قبل أن يبزغ فجر عالمنا الحديث، قيل إن ولادة قيصر كانت مستعصية، ما دفع المحيطين بوالدة القائد الروماني إلى شق بطنها جراحياً وإخراج الطفل سليماً معافى في عام 100 قبل ميلاد المسيح، ومنذ ذاك الحين بات يُطلق على هذا الإجراء "قيصرية".
الكثيرون شككوا في تلك الرواية، ورجحوا أن يكون اللفظ جاء من فعل لاتيني بمعنى "يقطع"، دون أي حواشٍ تاريخية درامية.
وبمعزل عن غموض الأصل التاريخي للمصطلح، لا يزال شق بطن الأم لإخراج المولود إجراء طبياً شائعاً في عصرنا الحديث، ويُعد من التدخلات الضرورية في بعض الأحوال للحفاظ على حياة الأم والطفل في آن واحد.
بينما تقدر منظمة الصحة العالمية المعدلات المثالية للولادات القيصرية ما بين 10 إلى 15% فقط من الولادات، تشهد دول عديدة حول العالم ارتفاعاً ملحوظاً في نسب الولادات القيصرية غير المبررة، لاسيما في مصر حيث وصل ارتفاع نسب التدخل الجراحي إلى نحو 72%.
توجيهات رسمية
وخلال سبتمبر الجاري، أعلنت وزارة الصحة المصرية توجيهات تستهدف الحد من الولادات القيصرية "غير المبررة"، معللة ذلك بالحفاظ على صحة الأم والجنين وتقليل التداعيات السلبية والمخاطر المتوقعة نتيجة ذلك الإجراء الطبي.
وعددت الوزارة تلك التداعيات السلبية لتشمل الإصابة بالمشيمة المتوغلة واستئصال الرحم ونزيف الولادة، إضافة إلى المخاطر أو الآثار السلبية المتعلقة بالأطفال كالتعرض لمخاطر السمنة والسكري وأمراض المناعة.
وتتضمن قائمة التوجيهات الوزارية العمل على المساواة في أتعاب الأطباء والطواقم الطبية عند تنفيذ ولادات طبيعية أو قيصرية، وتخصيص حوافز مالية للفرق التي تحقق أعلى معدلات في الولادات الطبيعية.
وتتضمن التوجيهات أيضاً عقد دورات لتدريب الفرق الطبية، وجمع المعلومات من المنشآت الطبية الحكومية والخاصة على حد سواء بشأن الولادات القيصرية وأسباب تنفيذها، إلى جانب إلزام المستشفيات الخاصة والحكومية بالأدلة الإرشادية المتعلقة بضوابط اللجوء للولادة القيصرية.
ارتفاع النسب
وجاءت توجيهات وزارة الصحة المصرية في أعقاب ارتفاع جديد في نسب الولادات القيصرية، كشف عنه المسح الصحي للأسرة المصرية لعام 2021، الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وأوضح المسح أن الولادات القيصرية شهدت ارتفاعاً في المحافظات كافة، مقارنة بإحصاءات عام 2014، ليصل المعدل إلى نحو 72% من الولادات، ما يعزز الظن بأن هناك إفراطاً في استخدام التدخل الجراحي، دون دواعٍ طبية مناسبة.
وأرجعت دراسة أعدها المجلس القومي للسكان في مصر عام 2018 زيادة الولادات القيصرية إلى مجموعة من الأسباب، من بينها المؤشرات الطبية، ورغبة الأمهات فضلاً عن تفضيل الأطباء أنفسهم لذلك النمط من الولادات، بجانب أسباب أخرى متعلقة بأنظمة وموارد المستشفيات.
تلك الرؤية تعززها أستاذة الصحة العامة بكلية الطب جامعة عين شمس، وجيدة أنور، فتؤكد أن زيادة النسب الملحوظة ترتبط بخيارات الأم والطبيب على حد سواء.
وأضافت أنور لـ"الشرق" أن العديد من الأطباء باتوا يفضلون الولادة القيصرية لاعتمادها على توقيت محدد سلفاً، ما يساعدهم على تنظيم أعمالهم دون مفاجآت، إلى جانب إمكانية الكسب الوفير.
وتابعت: "في حالات الولادة القيصرية لا ينتظر الطبيب بل يحدد موعد الولادة بما يناسب جدوله الخاص، ومن ثم يمكنه القيام بـ5 عمليات ولادة في اليوم الواحد، ما يزيد الكسب المادي؛ وكذلك الأم باتت ترغب في تحديد موعد ولادتها بشكل دقيق، لا يُفسد عليها التزاماتها المهنية والتعليمية".
سلاح ذو حدين
وعلى الرغم من فعالية الولادة القيصرية فيما يتعلق بتنظيم الوقت، إلا أنها تحمل بعضاً من عوامل الخطر طويلة وقصيرة الأمد، بحسب أستاذة الصحة العامة بجامعة عين شمس، وفي مقدمتها حرمان الأم من المزايا الطبيعية للولادة المهبلية.
