أثار التصعيد الأميركي ضد المحكمة الجنائية الدولية بإجازة فرض عقوبات على مسؤوليها انتقادات دولية لإدارة الرئيس دونالد ترامب، ووضع المحكمة أمام اختبار لتأكيد مصداقيتها.
وتعود الأزمة بين واشنطن والمحكمة، التي يوجد مقرها في مدينة لاهاي بهولندا، إلى مارس الماضي، حين أصدرت المحكمة قراراً استئنافياً يقضي بفتح تحقيق في جرائم حرب وآخرى ضد الإنسانية في أفغانستان، رغم معارضة واشنطن، التي ليست عضواً في المحكمة.
ويتعلق التحقيق بتجاوزات ارتكبها جنود أميركيون في أفغانستان، حيث تقود الولايات المتحدة منذ عام 2001 أطول حرب في تاريخها.
كما قدّمت المحكمة الجنائية الدولية ضمن القضية اتهامات بالتعذيب تستهدف وكالة المخابرات المركزية "سي آي إيه".
ورد الرئيس الأميركي دونالد ترامب على هذا القرار الخميس، بالتوقيع على أمر تنفيذي يجيز فرض عقوبات اقتصادية على أي مسؤول في المحكمة الجنائية الدولية، يحقق بشأن عسكريين أميركيين أو يوجه إليهم اتهاماً "من دون موافقة الولايات المتحدة".
واتهمت إدارة ترامب المحكمة الدولية بالقيام بتحقيقات "بدافع سياسي" ضد أميركا وحلفائها.
ورفضت المحكمة الدولية اتهامات واشنطن، وقالت في بيان الخميس، إن موافقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على فرض عقوبات اقتصادية وحظر سفر على موظفيها يصل إلى حد التهديد والإكراه وهو "محاولة غير مقبولة للتدخل في حكم القانون".
انتقادات دولية
وأثار قرار ترامب انتقادات دولية، إذ عبّر مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، عن "أسفه لما يمكن أن تخلفه عقوبات الرئيس الأميركي من تأثير على محاكمات وتحقيقات المحكمة الجنائية الدولية".
وقال روبرت كولفيل المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بإفادة صحفية في جنيف: "يتعين ضمان استقلال المحكمة الجنائية الدولية وقدرتها على العمل دون تدخل بحيث يمكنها البت في الأمور دون أي تأثير غير ملائم أو تحريض أو ضغط أو تهديد أو تدخل مباشر أو غير مباشر من أي جهة ولأي سبب".
وأضاف أن "ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة وانتهاكات القانون الإنساني الدولي الخطيرة وعائلاتهم لهم الحق في بلوغ القصاص والحقيقة".
بدورها، اعتبرت فرنسا الجمعة، القرار الأميركي بأنه هجوم على الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، ودعت واشنطن لسحب تلك الإجراءات.
وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان في بيان إن "القرار الأميركي يهدد بإلقاء ظلال من الشك حول استقلالية نظام العدالة القضائية".
وعلّق وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل على القرار الأميركي، قائلاً إن "هذا أمر مثير للقلق الشديد لأننا نحن، في الاتحاد الأوروبي، ندعم بثبات المحكمة الجنائية الدولية".
وأضاف بوريل أن المحكمة "اضطلعت بدور رئيسي في إرساء عدالة دولية عبر (التحقيق في) أكثر الجرائم الدولية جسامة".
بدورها، أبدت هولندا، التي تستضيف مقر المحكمة، عن "انزعاجها الشديد" من قرار ترامب.
وقال وزير الخارجية الهولندي ستيف بلوك الخميس في تغريدة على "تويتر" إن بلاده "منزعجة للغاية من إجراءات الولايات المتحدة."
وأضاف بلوك أن "هولندا تدعم المحكمة الجنائية الدولية بشكل كامل وستستمر في ذلك. المحكمة الجنائية الدولية ضرورية لمواجهة الإفلات من العقاب ودعم سيادة القانون الدولي".
وبالمقابل، عبرت إسرائل، التي تتابعها المحكمة الدولية في جرائم حرب بالأراضي الفلسطينية المحتلة، عن ترحيبها بالقرار الأميركي.
وذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو أن "هذه المحكمة مُسيَّسة وشغلها الشاغل هو ملاحقة إسرائيل والولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى التي تحترم حقوق الإنسان. ولكنها تغض الطرف عن قتلة حقوق الإنسان الأسوأ في العالم بما في ذلك النظام الإرهابي في إيران".
اختبار المصداقية
وتزعم الولايات المتحدة الأميركية بأن المحكمة الجنائية الدولية تعاني من "الفساد" على "أعلى المستويات"، في وقت تؤكد فيه المحكمة أنها "تلتزم بممارسة (مهامها) باستقلالية وحيادية، بموجب نظام روما الذي دخل حيز التنفيذ عام 2002 وصادقت عليه أكثر من 120 دولة.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة، ودولاً أخرى مثل إسرائيل وروسيا والصين، ليست أعضاءاً في المحكمة، إلا أن نظام روما يخول لها التحقيق مع مواطني هذه الدول بشأن تهم بارتكاب جرائم في أراضي دولة عضو فيها.
