الموت يهدد الملايين.. السودان تحت حصار الأوبئة والجوع والفيضانات

أطفال يعانون من سوء التغذية يتلقون العلاج في مركز لطب الأطفال بمدينة بورتسودان في السودان. 7 سبتمبر 2024 - Reuters
أطفال يعانون من سوء التغذية يتلقون العلاج في مركز لطب الأطفال بمدينة بورتسودان في السودان. 7 سبتمبر 2024 - Reuters
بورتسودان-خالد عويس

لم تختر "هـ"، وهي خمسينية تعول 3 أبناء توفي والدهم قبل سنوات، البقاء في إحدى مناطق القتال الساخنة بالعاصمة السودانية، إلا بسبب ظروفها الاقتصادية بالغة السوء التي حالت دون تمكنها من المغادرة، وإلى جانب الصعوبات التي تواجهها لتأمين قوت عائلتها، تُعاني هذه السيدة للحصول على أدوية مرض السكري الذي أصابها منذ زمن.

وأوضحت لـ"الشرق" أن الحصول على الدواء المنقذ لحياتها بات "أشبه بالعثور على إبرة في كوم قش" نتيجة الحرب ومضاعفاتها، مشيرةً إلى أن المال ينقصها دائماً لابتياع احتياجات أسرتها، ما اضطرها إلى ترشيد وجباتها من الطعام، حيث تعتمد على المساعدات، وقالت إن "أوضاع غالبية السودانيين باتت سيئة للغاية، ولم يعد باستطاعة الناس مساعدة بعضهم البعض".

ومنذ اندلاع الصراع العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023 تفاقمت الأوضاع الاقتصادية والإنسانية إلى درجة دق ناقوس الإنذار من قبل المنظمات الدولية، ولم يكن ينقص السكان إلا الفيضانات التي تسببت بها الأمطار الغزيرة، ما أدى إلى صعوبة إيصال الإعانات التي يرسلها الأقارب من خارج البلاد، وبات الوصول إلى الصيدليات القليلة متعذراً في ظل الظروف المناخية واستمرار القتال.

وتخشى هذه السيدة السودانية من مضاعفات السكري نتيجة هذه الأوضاع، لا سيما أن الخدمات الطبية، بما في ذلك المستشفيات، لم تعد متوفرة كما كانت في السابق.

وأجبرت الحرب أكثر من 12 مليوناً على النزوح في الداخل أو اللجوء إلى دول الجوار.

كارثة صحية في الخرطوم

في 8 سبتمبر الجاري، تحدث مسؤولون بغرفة طوارئ الخرطوم بحري لـ"الشرق" عن تردي الأوضاع الصحية إلى "أقصى درجات التدهور" في المدينة التي تشكّل الضلع الثالث من أضلاع العاصمة السودانية، في ضوء توقف المؤسسات الصحية الحكومية عن العمل في المناطق المحاصرة.

وتشهد المدينة انقطاعاً كاملاً في سلاسل الإمداد الدوائي منذ ما يقارب العام والنصف، ما أدى إلى تفشي الأمراض المرتبطة بسوء التغذية والتلوث البيئي، بالإضافة إلى غياب المواد الغذائية الضرورية.

كما تنتشر في العاصمة السودانية العديد من الأمراض، منها الإسهال المائي الحاد والكوليرا، إلى جانب حالات متزايدة من التيفوئيد والملاريا، وأمراض أخرى لم يتم التعرف عليها بعد نتيجة غياب أدوات الفحص وتوقف المستشفيات، بحسب غرفة الطوارئ.

وفي ظل هذه الأزمة، تُعاني النساء الحوامل من انعدام الرعاية الصحية الكافية، ما أدى إلى تزايد حالات وفاة الأجنة نتيجة غياب المتابعات الطبية، و"عدم معرفة الأمهات بوفاة الجنين" مما يسبب حالات تسمم خطيرة قد تكون مميتة".

وكشفت الغرفة عن انعدام اللقاحات الضرورية لأمراض مثل الحصبة والسل بالنسبة للأطفال، ما يجعل حياتهم مهددة.

انتشار الأوبئة

في آخر إحصاءات انتشار الأوبئة، قال مركز عمليات الطوارئ في السودان إن 3 ولايات شهدت مؤخراً 361 إصابة بالكوليرا، ليرتفع عدد الإصابات بهذا المرض في سائر أنحاء البلاد إلى 6 آلاف و618 حالة، قضى منهم 235 جراء المرض.

