لطالما كان المغرب الحليف الأوثق لفرنسا في منطقة شمالي إفريقيا، وكثيراً ما تُرجم هذا التحالف عبر مواقف مؤيدة في العديد من الملفات السياسية، لكن في الآونة الأخيرة طفا على السطح تغير واضح في لهجة باريس تجاه الرباط، وتحديداً بعد تفجر أزمة تدفق المهاجرين باتجاه الضفة الأوروبية للبحر المتوسط، وصلات هذه الأزمة بالتوترات السياسية بين المغرب وإسبانيا.
الموقف الرسمي الأخير لفرنسا، تمثل في الإعلان عن مساعٍ لحل الأزمة الدبلوماسية بين الرباط ومدريد، وبالفعل دعا وزير الخارجية الفرنسي جان-إيف لودريان، الخميس، البلدين إلى "ضبط النفس". وأفادت وكالة "أوروبا برس" الإسبانية بأن لودريان أجرى اتصالاً مع نظيريه المغربي ناصر بوريطة، والإسبانية أرانشا غونزاليس، مشدداً على ضرورة طي الخلافات الثنائية بين "شريكين مُهمين" لبلاده.
هذا التحرك الدبلوماسي، جاء بعد تصاعد الأزمة بين البلدين الجارين على خلفية استقبال مدريد لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي، واستنكار الرباط لتلك الخطوة، قبل أن ينتقل التوتر إلى الحدود إثر تدفق آلاف المهاجرين نحو جيب سبتة، واتهام إسبانيا للسلطات المغربية بـ"التساهل في ضبط المهاجرين"، لتشتعل "حرب بيانات" بينهما.
"نحن ندعم إسبانيا"، قال وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية، كليمان بون، لتلفزيون "BFMTV" في 24 مايو الماضي، رداً على سؤال حول دخول مهاجرين من المغرب إلى مدينة سبتة، موضحاً أن الدعم سيكون في مساعدة إسبانيا بإدارة حدودها ومنع تدفق المهارجين غير الشرعيين.
وأضاف كليمان في المقابلة التي نشرها موقع "Vie publique" الحكومي في مقال مطول، أن المهاجرين يغادرون إفريقيا، بما في ذلك جزؤها الشمالي، لعدم وجود أي أمل في أوطانهم، لافتاً إلى أهمية زيادة المساعدات الإنمائية لإيجاد حلول لأزمة الهجرة.
"سابقة مؤسفة"
وعلى الرغم من مساعي فرنسا للتوسط بين المغرب وإسبانيا وإيجاد حل سريع للأزمة المتفاقمة، ظهرت في الآونة الأخيرة بعض المؤشرات على تغير الموقف الفرنسي تجاه المغرب، إذ اعتبرت صحيفة "لوموند" التي عادة ما تُعبر عن السياسية الخارجية لـ"الإليزيه"، في افتتاحيتها بتاريخ 21 مايو، أن "سمعة المغرب الدولية متدهورة للغاية".
وأشارت إلى "أن مشاهد المراهقين وحتى الأطفال الذين يخاطرون بحياتهم في مياه سبتة، بتواطؤ من الشرطة المغربية، تعكس استعداد المغرب للتضحية بشبابه على مذبح مصالحه الدبلوماسية".
وذهبت الصحيفة إلى وصف موقف الرباط بأنه "يُشكل سابقة مؤسفة"، لافتة إلى أنه "لم يحدث من قبل أن استخدم المغرب، كما يفعل عادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سلاح الهجرة للضغط على أوروبا".
وقالت "لوموند" إن "صفقة ترمب" الشهيرة التي اعترفت واشنطن بموجبها بالسيادة المغربية على الصحراء مقابل تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمغرب، دفعت الأخير إلى الشعور بالثقة لتحدي جاره الشمالي، عبر السماح للآلاف من مواطنيه بالتدفق عبر الحدود، وذلك رداً على استقبال مدريد لزعيم جبهة "بوليساريو" إبراهيم غالي، رغم استنكار الرباط ورفضها.
الصحيفة الفرنسية دعت إلى إعادة النظر في الموقف الأوروبي تجاه المغرب، معلّلة ذلك، إضافة إلى أزمة الهجرة الأخيرة وخلفياتها السياسية، بـ"تراجع الحريات المُتمثل باعتقال صحافيين ومثقفين".
