أزياء بالأبيض والأزرق والأحمر، وقبعات "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" (MAGA) مثبتة على الرؤوس بإحكام، وفي الخلفية أعلام ولافتات تحمل صور المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية دونالد ترمب بأحجام كبيرة.
وفي ما بدا وكأنه يوم للاحتفال بعيد وطني، اجتمعت حشود في مدينة سكرانتون في ولاية بنسلفانيا لمؤازرة الرئيس السابق والاستماع إليه في هذا التجمع الانتخابي؛ فيما كان الحماس في أعلى مراتبه.
"أنا أحب الرئيس ترمب"، تقول لـ" الشرق"، ماري آن كينج، وهي جندية سابقة من مدينة سكرانتون، ترتدي قميصاً مصمماً بشكل العلم الأميركي، وعليه اسم ترمب مطرزاً بأحرف كبيرة.
"إنه يحب العلم الأميركي ويحب البلاد، وسيكون رئيساً جيداً مرة أخرى. كنت أشعر بالأمان في عهده. الآن، مع هذه الحدود المفتوحة، لا أشعر بالأمان"، أضافت وهي تشتري لافتات جديدة وملابس تحمل شعار MAGA "، كل ما يقوله الرئيس ترمب هو الحقيقة، بينما لا يمكنني تصديق أي شيء تقوله هذه الإدارة".
وبالنسبة للمشاركين في هذا التجمع، مثل كينج، يمثل ترمب "حركة" تمنحهم إحساساً بالانتماء والتحدي ضد نظام سياسي يشعرون أنه "خذلهم".
وهذه الحركة الشعبوية يلخصها البعض بمزيجٍ من القومية، والشعبوية، والحمائية الاقتصادية، باتت تعرف بـ"الترمبية".
"الترمبية" رد فعل على العولمة
وتمثل الترمبية ملاذاً لمن يعانون من الضغوط الاقتصادية، والتغيرات الثقافية والتكنولوجية السريعة، ويعتقد البعض أنَّ الترمبية استثمرت في شعور قطاع من المجتمع الأميركي بخيبة الأمل من النظام السياسي القائم، خصوصاً في المناطق الصناعية التي تعطلت مصانعها جراء عولمة الاقتصاد ونقل التصنيع إلى الخارج.
ووفقاً لريتشارد شاسدي، أستاذ العلوم السياسة في جامعة جورج واشنطن، فإن العولمة قد تكون مفيدة للدول النامية، لكنها بالنسبة للعمال الأميركيين تعني فقدان وظائفهم. ويرى شاسدي أن ترمب منح هؤلاء صوتاً ليقولوا: "ليس الخطأ فينا، بل في النظام".
وخلال التجمع الانتخابي، الذي جاء قبل الانتخابات الرئاسية بأسابيع قليلة، عبّر العديد من المشاركين في تصريحات لـ"الشرق" عن مخاوفهم الاقتصادية.
ويقول بوب بولاس، صاحب شركة نقل، إن موظفيه كانوا أفضل حالاً عندما كان ترمب في البيت الأبيض، مضيفاً: "الآن، كل شيء انهار. أوقف بايدن خطوط الأنابيب والتكسير الهيدروليكي (التنقيب عن النفط)، وترمب سيعيدها" إلى العمل.
أما ديفيد ماهاليك، فيتحدث عن عالم كابوسي خانق فيقول: "أشعر وكأننا نغرق. ترمب هو الوحيد القادر على إنقاذنا".
أدت آثار عولمة الاقتصاد واتفاقيات التجارة العالمية الحرة، التي انخرط فيها الاقتصاد الأميركي ابتداءً من تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحادي والعشرين، إلى تهميش طبقة كبيرة من الأميركيين، إذ تم نقل الوظائف التي تتطلب اليد العاملة إلى الخارج، واقتصر سوق العمل في الولايات المتحدة بشكل كبير على الوظائف المكتبية التي تتطلب شهادات جامعية عالية. وتزامن هذا التحول مع اضطرابات اقتصادية حادة نجمت عن الركود الاقتصادي الذي شهدته البلاد عام 2009.
وبحسب مارك هاركينز، الزميل أول في معهد الشؤون الحكومية، فإن الأزمات الاقتصادية "تركت رابحين وخاسرين". وبالنسبة للخاسرين، وخاصة أولئك الذين كانوا أقل حظاً، ولم يتمكنوا من التأقلم مع التغيير، يقول ماهاليك "من الأسهل إلقاء اللوم على النظام السياسي بدلاً من النظر إلى النفس، وإيجاد وسائل لتطوير الذات". ويضيف أن "ترمب منح هؤلاء الأشخاص القدرة على القيام بذلك، من خلال القول إنه ليس خطأنا".
ضخمت سرعة التغيير الاقتصادي المصحوب بتطور تكنولوجي كبير، من التفاوتات الطبقية، إذ خلقت هوة اقتصادية كبيرة بين الطبقة العاملة من جهة، ورؤوس الأموال والسياسيين من جهة أخرى. وبحسب شاسدي فإنه "من الصعب بالنسبة للناس مواكبة التطورات في تكنولوجيا الكمبيوتر، خصوصاً وأن التعليم في هذا المجال مكلف".
هذه الصعوبة، فاقمت الفجوة بين الميسورين وغيرهم، ويرى هاركينز أن "الهوة بين النخبة، الواحد في المئة من الأثرياء الذين باتوا يصوتون بشكل متزايد لصالح الديمقراطيين من جهة وبين بقية الأميركيين من جهة، آخذة بالاتساع. وأن ترمب هو نتيجة، وليس سبباً لذلك".