وأوضحت وجيدة أنور أن "الولادة الطبيعية تتضمن العديد من المزايا الفسيولوجية والنفسية والكيميائية، من بينها إفراز جسم الأم هرمونات تساعدها على الرضاعة الطبيعية ولاحقاً في عملية التعافي، الأمر المفتقد في الولادة القيصرية".
كما قد تصاب الأم بمتاعب طويلة الأمد، بسبب مضاعفات الولادة القيصرية، كأن يكون الحمل التالي خارج الرحم، أو صعوبة الولادة الطبيعية في الطفل الثاني، وخطر انفجار الرحم الناتج عن تكرار الولادات القيصرية.
لكن بعض الأمهات، لا يلتفتن لتلك المضاعفات المحتملة نتيجة لمخاوف أخرى، تشرحها أستاذة الصحة العامة بجامعة عين شمس قائلة: "بعض الأمهات يخشين آلام الولادة الطبيعية، ونماذج الولادة المفاجئة في العمل أو الشارع، الزوج أيضاً يخشى أن تتعرض زوجته لمثل تلك المواقف".
ووفقاً للمصدر ذاته يمكن السيطرة على تلك الأزمة عبر رفع وعي الأب والأم والأسرة بفوائد الولادة الطبيعية، فضلاً عن تدريب وتثقيف الأطقم الطبية والممرضات والقابلات كذلك، مع توفير الخدمات الصحية الملائمة في الوحدات الصحية والمنشآت الطبية، كسيارات الإسعاف المخصصة للتدخل السريع في حالات الولادة.
قيصرية انتقائية
في بعض الأحيان تأتي الولادة القيصرية كحل آمن للأم والطفل، خاصة مع تعقد ظروف الولادة الطبيعية وبذلك تعتبر إجراء طبياً ضرورياً،لكن في أحيان أخرى تختارها الأم منذ البداية، كما تشرح استشارية النساء والتوليد، د. هناء أبو القاسم، وفي تلك الحالة يفضل الطبيب تقبل قرار الأم واحترامه، غير أنها تؤكد أهمية تقديم كل المعلومات اللازمة للأم لتساعدها على اتخاذ القرار الملائم.
وتضيف أبو القاسم: "في تلك الحالة نقدم للأم كل المعلومات المبنية على أدلة وأسس علمية بشأن فوائد وأضرار نوعَي الولادة وفقاً لحالتها الخاصة بشفافية ووضوح، ومن ثم تتمكن الأم من اتخاذ القرار المستنير".
وتتفق أبو القاسم مع رؤية نسبة الولادة القيصرية في مصر كظاهرة مثيرة للقلق، ولكنها في الوقت ذاته لا تؤيد تشويه الولادات القيصرية بشكل عام، أو محاولة إثارة مخاوف الأمهات الجدد بشأنها، موضحة أن اللجوء للخيار الجراحي "يأتي لمساعدة الأم لأسباب طبية أو نفسية تمنعها من الولادة الطبيعية".
وأكدت أن "الولادة القيصرية عملية جراحية لها مخاطر كأي جراحة أخرى، غير أن التطور العلمي الكبير وشيوع استخدام البنج النصفي وغيره من الإجراءات جعلها أكثر أمناً ولطفاً على النساء".
وترى استشارية النساء والتوليد أنه من الضروري التحدث إلى الأمهات بشأن مزايا الولادة الطبيعية بدلاً من إثارة مخاوفهن، باعتبارها تجربة فارقة تعزز ثقة الأم بنفسها وتمنحها شعور بالقوة والتحكم، مقابل الولادة القيصرية التي لا تشارك فيها الأم بل تبقى تحت تأثير التخدير.
حدث عائلي
وتشرح أبو القاسم اختلافاً جوهرياً بين الولادة القيصرية والطبيعية، إذ إن الأخيرة تعتمد على الأم بالأساس ويقتصر دور الطبيب في المراحل الأولية من الولادة على تقديم الدعم المعنوي لها، فيما يتعين عليها استخدام ما جمعت من معرفة خلال فترة الحمل لتخفيف الألم، عبر تمرينات الاسترخاء والتنفس العميق التي تسهم بفاعلية في تخفيف المعاناة، بينما يتدخل الطبيب في حالات الولادة المتعسرة.
وأضافت استشارية النساء والتوليد: "علينا أن نضع في الاعتبار أن دعم الأم أثناء ولادة قد تطول لتبلغ 12 ساعة ليس من أدوار الطبيب، بل يعتبر ذلك دور القابلة المخول لها تقديم ذلك النوع من الخدمات الطبية".
أما الرعاية المعنوية للأم طوال ساعات الولادة والتأكد من راحتها فهو دور "الدولة"، وهي مساعدة متخصصة تقدم بعضاً من أنماط الدعم العاطفي والبدني أثناء الولادة، كمساعدة الأم على تحسين وضعية الجلوس أو القيام بخدمات كالتدليك وتشجيعها خلال مراحل المخاض المختلفة.
وتنصح أبو القاسم الأمهات أن يحضرن دورات الحمل والولادة التدريبية على أيدي مدربين معتمدين، للحصول على المعلومات بشأن الولادة، ومن ثم الاستعداد على النحو الملائم مع الاستفادة من المعرفة في تكوين قرار مستنير حول كيفية الولادة.
اقرأ أيضاً: