز "نيو أميركان سيكيورتي"، والذي نشر تقريراً في عام 2018، بتمويل من وزارة الدفاع الأميركية، عن "مخاطر الانفجارات المتكررة من الأسلحة النارية"، لـ "نيويورك تايمز" إن الأمر "بات محبطاً للغاية".
وأضاف: "لقد أدركنا منذ سنوات خطورة هذه الأسلحة. وهناك أشياء بسيطة يمكننا أن نفعلها لحماية جنودنا، ولكننا لا نفعلها".
ووفق "نيويورك تايمز"، فإنه "لا يوجد مكان يعاني من هذه الحالة من الفصام أكثر من ميدان الرماية الخاص بمركز التدريب العسكري في جبال الأوزارك"، في قلعة تشافي في أركنساس.
فمع استمرار تصاعد ألسنة اللهب من المرج، سار بضعة جنود من وحدة العمليات الخاصة إلى مقطورتين مكيفتين خلف خط إطلاق النار مباشرة، وسحب فريق بحثي عينات دم ووضع أجهزة استشعار على رؤوسهم لإجراء بعض الفحوصات بحثاً عن أدلة تشير إلى حدوث إصابات دماغية.
وأظهرت القياسات التي أجراها الفريق البحثي على عشرات الجنود على مدى 3 سنوات أنه في الأيام التي أعقبت إطلاق الصواريخ، تكونت لدى الجنود أسوأ الذكريات، وعانوا أبشع الانتكاسات وضعف التنسيق وأقل مستويات الوظائف المعرفية والتنفيذية، فضلاً عن ارتفاع مستويات البروتين في الدم إلى درجات غير مسبوقة، ما يشير إلى حدوث إصابات دماغية.
وأظهرت أجهزة الاستشعار المثبتة على خوذات ودروع مطلقي الصواريخ أن قاذفة الصواريخ التي كانوا يستخدمونها، وهي من طراز (Carl Gustaf M3) تحدث انفجاراً ضعف مستوى عتبة السلامة الموصى بها.
ولكن عندما انتهى الفريق البحثي من إجراء الاختبارات، عاد الجنود مباشرة، وشرعوا مجدداً في إطلاق الصواريخ، وفقاً لـ"نيويورك تايمز".
وقال الدكتور مايكل روي، رئيس الفريق البحثي، للصحيفة الأميركية إنه صمم الدراسة على مدى 5 سنوات "لتقديم بيانات تجريبية يمكن أن تساعد الجيش على اتخاذ قرارات أفضل".
وأضاف أن "السؤال هو هل يؤثر هذا على الأداء القتالي؟"، قبل أن يجيب: "نحن نرى أنه مؤثر. فإذا كنت في مهمة، ولا تستطيع تذكر الأشياء، وتوازنك مختل، فقد تكون هذه مشكلة حقيقية".
وتشير البحوث التي أجراها فريق روي وآخرون إلى أنه "يبدو أن الجنود يتعافون بعد مرور بضعة أيام أو بضعة أسابيع"، تماماً كما يتعافى الأشخاص من الارتجاجات.
ولكن، كما هي الحال في الارتجاجات، هناك قلق متزايد من أن يؤدي التعرض المتكرر (لهذه الموجات الصدمية) إلى تلف دماغي دائم وتداعيات خطيرة على المدى الطويل على الصحة العقلية للجنود.
وأظهرت دراسة أجرتها البحرية الأميركية عام 2021 على سجلات 138 ألفاً من أفراد الخدمة العسكرية، أن هؤلاء الأكثر تعرضاً للانفجارات، ويواجهون خطراً متفاقماً للإصابة باضطرابات القلق والاكتئاب والصداع النصفي ومشكلات تعاطي المخدرات والخرف وعدد من الاضطرابات النفسية، بينها الشيزوفرينيا (الفصام) مقارنة بغيرهم.
"إهمال حقيقي"
وأفاد تحقيق "نيويورك تايمز" بأن كثيراً من الجنود وجنود مشاة البحرية الذين تعرضوا للموجات الانفجارية الناجمة عن إطلاق المدفعية الثقيلة في سوريا والعراق، عادوا إلى وطنهم "محملين بمشكلات عقلية وجسدية دمرت حيواتهم".
وقالت قيادة العمليات الخاصة رداً على أسئلة من "نيويورك تايمز" إنها تخطط لمواصلة استخدام قاذفة الصواريخ "كارل جوستاف"، ولكن "في مناسبات محدودة للغاية"، بسبب "آثارها السلبية المحتملة".
