سبب انتشار فيروس "كورونا" المستجد "كوفيد-19" هزّة كبيرة في قطاع الصحة العالمي، لم تسلم منها "منظمة الصحة العالمية" التي تعتبر المرجع الأساسي للحماية من الأمراض المعدية ووضع آليات مكافحتها في جميع الدول.
ومنذ اتهامات الرئيس الأميركي دونالد ترامب للمنظمة بـ"التقصير وضعف الأداء في مواجهة الفيروس، ومحاباة الصين"، وهي تواجه انتقادات لاحصر لها حول طريقة تعاطيها مع الجائحة التي خلفت أكثر من مليوني إصابة حول العالم.
انتقادات سابقة
لم تكن هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها "منظمة الصحة العالمية" لانتقادات حول إدارتها للأزمات الصحية، فمنذ تأسيسها في عام 1948 وهي تعبر من اختبار لآخر، بيد أن الانتقادات التي طاولت أداء المنظمة، كانت دائماً مرتبطة بأحداث معينة أبرزها، انتشار فيروس إيبولا الأول في عام 1976، والثاني في 2014، إلى جانب متلازمة الجهاز التنفسي الحادة "سارس"، التي ظهرت في 2003، و"إنفلونزا" الخنازير في عام 2009 ، بالإضافة إلى متلازمة الشرق الأوسط التنفسية "ميرس" في 2012.
استجابة متأخرة
لم تكن استجابة "منظمة الصحة العالمية"، لتفشي متلازمة "سارس" عام 2004 على قدر التوقعات والآمال.
"سارس" الذي بدأ رحلته من البر الرئيسي للصين قبل 16 عاماً، أودى بحياة قرابة الـ800 شخص في جميع أنحاء العالم، نحو ثلثهم في هونغ كونغ، وسط عدة انتقادات للمنظمة ورئيستها في ذلك الحين مارغريت تشان، حول طريقة التعاطي مع الفيروس.
وانتقد المشرعون في هونغ كونغ "تشان"، لعدم قيامها بالضغط على الحكومة الصينية بشكل كافٍ لتبادل المعلومات الموثوقة وعدم التصرف بسرعة كافية لاحتواء تفشي الفيروس.
واعترفت تشان، بأنها تأخرت لمدة 12 يوماً في إضافة "سارس" إلى قائمة الفيروسات والأمراض التي يمكن أن يُجبر الناس بسببها على الحجر الصحي. وبررت موقفها بأنه يعود إلى أسباب تتعلق بخلافات حول اسم الفيروس ذاته.
"إنفلونزا الخنازير"
وبعد 5 أعوام على تفشي متلازمة "سارس"، تعرضت "منظمة الصحة العالمية" لانتقادات لاذعة في عام 2009 حول استجابتها المبالغ بها لوباء "إنفلونزا الخنازير" الذي كان هناك خشية من أن يكون تكراراً لـ"الإنفلونزا" الإسبانية، التي ظهرت في عام 1918 وأودت بحياة 50 مليون شخصاً حول العالم.
واتهمت منظمات المجتمع المدني،"منظمة الصحة العالمية" آنذاك، بأنها كانت "لعبة في أيدي شركات الأدوية التي حرصت على بيع لقاحاتها"، فحصلت على موافقة سريعة منها، على رغم اكتشاف أن "الإنفلونزا" تكاد تكون أقل شراسةً مما كان متوقعاً (التقديرات الأخيرة وجدت أنه كان من الممكن أن تقتل إنفلونزا الخنازير نصف مليون شخصحول العالم). تجدر الإشارة إلى أنه تم ربط اللقاحات بحالات التغفيق أو الخدار واضطرابات النوم.
تفاعل متوسط
في سبتمبر 2012، ومع اكتشاف أولى حالات الإصابة بفيروس "ميرس"، أظهرت "منظمة الصحة العالمية" استجابة شبه سريعة.
وأعلنت المنظمة في 25 سبتمبر 2012 ، أنها "منخرطة في المزيد من الجهود لتوصيف الفيروس التاجي الجديد". وتحدثت عن إصدارها تنبيهات إلى جميع الدول الأعضاء في شأن الفيروس، إلى جانب إشرافها على عملية التنسيق وتقديم التوجيه للسلطات الصحية والوكالات التقنية التابعة لها.
فشل كبير
في عام 2014، وبعد مرور عامين على أزمة "ميرس"، هُوجمت المنظمة بشراسة من جهات عدة، بسبب ما وصف بـ"الاستجابة البطيئة" لتفشي فيروس "إيبولا، الذي ينتقل إلى الإنسان من الحيوانات البرية، والمعروف سابقاً باسم "حمى الإيبولا النزفية"، والتي يعود أصلها إلى منطقة غابات نائية في غينيا، حيث كانت الحدود مع سيراليون وليبيريا غير موجودة تقريباً.
وبحسب الانتقادات، لم تتحرك المنظمة وقتها لاتخاذ الإجراءات اللازمة، إلا بعد 6 أشهر من ظهور الفيروس، أي بعد أن كان قد بدأ بالانتشار ووصل إلى المدن المكتظة وحصد أعداداً كبيرة من الإصابات.
وفي 8 أغسطس 2014، أعلنت المنظمة أن الجائحة تشكل "حالة طوارئ صحية عامة تسترعي الاهتمام الدولي على مستوى العالم".