وإلى جانب استمرار النزاع المسلح، فاقمت الأمطار الغزيرة والسيول في عدد من ولايات البلاد الأوضاع الصحية المتدهورة بالأساس، ويُضاف إلى ذلك، وفقاً لوزارة الصحة، الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية.

وأشار مركز عمليات الطوارئ إلى تضرر 45 ألف أسرة من الأمطار والسيول، في حين تشكو بعض مناطق السودان، لا سيما في الشمال، من نقص في أمصال العقارب والثعابين.

ولدى زيارته بورتسودان، أعرب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدناهوم جيبريسيوس، الأحد، عن "حزنه لتجاهل الأسرة الدولية الكارثة الإنسانية في السودان"، مشيراً إلى صدمته جراء رؤية الأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد، وأوضاع أمهاتهم النازحات في بورتسودان. ولفت إلى أن 25.6 مليون نسمة يُتوقع أن يواجهوا مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي.

وقال جيبريسيوس إن الفيضانات أدت إلى تعقيد الأوضاع الإنسانية على نحو أسوأ، مشيراً إلى انتشار أمراض مثل الكوليرا والملاريا وحمى الضنك والحصبة، علاوة على مخاطر من الإصابة بمرض "جدري القردة".

وحذر المكتب الأممي من أن الفيضانات والمياه الراكدة تسببت وفاقمت تفشي وباء الكوليرا في البلاد.

50 مليون دولار للأدوية شهرياً

وقال وزير الصحة السوداني هيثم محمد إبراهيم، الاثنين، إن الحكومة مستعدة لفتح مطار مروي لإيصال المساعدات الإنسانية لدارفور وكردفان، مشيراً إلى أن التزامات الأسرة الدولية للقطاع الصحي لم تتعدَّ 26%.

واتهم الوزير السوداني قوات الدعم السريع بعرقلة وصول الدواء لبعض الولايات، فيما اتهم الدعم السريع الحكومة، سابقاً، بمحاولة تجويع سكان المناطق التي تسيطر عليها هذه القوات.

وأقر وزير الصحة السوداني بارتفاع حالات سوء التغذية وسط الأطفال، وفقر الدم وسط الأمهات، لافتاً إلى أن الوضع الوبائي للكوليرا "يتزايد"، وأضاف أن البلاد تحتاج لأدوية بقيمة 50 مليون دولار شهرياً.

وبداية الأسبوع الحالي، كشف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عن تضرر نحو 500 ألف شخص بالأمطار الغزيرة والفيضانات في 63 منطقة موزعة على 15 ولاية في البلاد، مشيراً إلى مصرع ما لا يقل عن 69 شخصاً وإصابة 112 آخرين.

وقال المكتب إن قرابة 36 ألف منزل دمرت بشكل كامل، فيما تعرض 45 ألف منزل لأضرار جزئية. وحصر المناطق الأكثر تضرراً في شمال دارفور والبحر الأحمر، والشمالية، وجنوب دارفور ونهر النيل.

العنف الجنسي

وأشار المدير العام لمنظمة الصحة العالمية إلى تلقيه تقارير تفيد بارتكاب عمليات عنف جنسي مرتبطة بالنزاع المسلّح في السودان.

كما  تحدث عن انهيار معظم البنى الصحية في البلاد، قائلاً "نحو 70% إلى 80% من المرافق الصحية في السودان لا تعمل بشكل كامل"، موضحاً أن 14.7 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات عاجلة لإنقاذ حياتهم، وأن قطاعات المنظمات الإنسانية دعت لتمويل بقيمة 2.7 مليار دولار لمواجهة الأوضاع في البلاد.

وفي جلسة لمجلس حقوق الإنسان، في جنيف، الثلاثاء، لفتت مسؤولة أممية رفيعة إلى الأخطار الناجمة عن "استخدام العنف الجنسي كسلاح في حرب السودان"، وسط مخاوف من الآثار النفسية والصحية على الضحايا.

وقالت نائبة المفوض السامي لحقوق الإنسان ندى الناشف إنه تم توثيق 97 حادثة عنف جنسي ارتكبت بحق 172 ضحية في السودان، مشيرة إلى أن أصابع الاتهام في 81% من حوادث العنف الجنسي توجهت إلى "رجال يرتدون زي قوات الدعم السريع".

"إن ضلّت الرصاصة.. الجوع لن يفعل"!