وأضافت القيادة أنها قطعت شوطاً باتجاه الحد من تعرض المدربين ومساعدي المدفعيين لدوي الانفجارات، والآن تطلب منهم الوقوف على مسافة أبعد لدى إطلاق المدفعيين القذائف.
إلا أنه خلال التدريب الأخير الذي تابعته "نيويورك تايمز" لم تر الصحيفة "أياً من خطوات السلامة قيد التفعيل"، ما وصفه ديفيد بوركهولدر، أستاذ الهندسة في معهد روتشستر للتكنولوجيا، بأنه "إهمال حقيقي بالنظر إلى كل ما تعرفه (البنتاجون)".
في عام 2010، وبناء على طلب الجيش، عمل بوركهولدر وفريق من وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتطورة، على تطوير "أداة تقييم صغيرة يمكن ارتداؤها" لقياس حجم تعرض الجنود الأميركيين للانفجارات.
واستخدمت الوكالة هذا المقياس على نحو 10 آلاف جندي أرسلتهم واشنطن إلى أفغانستان عام 2011 بهدف قياس التعرض للانفجارات الناجمة عن القنابل المزروعة على جانب الطريق.
ولكن الباحثين الذين حللوا البيانات وجدوا أن 75% من تعرض الجنود للانفجارات ناجم عن استخدامهم أسلحتهم الخاصة.
ووصف بوركهولدر هذه النتائج بأنها "مفاجئة للغاية"، مشيراً إلى أن "الخطر يأتي من عند أنفسنا. نحن السبب فيه".
في الوقت نفسه، أظهرت دراسات أخرى أن هذه الأنواع من الانفجارات "قوية بما يكفي لتسبب إصابات دماغية".
ففي عام 2009 وجدت دراسة أجراها الجيش السويدي باستخدم الخنازير لتقييم حجم الإصابة الدماغية الناجمة عن التعرض للانفجارات، أن الخنازير الموجودة في موقع إطلاق صواريخ كارل جوستاف، والتي تعرضت لدوي الانفجارات الناجمة من 3 طلقات "أصيبت بعدد كبير من عمليات النزيف المحدود في المخ".
وأظهرت دراسات لاحقة على عسكريين يخوضون تدريبات تتعلق بأعمال التفجير والقنص أدلة على ما ينجم عن ذلك من "آثار سلبية مؤقتة على وظائف المخ".
تأجيل برنامج قياس الانفجارات
وبدلاً من توسيع نطاق برنامج قياس الانفجارات، أجل الجيش بهدوء هذا البرنامج في عام 2016. وقال الجيش في ذلك الوقت إنه عمد إلى اتخاذ هذا الإجراء؛ لأن "القياسات لا تقدم بيانات متسقة وموثوقة". إلا أن بوركهولدر أرجع تأجيل القياسات إلى أن "البيانات تخبر القادة بما لا يريدون سماعه".
وعلى الرغم من أن التكليف الصادر عن الكونجرس عام 2018 يتطلب مراقبة التعرض للانفجارات، إلا أن البنتاجون "لا يزال يدرس تنفيذ ذلك"، وفقاً لتقرير "نيويورك تايمز".
وفي عام 2019، قالت قيادة العمليات الخاصة إنها ستشرع في "إصدار قياسات لجميع عناصرها"، ولكن بعد مرور 4 سنوات، "لم يحصل على هذه القياسات سوى المشاركين في الدراسات البحثية"، وفقاً لـ "نيويورك تايمز"، فيما أخبرت قيادة العمليات الخاصة الصحيفة أن برنامجها لقياس الانفجارات "في مراحل التطوير النهائية".
وقال كوري ماكفوي، الذي عمل مسعفاً في وحدة العمليات الخاصة، وغادر الجيش، في أغسطس الماضي، في مقابلة مع "نيويورك تايمز"، إنه "يشعر بإحباط بالغ لعدم تفعيل أي نظام لقياس الانفجارات الصدمية حتى الآن".
وأضاف: "على مستوى السياسات، يتحدث قادة (البنتاجون) عن هذه الأشياء الرائعة، ولكن من جهتي، لم أر أياً من هذه الأشياء. وإذا كنت لا أراها، فيمكنك أن تثق تماماً بأن فصيلة المشاة العادية لا تراها".