ولدت "الترمبية" من اتساع الفجوة بين الفقراء والأثرياء، والتي أخذت تتنامى مع تغيير سوق العمل، وترك ذلك شريحة كبيرة من الأميركيين يشعرون بالإقصاء، مثل جوان، صاحبة مطعم في مدينة سكرانتون، تحدثت إلى "الشرق" بانفعال واضح، وهي تثبت قبعة “MAGA" على رأسها: "لماذا يصبحون أثرياء، ويتربحون من تداول البورصة بناءً على معلومات داخلية؟ بينما نحن، الشعب، نعاني، نحن نعاني".
الهجرة ومخاوف فقدان الهوية
كانت غالية الأميركيين في مراحل التأسيس الأولى للدولة، مسيحيون بيض قدموا من أوروبا. وهكذا يعرّف عدد كبير من الأميركيين ثقافتهم، ولكن التغييرات الديموغرافية الناتجة عن توافد المهاجرين من أغلب دول العالم، وفي أعداد أكبر من أميركا اللاتينية، أحدث تغيراً، ليس ديموغرافيا فحسب، وإنما ثقافياً أيضاً.
وحالياً أضحت المخاوف من فقدان الهوية الوطنية، كما يراها الأميركيون البيض خصوصاً، عاملاً محورياً في جاذبية الترمبية. ويقول شاسدي: "هناك شعور بأن هوية أميركا تتلاشى، وأن الحزب الديمقراطي يكسر القيم التقليدية".
إحدى المشاركات في التجمع الانتخابي، كيتلن، صاحبة محل تجاري صغير، لا تعارض استقبال المهاجرين "ولكن يجب أن يكون هناك نظام. الآن، يبدو أن الأمور فوضوية وخطيرة".
ويوضح بتير روف، وهو باحث وكاتب محافظ، أن الخوف من الهجرة غالباً ما يكون مشحوناً بالعنصرية: "هناك ازدواجية في المعايير. لا أحد يستهدف المهاجرين الإيرلنديين غير الشرعيين، لكن يتم استهداف اللاتينيين والهايتيين".
ويوافق هاركينز، بيتر روف الرأي إذ يقول: "الخوف من الهجرة يتغذى على مشاعر فقدان السيطرة، ليس فقط اقتصادياً، بل اجتماعياً. يشعر كثيرون بأن التغيير السريع في التركيبة السكانية والثقافية للبلاد يمثل تهديداً للقيم التقليدية التي يعرفونها، إذ من السهل إلقاء اللوم على المهاجرين عندما يشعر الناس أن وظائفهم وثقافتهم مهددة".
وتأتي وعود ترمب بترحيل المهاجرين غير الشرعيين، وإغلاق الحدود مع المكسيك لتلبي رغبة أميركية بـ"الحفاظ على الهوية الثقافية والقومية".
"الترمبية" وجاذبية شخصية ترمب
التحولات الاقتصادية والثقافية ليست وحدها التي وفرت أرضية مناسبة لظهور "الترمبية" وصعودها، وإنما شخصية الرئيس السابق ترمب وطريقة كلامه.
تقول إليزابيث بيتروسكي التي اصطحبت ابنها المتزين بصور ترمب إلى التجمع الانتخابي: "ترمب يتحدث كما لو كان يتحدث إلى أصدقائه. إنه حقيقي".
وتعبر جوان صاحبة المطعم عن إعجابها بشخصية ترمب، وترسم له صورة كاريزماتية مؤثرة: "لقد شاهدت ترمب لسنوات، وتعلمت من أسلوبه في الأعمال. إنه لا يستسلم أبداً، وهذا ما نحبه فيه".
ترمب ملياردير انتقل من عالم الأعمال إلى السياسية، وبالنسبة لداعميه، فهو "رجل وطني جاء من خارج الطبقة السياسية"، التي يعتبرونها فاسدة. وهم يؤمنون بما يقوله عن "تجفيف" ما يصفه بـ"مستنقع" الطبقة السياسية في واشنطن.
كما أن ترمب يخاطبهم بلغة بسيطة بعيدة عن البلاغة السياسية الملتوية. ولعل خبرته في عالم الميديا كـ “Showman” منحته القدرة على معرفة كيفية التواصل مع الجمهور ومداعبة مشاعرهم.
ويقول روف إن "ترمب يوفر للناس شعوراً بالانتماء والأهمية، وهو أمر مهم لمن يشعرون بأنهم تركوا" من دون اهتمام.
ومع ذلك، يحذر هاركينز من أن هذا الولاء الشديد للشخص "ترمب" قد يُضعف الديمقراطية إذ أنه "عندما تتحول السياسة إلى هوية بدلاً من سياسة، يصبح من الصعب إيجاد تسوية. الديمقراطية تعتمد على التوافق، لكن الترمبية تزدهر في الصراع".
السؤال المهم هو هل يمكن أن تستمر "الترمبية" من دون ترمب؟ يرى هاركينز أنه "من دون ترمب، قد تنقسم التحالفات التي بناها. ومن غير الواضح ما إذا كان يمكن لأي شخص آخر توحيد هذه الفصائل المختلفة.
ولكن القضايا التي سمحت لـ"الترمبية" بالازدهار - كالقلق الاقتصادي والتوترات الثقافية - لن تختفي بسهولة. ويرى شاسدي أنه "حتى لو لم يكن ترمب على ورقة الاقتراع، فإن الإحباطات التي غذت صعوده ستظل قائمة".