كشفت جائحة كورونا عن نقاط ضعف ومشكلات ضخمة في منظومات الأمن الصحي العالمية، ولكن سلسلة بحثية جديدة، نُشرت في دورية "لانسيت" الطبية، سلطت الضوء على نهج صحي قد يحمل حلاً لهذه المشكلات.
واعتبرت الدراسة الجديدة، أن هذه المشكلات لا يُمكن حلها إلا عبر تنفيذ نهج عالمي يُعرف باسم "الصحة الواحدة"، وهي خطة تعمل منظمات الصحة المختصة بالبشر والحيوانات والبيئة عليها، وتهدف إلى كشف الترابط بين الأطراف الثلاثة، بهدف منع انتشار الأمراض ومراقبتها.
ويُشير مصطلح "الصحة الواحدة"، إلى وجود علاقة لا يُمكن إنكارها بين صحة الإنسان والحيوان والبيئة.
ويؤكد هذا النهج الجديد الترابط الصحي بين العناصر الثلاثة، وإمكانية تأثير كل طرف على الآخر، وبالتالي تظهر الحاجة إلى نهج شامل لمعالجة القضايا الصحية التي تنشأ عند تقاطعها.
ودعا مؤلفو هذا البحث في "لانسيت"، إلى زيادة الاستثمار في نهج "الصحة الواحدة"، لا سيما فيما يتعلق بالتدخلات الوقائية، والتأهب لحالات الطوارئ الصحية.
تكلفة الاستجابة والتعافي
تقول سلسلة الأبحاث المنشورة، إن هناك حاجة إلى مليارات الدولارات سنوياً لإحداث تأثير حقيقي على الوقاية والتأهب على مستوى العالم، وهذه الاستثمارات ليست سوى جزء صغير من التكلفة الضخمة التي قد تتكبدها الدول لمواجهة حالة طوارئ صحية عالمية، مثل جائحة كورونا.
لكن، ما العلاقة بين صحة الإنسان والحيوان والبيئة؟
يرى أستاذ ورئيس قسم علم الأوبئة والصحة العامة بالمعهد السويسري للصحة الاستوائية والعامة جاكوب زينسستاج، وهو المؤلف الرئيسي لأحد الدراسات الأربعة المنشورة مؤخراً في "لانسيت"، أن "نهج الصحة الواحدة قيمة مضافة، ويشكل فائدة متزايدة للتعاون الوثيق في مجال صحة الإنسان والحيوان والعديد من القطاعات الأخرى".
وأشار في تصريحات لـ"الشرق"، إلى أن "هذا النهج لديه إمكانات عالية لتحسين الأمن الصحي العالمي، لكن لا تزال هناك فجوات معرفية وتنفيذية في قضايا البيئة والحياة البرية والزراعة".
وأضاف زينسستاج: "على سبيل المثال، تؤثر الأنشطة البشرية على انتشار الأمراض الحيوانية المنشأ من خلال تجاهل النظافة في إدارة الحياة البرية، والحيوانات المنزلية، بالإضافة إلى الصيد والإنتاج والنقل والتجارة وأسواق الحيوانات الحية، واستهلاكها". وبالتالي "يمكن القضاء على العديد من الأمراض الحيوانية المنشأ، إذا كانت الحكومات مستعدة للمشاركة في مكافحتها على مستوى الحيوانات التي تنقل تلك الأمراض".
وأشار زينسستاج، إلى "أدلة على أن مثل هذه التدخلات مربحة، وأقل تكلفة من علاج البشر فقط".
كما أن توسع المجتمعات في المدن، يستلزم زراعة المزيد من الأراضي لإطعام السكان، ويؤدي هذا إلى إنتاج حيواني مكثف للغاية، وإذا لم يتم التحكم فيه جيداً، فقد يؤدي إلى انتقال الأمراض التي يمكن أن تنتقل إلى البشر، مثل الحمى المالطية والسل البقري والبكتيريا العطيفة والسالمونيلا.
كما أن الحيوانات الأليفة في المدن، وخصوصاً الكلاب، يمكن أن تكون وعاءً للكثير من الأمراض، مما يعرض الناس للخطر.
فجوات في التوزيع الجغرافي
تكشف الدراسات المنشورة عن وجود فجوات وتباينات في التوزيع الجغرافي، فيما يتعلق بآليات تطبيق نظام "الصحة الواحدة".
ويقول الباحثون إن ذلك النظام يجب أن يتحرر من هياكل السلطة المتمركزة في البلدان ذات الدخل المرتفع، لإنشاء شبكات عالمية أكثر تساوياً، تعالج اتساع القضايا، وتخدم المجتمعات الأكثر تضرراً من التهديدات الناشئة والحالية للأمن الصحي.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تتجاوز أولويات التمويل، الإعانات والمنح لتطوير الصناعة الأكاديمية القائمة في البلدان ذات الدخل المرتفع، للتركيز بشكل أكبر على نقل التكنولوجيا القابلة للقياس والاكتفاء الذاتي في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.