في تقرير نشر خلال سبتمبر الحالي، بعنوان "إن ضلت الرصاصة.. الجوع لن يفعل"، قال المجلس النرويجي للاجئين إن النقص المريع في المعلومات يخبئ الأرقام الحقيقية للضحايا وحجم المعاناة من المجاعة.

وأشار التقرير إلى أن المزارعين خسروا القدرة على الوفاء باستحقاقات الزراعة، إضافة إلى زيادة أسعار مدخلات الإنتاج، ما أدى لانخفاض إنتاج الحبوب بنسبة 46% في 2023. وأكد أن الانخفاض الأكثر حدة في الإنتاج بأكثر من 80% كان في مناطق دارفور وكردفان.

وذهب المجلس النرويجي إلى أن المزارعين كانوا واضحين للغاية بشأن ارتباط نجاح مواسم الزراعة بتحسن الأوضاع الأمنية.

ويُشار إلى أن آلاف المزارعين في ولايات الجزيرة والخرطوم وسنّار هجروا أعمالهم بعد المعارك التي شهدتها هذه المناطق.

وأوضح التقرير أن تقييماً في يوليو، أظهر أن 25% من الأطفال في ولايات دارفور الخمس يُعانون "سوء تغذية حاد"، وأن 4 إلى 5 أطفال يموتون يومياً في منشأة صحية جنوبي دارفور نتيجة سوء التغذية.

ولفت إلى أن 81% من السكان، وفق مسح أجري في مدينة الجنينة، غرب دارفور، قالوا إنهم اضطروا، منذ ديسمبر 2023، لتناول وجبة واحدة من الطعام يومياً، لتجنّب الأسوأ، وهذا إن توفرت الوجبة الواحدة.

ونقل التقرير عن رجل هناك قوله إنه قلّل من كمية تناول الطعام لضمان أن تكفي أطفاله، مؤكداً أنه يصوم عن الأكل ليومين، وينتظر بعض الطعام من الأقارب.

وقالت سيدة إنها لم تتذوق الطعام منذ يوم بينما ظل طفلها يبكي طوال الوقت من شدة الجوع، لأنها تعجز عن إرضاعه، فليس لديها ما تمنحه إياه في صورة حليب.

وأكد نازح من الجنينة أنه عاجز تماماً عن توفير الدواء لوالديه اللذين يعانيان من داء السكري، كما أنه غير قادر على جلب طعام كاف لهما، ما جعل صحتهما تتدهور.

وتناول التقرير أوضاع الأطفال في كادوقلي، جنوب كردفان، مشيراً إلى أنهم يعانون نقص الغذاء قبل وبعد مواعيد الدراسة، ما انعكس على تركيزهم وقدراتهم على الفهم.

وأوضح رجل، فرّ من الخرطوم إلى القضارف شرقي البلاد، أن عصابة مسلّحة استوقفته وأسرته في الطريق، واستولت على كل النقود والممتلكات، ما جعلهم فريسة للجوع.

ويخلص التقرير إلى أن 97% من النازحين لجأوا إلى مناطق ينعدم فيها الأمن الغذائي.

الموت يهدد الملايين

من جانبها حذرت مجلة "إيكونوميست"، في عددها الصادر بتاريخ 29 أغسطس، من أن الجوع قد يقضي على 2.5 مليون نسمة في السودان، ما سيشكّل كارثة أسوأ من تلك التي شهدتها إثيوبيا خلال الثمانينات.

وقدّرت المجلة عدد الضحايا في صفوف المدنيين، حتى اللحظة بـ 150 ألفاً، كما وصفت عجز الأمم المتحدة والدول الغربية عن وقف الحرب بأنه يُمثل حالة من "الشلل" وقلة الاكتراث لما وصفته بالكارثة الإنسانية الأكبر في العالم اليوم.

ورأى التقرير أن أطرافاً خارجية إقليمية ودولية تُغذي النزاع الحالي، وذلك بتقديم الدعم لطرفي الحرب، ما جعل السودان "بازاراً قاتلاً".

وتوقعت المجلة أن تزداد الأمور سوءاً، معتبرةً أن استمرار الوفيات نتيجة المجاعة قد يحرم 6 إلى 10 ملايين شخص من الأمن الغذائي، لافتة إلى أن البعض اضطروا إلى تناول الحشائش وأوراق الأشجار، متوقعةً موجة جديدة من اللاجئين إلى أوروبا.

تصنيفات

قصص قد تهمك