عام على الحرب.. مراسل "الشرق" يحكي قصة "موت الأمل" في غزة

عادل الزعنون

كانت السادسة و20 دقيقة من صباح السابع من أكتوبر 2023، كان المشهد ضبابياً ومرتبكاً ومفاجئاً بالنسبة لسكان قطاع غزة الـ 2.4 مليون غالبيتهم من لاجئي نكبة 1948، وفي قلب المشهد نحن الصحافيون، إذ ساد اعتقاد أن أصوات الانفجارات التي سمعناها، لا تعدو كونها مجرد صواريخ تجريبية كما في كل مرة.

أصوات انفجارات هائلة في كل مناطق القطاع وهو شريط ساحلي ضيق، وتحاصره إسرائيل منذ 2007، اتضح لاحقاً أن مصدر هذه الأصوات هو آلاف الصواريخ والقذائف باتجاه إسرائيل وجهتها حركة "حماس" الحاكمة في القطاع، السبب لم يتبيّن وقتها.

في ساعة مبكرة كنت في النادي القريب من بيتي، وعلى الفور اتجهت للمكتب غير البعيد والمطل على ميناء الصيادين في حي الرمال الأرقى في غرب غزة،
عشرات الاتصالات أجريناها مع مسؤولين في "حماس" الحركة والحكومة في غزة وخارجها، وفصائل أخرى، وكانت كلها من دون إجابات يمكن تشرح أو تلمح لما يجري.

وبعد حوالي 3 ساعات جرى اقتحام الحدود عبر ثغرات أحدثها مقاتلو "حماس" مع بدء الهجوم الكبير والذي اعتبرته إسرائيل "تهديداً وجودياً"، آلاف المواطنين العاديين تدفقوا نحو الحدود، واجتازها مئات منهم، بينما كان عناصر كتائب "القسام" الجناح العسكري لـ"حماس" يمتطون مركبات عسكرية بعضها للجيش الإسرائيلي، وهم يقتادون رهائن مدنيين وعسكريين إسرائيليين إلى داخل القطاع في مشهد كأنه جزء من تصوير فيلم خيالي.

وفي حوالي العاشرة والنصف بدأت موجة قصف من سلاح الجو الإسرائيلي تركزت في المناطق الحدودية.

شعرت أن زلزالاً ضرب القطاع قد تمتد ارتداداته للمنطقة، لكن لم يكن هناك أي توقع أن الضربات الجوية والمدفعية والبحرية الإسرائيلية ستطال كل سنتمتر في القطاع، دون أن تستثني البشر والكائنات الحية والحجر والشجر فوق الأرض وتحتها، لينذر الجيش في اليوم السابع للحرب الشاملة والدموية والمدمرة التي أعلنها، سكان شمال قطاع غزة ثم سكان مدينة غزة للنزوح الفوري باتجاه جنوب القطاع، وبعدها سكان الجنوب الغزاوي وأكثر من مليون ونصف المليون نازح فيه.

في صباح الجمعة الأولى للحرب غادرت مع زوجتي وأبنائي مع بعض الأشياء البسيطة مثل جوازات السفر وشهادات الميلاد، منزلي في منطقة الفيلات في تل الهوى القريب من شاطئ البحر جنوب غربي مدينة غزة، وخرجت مع العائلة وزملائي في العمل، إلى رفح ثم خان يونس ثم رفح، دون ان تتمكن أمي وأختي واثنين من أشقائي وعائلاتهم، الموجودين في حي الرمال وتل الهوى بمدينة غزة، المغادرة حيث فصل الجيش الإسرائيلي شمال القطاع عن جنوبه تماماً.

 كنا نظن أن هذا النزوح سيكون لأيام أو عدة أسابيع في أسوأ الأحوال، لكن الصادم أنْ قادنا النزوح القسري نحو عشر مرات أغلبها في خيام لا تشبه الخيام تفتقر لأبسط مقومات الحياة.

وازدادت الحرب شراسة وجنوناً غير مسبوقين في القرن الأخير، مع القصف الجوي الهستيري وتدمير مربعات سكنية وتجارية وحكومية ومدنية وأحياء بأكملها على ساكنيها، وما أن بدأت العملية البرية بعد أسبوعين، حتى أُحيلت كل منطقة يقتحمها ويسيطر عليها الجيش إلى جحيم مسبوق بأحزمة نارية بمئات أو عشرات الغارات، وفي نهاية نوفمبر تنفس الناس الصعداء خلال أسبوع من هدنة تخللها تبادل الأسرى والرهائن سرعان ما انهارت مفاوضاتها، وعادت الحرب أعنف وأكثر شراسة ودموية.

وصولاً إلى مغادرتي مع عائلي  القطاع في أواخر أبريل إلى مصر، إذ غادر نحو 120 ألف مواطن قبل تدمير معبر رفح الحدودي في 7 مايو، وبعد أيام من مغادرتنا استهدف الجيش بعد اتصال هاتفي مع أحد الجيران، منزلي (فيلا مكونة من أربع طوابق)، ودمره بالكامل، وبعد عدة أسابيع استهدف منزل أمي وإخوتي.

لم تمر أيام أصعب وأقسى وأسوأ على الصحافيين الذين غطوا أربعة حروب من قبل، من أيام الحرب هذه التي لا مأوى فيها ولا اتصالات ولا إنترنت ولا كهرباء ولا طعام ولا مياه للشرب ولا مشافي ولا مراكز طبية ولا معابر ولا مكان آمن.

 رغم هذا يقاتل الصحافيون في مواصلة التغطية لنقل الأحداث على مدار اللحظة، لكن الحدث اليومي بتفاصيله المزدحمة بأخبار الموت والدمار والاعتقال والتطهير العرقي والبؤس المتزايد، والتهديد بإبادة سكان القطاع، يخفي وراءه آلاف القصص الإنسانية والاجتماعية والحياتية، والأصعب حكايات تقتل الأمل بغد أفضل، أملٌ خَبَأَ تماماً، أو يتلاشى بحياة ممكنة في قطاع غزة أو قُل بين ركام وخراب صنعته آلة الحرب الإسرائيلية دون رحمة ولا اعتبار لضمير أو قوانين إنسانية ودولية أو أخلاق وقيم غابت مهما بدت الأسباب.

تصنيفات