أفادت دراسة حديثة بأن فقدان الرؤية في الأشهر الأولى من الحياة، لا يمحو قدرة الدماغ على التعرف على الوجوه والأشياء والكلمات، رغم تأثيره الواضح في معالجة التفاصيل البصرية الدقيقة.
وتوصلت الدراسة التي نشرتها دورية Nature Communications، إلى أن الدماغ يستطيع الاحتفاظ بمرونة مدهشة على معرفة الوجوه، حتى بعد فترة مبكرة من العمى الناتج عن إصابة الأطفال حديثي الولادة بإعتام خلقي كثيف في العينين، يستدعي التدخل الجراحي لاستعادة البصر.
وأوضحت الدراسة أن بعض الأطفال يولدون وهم فاقدي القدرة على الرؤية؛ بسبب هذا النوع من الإعتام الثنائي، وأن الأشهر الأولى التي يعيشونها دون أي إدراك بصري تترك بصمة طويلة المدى على طريقة عمل الدماغ، وتبين أن الجزء المسؤول عن تحليل التفاصيل الصغيرة، كالخطوط الدقيقة والفروق الطفيفة في التباين، يحتفظ بخلل واضح حتى بعد مرور سنوات طويلة على الجراحة.
وأظهرت النتائج أن المناطق الأكثر تقدماً في الدماغ البصري، وهي المناطق المعنية بالتعرف على الوجوه والأشياء والكلمات، تعمل بدرجة شبه طبيعية، في مفاجأة تختلف عن الاعتقاد السائد بأن فقدان الرؤية المبكر يؤدي إلى اضطراب شامل في القدرات البصرية العليا.
واستخدم الباحثون التصوير الدماغي لإجراء مقارنة دقيقة بين البالغين الذين خضعوا لجراحات إزالة الإعتام الخلقي في طفولتهم، وأشخاص ولدوا ببصر طبيعي تماماً.
أثر مزدوج
أوضح فريق البحث أن الدماغ يتعامل بشكل مزدوج مع أثر العمى المبكر؛ إذ يتأثر جزء منه تأثراً دائماً، بينما يحتفظ جزء آخر بقدرة كبيرة على التعافي وإعادة التكيف. وتظهر البيانات أن المناطق المسؤولة عن تحليل التفاصيل الدقيقة تبقى محدودة الكفاءة، بينما تستعيد المناطق المسؤولة عن التعرف قدراتها بصورة شبه كاملة.
وأشار فريق البحث إلى أنه لم يكتف بالنتائج البيولوجية، بل اختبرها باستخدام نماذج حاسوبية تعتمد على شبكات عصبية اصطناعية، وأظهرت النماذج أن التمييز بين المناطق المتضررة والمناطق السليمة داخل الدماغ ليس مجرد ملاحظة بشرية، بل يمكن لمحاكاة الذكاء الاصطناعي أن تؤكده، ما يعزز دقة النتائج، ويقدم فهماً أعمق للآليات التي يعتمد عليها الدماغ في التعلم البصري.
وتبرز النتائج إمكانات تطبيقية مهمة في المجال الطبي؛ إذ تفتح الطريق أمام تطوير طرق علاجية جديدة مصممة خصيصاً لكل حالة، بدلاً من الاعتماد على برامج تأهيل موحدة لا تراعي الفروق الدقيقة في تأثير العمى المبكر على مناطق الدماغ المختلفة.
ولفتت الدراسة إلى أن الأطباء في المستقبل ربما يتمكنون من تصميم برامج علاجية تستهدف المنطقة المسؤولة عن التفاصيل البصرية الدقيقة تحديداً؛ بهدف تعزيز قدرتها على التعافي، أو تعويض ضعفها.
وأوضحت الدراسة أن دماغ الطفل يتمتع بقدرة أكبر على التكيف مما كان يعتقد سابقاً، بحسب المؤلف الرئيسي للدراسة، أوليفييه كوليجنون، أستاذ علوم الأعصاب بجامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا، والذي يقول إن الدماغ يمكنه أن يتعلم التعرف على العالم حوله حتى لو كانت المعلومات البصرية التي يتلقاها في بداية حياته ضعيفة أو مشوشة.
وأضاف أن التجارب الأولى في الحياة لها تأثير، لكن تأثيرها ليس حتمياً، ولا يعني أن الدماغ يفقد قدرته على التطور لاحقاً.
الفترة الحرجة
تُبرز النتائج أيضاً تحدياً كبيراً لفكرة "الفترة الحرجة" الموحدة في تطور الجهاز البصري، إذ توضح الدراسة أن الدماغ لا يملك فترة حرجة واحدة يتحدد فيها مصيره البصري بالكامل، بل يمر بمسارات متعددة، تختلف فيها درجة المرونة من منطقة إلى أخرى، مشيرة إلى أن بعض المناطق أكثر حساسية للحرمان البصري في الأشهر الأولى، بينما تمتلك مناطق أخرى قدرة أكبر على التعافي، حتى بعد مرور وقت طويل.
وتظهر الدراسة أن مفهوم هشاشة الدماغ في مراحل الحياة المبكرة يحتاج إلى إعادة تقييم، فالمناطق المتضررة بوضوح من العمى المبكر تعكس جانب الهشاشة، بينما يبرز جانب المرونة في المناطق التي استعادت أداءها. ويشرح كوليغنون أن الدماغ يجمع بين الهشاشة، والقدرة على التكيف في آنٍ واحد، وأن التجارب الأولى في الحياة لا ترسم قدرته المستقبلية بشكل مطلق.
وتشير البيانات التي جمعتها الدراسة إلى أن الأطفال الذين خضعوا للجراحة بعد أشهر من الولادة استطاعوا تطوير إدراك بصري متقدم، يسمح لهم بالتعرف على الوجوه والأشياء والقراءة، رغم أنهم لم يحصلوا على أي خبرات بصرية خلال المرحلة التي يفترض أنها مهمة لبناء الأسس العصبية للرؤية.
وتوضح الدراسة أن هذا الاكتشاف يغيّر النظرة التقليدية إلى تطور الدماغ البصري، الذي كان يعتقد أنه يحتاج إلى خبرة كاملة منذ الأيام الأولى كي يعمل بشكل طبيعي لاحقاً.