إذن كيف يمكن دمج أنظمة صحة الإنسان والحيوان بشكل أفضل لمواجهة خطر الأمراض المعدية المستجدة؟
يقول زينسستاج، إننا "لسنا بحاجة إلى وزارات أو خدمات جديدة، فالموجودة كافية"، لكن "يجب أن يعملوا بشكل أفضل معاً".
فإدارات الصحة البشرية وصحة الحيوان والزراعة والبيئة وسلامة الأغذية يجب أن يتعاونوا بشكل وثيق معاً، وتنسيق عملهم بشأن الاستجابة للأمراض المعدية، ومراقبة مقاومة مضادات الميكروبات والقضايا الأخرى ذات الاهتمام المشترك.
وأنشأت بالفعل العديد من البلدان منصات "الصحة الواحدة"، ومن خلال مراقبتها يُمكن القول إنها تعمل بشكل جيد، وفقاً لزينسستاج.
تاريخياً، لعبت المنظمات الدولية والوطنية دوراً في صحة الإنسان والحيوان والبيئة بشكل منفصل، وفق الباحثة في مجال علم الأوبئة المُقارن بجامعة أكسفورد علا محمد أحمد، وهي المؤلفة الرئيسية لإحدى الدراسات الأربعة المنشورة مؤخراً في "لانسيت".
وكنتيجة مباشرة لزيادة الاعتراف بأهمية نهج "الصحة الواحدة"، كانت هناك مبادرات متعددة لتقريب هذه القطاعات والمؤسسات معاً.
تهديدات لا تحترم الحدود
وتقول الباحثة علا محمد أحمد، إن هناك العديد من التحديات التي تواجه تطبيق نهج "الصحة الواحدة"، لكن "يمكن استخدام المؤسسات الإقليمية لتجميع الموارد ومشاركتها، مثل القدرة على تصنيع اللقاحات والتشخيصات والعلاجات، وهذا مهم بشكل خاص حيث تفتقر بعض الدول إلى الموارد التقنية والمالية والبشرية لتصنيعها".
وترى الباحثة في علم الأوبئة المقارن، إن "العديد من التهديدات الصحية لا تحترم الحدود، فبعضها تعبر وتغزو المناطق دون رادع أو قيد".
وبحسب علا، لا تعتبر جميع التهديدات الصحية على المستوى الإقليمي مهمة للأمن الصحي العالمي على الرغم من شدتها، مضيفة: "قدمنا دراسة حالة عن غزو الجراد في شرق إفريقيا، والذي حدث نتيجة لتغير المناخ، وأدى إلى انعدام الأمن الغذائي لـ25 مليون شخص في جميع أنحاء آسيا وإفريقيا، ولكنه حصل على قدر أقل من الاهتمام والتمويل".
ما الحل للدول الفقيرة والنامية؟
تقول علا، إن فرص الدول التي تفتقر إلى القوة السياسية أو المالية في النظام العالمي متعدد الأطراف، تكمن في "تشكيل تحالفات وتكتلات مع حلفاء سياسيين"، واستخدم هذا النهج لتحقيق بعض النجاح بالفعل.
كما أن هناك عدداً من الطرق التي يمكن أن يبدأ بها تعزيز نهج الصحة الواحدة والأمن الصحي العالمي، في معالجة التفاوتات التي نراها داخل البلدان وفيما بينها.
ولتمكين الوصول العادل إلى التقنيات الطبية والتدابير المضادة لحالات الطوارئ، ينبغي للبلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، أن تستفيد بشكل أكبر من الأحكام المتعلقة بالصحة في المعاهدات الدولية، مثل إصدار التراخيص الإجبارية للعلاجات الجديدة، أو الإصرار على التنازل عن حقوق الملكية الفكرية حيثما كان ذلك مناسباً، مع إعطاء المزيد من القدرة التصنيعية المحلية للدول النامية.
وترى علا، أن معالجة العوامل البيئية التي تسهم في تفشي الأمراض والأوبئة، والاستجابة لها بشكل مناسب، أمر شديد الأهمية، على وجه الخصوص، إذ ستستمر الأزمات البيئية العالمية التي نتعامل معها (تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي والتلوث) في التأثير على الصحة بطرق لا يمكن التنبؤ بها.
ويتطلب هذا التزاماً سياسياً وتمويلاً يتجاوز الأمراض المعدية والجوائح، وتعاوناً تقنياً عبر القطاعات والمنظمات.
ويؤكد زينسستاج، أن تطبيق نهج "الصحة الواحدة"؛ والتعاون الوثيق بين صحة الإنسان والحيوان والقطاعات الأخرى، لن يؤدي إلى فوائد تتعدى إنقاذ الأرواح البشرية والحيوانية فحسب، بل سيشمل الفوائد المالية والخدمات البيئية المستدامة، وهو "ما يؤكد أن الصحة الواحدة أفضل نهج متكامل عملي على مستوى المنظمات الدولية والعديد من الحكومات الوطنية".