المحلل الفرنسي جان بيير توكوي، الذي ألف كتباً عدة بشأن المغرب، قال إنها المرة الأولى التي لا تقف فرنسا إلى جانب المغرب. وأضاف في حديث لصحيفة "إل باييس" الإسبانية، أن "تغير الموقف الفرنسي مذهل، خصوصاً عندما نُفكر في السنوات التي دافعت فيها فرنسا عن المغرب أمام الاتحاد الأوروبي، وأمام الجزائر، الداعم الأساسي لجبهة بوليساريو".
تجدر الإشارة إلى أن الرباط زادت في الأزمة الأخيرة من انتقاداتها لمدريد، متهمة إياها بالعمل على "تقويض وحدة أراضي المملكة (المغربية)". جاء ذلك التصعيد إثر تصريحات صحافية أدلت بها وزيرة الخارجية الإسبانية اعتبرت فيها أن وصول زعيم جبهة "بوليساريو" إبراهيم غالي إلى إسبانيا "لم يكن سراً، بل كان أمراً أحيط بالتكتم"، مؤكدةً أن "هذا القرار يعود لإسبانيا".
من جهتها، انتقدت وزارة الخارجية المغربية في بيان، الثلاثاء الماضي، ما وصفته بـ"موقف مدريد المعادي" تجاه قضية الصحراء، لافتةً إلى أن الخلاف يتعلق "بتحطم الثقة والاحترام بين البلدين".
استدارة فرنسية
في سياق التوترات ذاتها، ألقت صحيفة "إل باييس" الضوء على علاقات المغرب بجاره الشمالي، مستشهدة بمذكرات رئيس الحكومة الإسبانية السابق خوسيه ماريا أزنار التي نشرها في عام 2013، وقال فيها إن "الملك الإسباني السابق خوان كارلوس، كان يصف الملك المغربي الراحل الحسن الثاني بـ(الأخ الأكبر). وبعد رحيله في عام 1999 قال للملك محمد السادس: أنا الآن الأخ الأكبر".
لكن أزنار أشار في مذكراته أيضاً إلى "أن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، كان في الحقيقة هو "الأخ الأكبر لملك المغرب"، في إشارة إلى العلاقات القوية بين البلدين. وأضافت الصحيفة أن "العلاقات بين المغرب وفرنسا وإسبانيا، كانت دائماً شبيهة بـ"المثلث العائلي، فمثل العائلة الواحدة، تتشابك المودة مع المصالح".
وفقاً للصحيفة الإسبانية، تميل باريس عادة في هذا المثلث العائلي، إلى المغرب، حتى لو كان على حساب المصالح الإسبانية، وذلك لاعتبارات تاريخية، إذ يقيم نحو مليون مغربي أو من أصول مغربية في فرنسا.
ولتأكيد ما تعتقد أنه "انحياز فرنسي إلى المغرب"، استشهدت "إل باييس" بالأزمة التي اندلعت بين الرباط ومدريد في عام 2002، عندما ارتفعت حدة التوتر بينهما خلال شهر يوليو من ذلك العام، إثر دخول الجيش المغربي إلى جزيرة "ليلى" المهجورة والخاضعة للسيطرة الإسبانية. وذكّرت أنه "أثناء تلك الأزمة دعم الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك الرباط".
ولكنها أشارت إلى أنه "على عكس ما حدث آنذاك، وقفت فرنسا مع إسبانيا خلال الأزمة الأخيرة". واعتبرت الصحيفة في تقريرها، الذي حمل عنوان: "فرنسا تقطع المسافات مع المغرب"، أن عدم استقرار الحدود البحرية في المتوسط يقلق الأوروبيين ويُجبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على "تعديل تحالفه".
أسباب الدعم الفرنسي لإسبانيا، تعود بشكل رئيس، وفقاً لـ"إل باييس"، إلى أن "الحدود الأوروبية في سبتة تقع اليوم في دائرة الخطر، كما أن العدد الأكبر من المهاجرين الذين يدخلون إلى أوروبا عبر إسبانيا أو إيطاليا، يتوجهون عادة إلى فرنسا".
ورأت الصحيفة أن "ماكرون يهتم بالجزائر أكثر مما يهتم بالمغرب، في محاولة لتضميد جراح حرب الاستقلال". وختمت بالإشارة إلى أن "ماكرون، لم يكن يوماً معتاداً على القصور المغربية: فهو لا يعتبر نفسه أخاً صغيراً أو كبيراً للمغرب (على غرار شيراك)".