وكرر بيان البيت الأبيض أنّه "رفض مراراً" مساعي المحكمة لتوسيع نطاق عملها بحيث يشمل التحقيق مع عسكريين أميركيين.
وأفاد البيان الأميركي أنه "ورغم الدعوات المتكررة من الولايات المتحدة وحلفائنا من أجل الإصلاح، لم تقم المحكمة الجنائية الدولية بشيء لإصلاح نفسها، وتواصل القيام بتحقيقات بدافع سياسي ضدنا أو ضد حلفائنا وبينهم إسرائيل".
وبالمقابل، اتهم وزير العدل الأميركي ويليام بار روسيا الخميس بـ"استخدام" المحكمة.
وأبلغ بار الصحفيين في واشنطن أن بلاده "تشعر بالقلق لأنّ قوى (دولية) تستخدم أيضاً المحكمة الجنائية الدولية، خدمة لمصالحها الخاصة".
ويرى خبراء أن المحكمة الجنائية الدولية أصبحت الآن أمام اختبار "إثبات مصداقيتها"، من خلال إصدار أحكام في قضايا تمس القوى العظمى في العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة.
وذكر أستاذ القانون الدولي وليام شاباس من جامعة لايدن في تصريحات لوكالة "فرانس برس"، أن مستقبل المحكمة يعتمد على استعدادها لمحاكمة القضايا الصعبة التي تكون دول قوية طرفاً فيها، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا والمملكة المتحدة.
وأوضح شاباس أن "عمل المحكمة ظل موجهاً لفترة طويلة تجاه الدول النامية والدول المنبوذة"، مضيفاً أن "توفير العدالة للجميع يعني أن تكون المحكمة قادرة على الوقوف في وجه الأقوياء والضعفاء على حد سواء".
بدوره، اعتبر كارستن ستان، أستاذ القانون الدولي بجامعة لايدن، أن العقوبات الأميركية "لا تهدد وجود المحكمة في حد ذاتها".
ولفت في مقابلة مع "فرانس برس" إلى أن " الهجمات السياسية التي تشنها الولايات المتحدة يمكن أن تأتي بنتائج عكسية لأنها يمكن أن تخلق موجة جديدة من التضامن في حين أن المحكمة الجنائية الدولية تشهد جهوداً لإجراء إصلاحات داخلية فيها".
أميركا ضد المحكمة قبل تأسيسها
وبالرغم من أن العداء الأميركي لمحكمة الجنائية الدولية قد برز بشكل أكبر بسبب فتح المحكمة تحقيقات في جرائم الحرب بأفغانستان، إلا أن واشنطن عبرت عن رفضها للمحكمة منذ انعقاد مؤتمر روما عام 1998، الذي تم خلاله إقرار المعاهدة المنشئة لها.
وكانت الولايات المتحدة إحدى الدول الـ7، التي صوتت ضد الاتفاقية في هذا المؤتمر، مبررة ذلك بما اعتبرته عيوباً في نظام روما الأساسي، الذي يخول للمحكمة متابعة المواطنين الأميركيين المتورطين في قضايا جرائم الحرب.
وكررت إدارة ترامب نفس الموقف عام 2019، حين أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً حول موقف واشنطن من المحكمة.
وقال البيان إن "الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بحماية موظفيها من إصرار المحكمة الجنائية الدولية غير المنطقي والعنيد (للتحقيق معهم)".
وأضاف أن "الولايات المتحدة تحترم قرار الدول التي اختارت الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولكننا نتوقع بالمقابل أن يتمّ احترام قرارنا بعدم الانضمام وعدم إخضاع شعبنا لسلطة المحكمة".
وتأسست المحكمة الجنائية الدولية رسمياً عام 2002، إثر إقرار الأمم المتحدة مشروع إحداثها عام 1998. ويضمن نظام روما الأساسي استقلالية المحكمة عن منظمة الأمم المتحدة من حيث هياكلها وتمويلها.
وينص على أن تمول المحكمة من طرف الدول الأعضاء عن طريق الاشتراكات، وذلك عبر التبرعات المقدمة من طرف الحكومات والمنظمات الدولية والأفراد والشركات والكيانات الأخرى , كأموال إضافية وفقاً للمعايير ذات الصلة التي تعتمدها جمعية الدول الأطراف.
وأنشأ المجتمع الدولي المحكمة الجنائية الدولية لمحاربة إفلات المسؤولين عن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة العدوان، من العقاب، وفقاً للاختصاصات التي يحددها نظام روما الأساسي.
وجاء ذلك في أعقاب فظائع الإبادة الجماعية في منتصف التسعينيات برواندا ويوغوسلافيا السابقة.