وفقاً لمدير "معهد أونيل" في جامعة جورج تاون للقانون الصحي الوطني والعالمي، لورنس جوستن، فإن رئيسة المنظمة تشان لم تطالب الدولَ المتضررة من إيبولا علناً بإعطاء صورة أكثر دقة عن الوباء، وتركت الأمر للحكومات في تقدير الإجراءات اللازمة.
مراجعات معمقة
وأصدرت مجموعة مستقلة مكونة من 19 خبيراً من جميع أنحاء العالم، مراجعة معمقة للاستجابة العالمية لتفشي فيروس الإيبولا بين عامي 2014 و2015، والذي أودى بحياة 11 ألف شخص في غرب أفريقيا وحدها.
وأجريت المراجعة بدعوة من معهد هارفارد للصحة العالمية (HGHI)، وكلية لندن للصحة والطب الاستوائي، ونُشرت نتائجها في مجلة "لانسيت" الطبية.
وخلص الخبراء في مراجعتهم، إلى أن وباء إيبولا "تسبب في معاناة إنسانية هائلة وخوف وفوضى.. في ظل غياب قيادة سياسية رفيعة المستوى أو استجابات مؤسسية موثوقة وسريعة".
ونبه الدكتور في "جامعة هارفارد"آشيش جها، وهو أحد الخبراء المشاركين في المراجعة، إلى ضعف استجابة منظمة الصحة العالمية، قائلاً إن "الفشل الأكثر فظاعة ظهر في أداء المنظمة التي تأخرت في دق ناقوس الخطر، فكانت تكلفة التأخير باهظة".
وأضاف أنه رغم امتلاك المنظمة لتجارب سابقة مع تفشي الأوبئة، لكن غالباً ما تبدو "مشتتة تماماً".
بدورها، قالت عضوة الفريق الليبيري الذي شارك في المراجعة، د. موسوكا فلاح من منظمة "كونتر لا فايم إنترناشيونال"الفرنسية، إن "عدد الوفيات الناجم عن وباء الإيبولا في غرب أفريقيا يتطلب فريقاً من المفكرين المستقلين ليكونوا بمثابة مرآة للبحث في كيف ولماذا كانت الاستجابة العالمية لأكبر كارثة لفيروس إيبولا في تاريخ البشرية متأخرة وضعيفة وغير منسقة".
من جهته، وصف البروفيسور ديفيد هيمان من تشاثم هاوس وكلية لندن للصحة والطب الاستوائي، دور منظمة الصحة العالمية بـ"المحوري"، مشيراً إلى أنها "خط الدفاع الثاني، بعد الحكومات والمنظمات غير الحكومية، عندما يتفشى وباء في أكثر من بلد".
ودعا هيمان إلى "تعزيز قدرات المنظمة وزيادة مواردها عن طريق حشد أفضل الخبرات من جميع أنحاء العالم لمواجهة تهديدات الأوبئة ومساعدة بلدان العالم على الاستعداد لها".
وفيما يتعلق بدور منظمة الصحة العالمية، قال عضو الفريق الذي وضع المراجعة البروفيسور ديفيد هيمان إن "منظمة الصحة العالمية هي خط الدفاع الثاني، بعد الحكومات والمنظمات غير الحكومية، عندما يتفشى مرض معدي في أكثر من بلد واحد ويستلزم دعماً دولياً."
وأشار إلى ضعف المنظمة، قائلاً إنه "ينبغي تعزيز قدراتها، وزيادة مواردها عن طريق حشد أفضل الخبرات من حول العالم لمواجهة تهديدات الأوبئة ومساعدة بلدان العالم على الاستعداد لها".
مقترحات مستقبلية
المراجعة التي أجراها "معهد هارفرد للصحة العامة"، قدمت كذلك حزمة من المقترحات الإصلاحية الرئيسية لتجاوز إخفاقات "منظمة الصحة العالمية" في التعاطي مع الأوبئة مستقبلاً، مع التركيز على دورها المحوري في التعاطي مع الأزمات والكوراث الصحية.
ودعا الخبراء في ختام مداولاتهم إلى وضع استراتيجية عالمية للاستثمار في القدرات الوطنية بكل بلد، ورصدها والمحافظة عليها، مع التحفيز على الإبلاغ المبكر عن ظهور مرض ما وتفشيه، وإنشاء مركز موحد لــ"منظمة الصحة العالمية" وتمكينه وتطوير خطوط مساءلة قوية لاستجابته للأمراض.
وحثت التوصيات على إضفاء طابع مؤسسي على المساءلة في المنظمة من خلال لجنة مستقلة للوقاية من تفشي الأمراض والتصدي لها، وإنشاء صندوق عالمي لتمويل البحث والتطوير وتسريعه وتحديد أولوياته، شرط أن تعمل "منظمة الصحة العالمية" على ضمان الاهتمام السياسي العالمي بقضاياها.
ومن أبرز النقاط التي أجمع عليها الخبراء الذين شاركوا في المراجعة، ضرورة وضع خطة تمويلية جديدة لـ"منظمة الصحة العالمية"، وتطوير حوكمة أكثر رشداً تعتمد على الحسم والحزم والسرعة في قيادة الأزمات.