يحيي الحزب الشيوعي الصيني، في 1 يوليو المقبل، الذكرى المئوية لتأسيسه، مستذكراً مراحل صعبة، وبعضها مرير، ومتطلّعاً إلى مستقبل، يأمل بأن يحوّله إلى القوة العظمى الأولى في العالم، على حساب الولايات المتحدة، ربما سعياً إلى تكريس "قرن صيني"، يعقب "القرن الأميركي".
اعتبرت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية أن "لا ديكتاتورية أخرى تمكّنت من تحويل نفسها، من كارثة تجتاحها المجاعة، كما كانت الصين تحت حكم ماو تسي تونغ، إلى ثاني أضخم اقتصاد في العالم"، مقارنةً بين "تطوّر تكنولوجيتها وبنيتها التحتية" وتهالك الطرق والسكك الحديدية في الولايات المتحدة.
وأضافت أنه في عهد الرئيس شي جينبينغ "شهدت البيرقراطية، والجيش، والشرطة، حملات تطهير ضد مسؤولين منحرفين وفاسدين... أعاد شي (جينبينغ) بناء الحزب على مستوى القاعدة، وأنشأ شبكة جواسيس في الأحياء، مُدخلاً كوادر في الشركات الخاصة، لمراقبتها. لم يخضع المجتمع لرقابة مشددة لهذه الدرجة، منذ عهد ماو".
بعد فترة وجيزة على تسلّمه الحكم، في عام 2012، تخلّى شي جينبينغ عن سياسة الصبر التي انتهجها أسلافه المباشرون، وبينهم جيانغ زيمين وهو جينتاو، اللذان التزما نظرية الزعيم السابق دينغ شياو بينغ، في "انتظار وقتهم وإخفاء قوتهم"، في مقاربتهم للشؤون العالمية.
شي جينبينغ والاتحاد السوفيتي
قرار التغيير الذي اتخذه شي جينبينغ، داخلياً وخارجياً، جاء نتيجة اقتناعه بأن الولايات المتحدة والديمقراطيات الغربية كانت في حالة تراجع نسبي. وتتمحور نظرة الرئيس الصيني إلى العالم، حول انهيار الاتحاد السوفيتي وحزبه الشيوعي، في عامَي 1989 و1990، في ما يشكّل "درساً يقود كل ما يفعله تقريباً، في ما يتعلّق بحزبه الشيوعي، وأيضاً بصراعه على السلطة"، وفق شبكة "سي إن بي سي".
في عام 2018، تساءل شي جينبينغ كيف أمكن أن ينهار الحزب الشيوعي السوفيتي، رغم أنه يضمّ 20 مليون عضو، بعدما هزم الزعيم النازي أدولف هتلر والرايخ الألماني الثالث، وهو لا يضمّ سوى مليونَي عضو. وسأل: "لماذا؟ لأن مُثُله ومعتقداته تبخرت". وسخر من سياسة "الانفتاح" التي انتهجها ميخائيل غورباتشوف، آخر زعيم للاتحاد السوفيتي، مؤكداً أن ذلك لن يحدث في الصين خلال حكمه.
ومع سعي الحزب الشيوعي الصيني إلى "تجديد" نفسه، كما قال لي زانشو، ثالث أبرز قياديّيه، قبل أشهر، يواجه الحزب تحديات، مثل شيخوخة السكان وتزايد عدم المساواة.
واعتبر موقع "ذي ديبلومات" أن هذه التحديات، التي "تُعتبر سابقة"، هي "من صنع الحزب، إلى حد كبير"، مشيراً إلى استنكار دولي لملفات كثيرة، بما في ذلك مسلمو أقلية الأويغور في إقليم شينغيانغ، و"الموقف العدائي في بحر الصين الجنوبي، ومنشأ فيروس كورونا المستجد، وتفشيه".
"ماوية جديدة"
لكن ذلك لا يكبح شي جينبينغ، إذ قال أمام قياديين في الحزب، في يناير الماضي: "يمرّ العالم بوقت مضطرب، لا مثيل له في القرن الماضي. لكن الوقت والزخم في مصلحتنا. هذا هو المكان الذي نُظهِر فيه قناعتنا ومرونتنا، وكذلك تصميمنا وثقتنا".
في الشهر التالي، أعلن الرئيس الصيني تحقيق "نصر كامل"، في حملة لمكافحة الفقر ببلاده، علماً أنه يطبّق أيديولوجيا "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد"، بقيادة حزب يضمّ 92 مليون عضو، أو حوالى 8% من السكان البالغين.
وتحدثت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن "ماوية جديدة"، مشيرة إلى أن "الازدهار والاعتزاز الوطني" يؤمّنان الدعم للحزب، مستدركة أن "قلّة من المواطنين تؤمن بأيديولوجيته العقيمة، وعبادة الشخصية التي عفا عليها الزمن".
وذكّرت الصحيفة بأن مستويات المعيشة في الصين لم تكن أفضل ممّا كانت عليه في ثلاثينات القرن العشرين، لدى وفاة ماو، في عام 1976، والتي تلتها "حملة تطهير"، طالت ما سُمّي "عصابة الأربعة"، التي ضمّت أرملة الزعيم الراحل، و3 قياديين في الحزب.
وأضافت الصحيفة: "من أجل إنقاذ الحزب، حوّل دينغ سردية النظام، من الصراع الطبقي إلى التحديث. وفي عام 1978، أطلق فترة أسماها (الإصلاح والانفتاح)، والتي حفّزت في عقدها الأول، معدل نموّ سنوي يبلغ 8.6%". لكن الزعيم الراحل "أصرّ على الحفاظ على (المبادئ الأساسية الأربعة): لم يُسمح لأحد بالتشكيك في الاشتراكية، فكر ماو تسي تونغ، الديكتاتورية الديمقراطية للشعب، أو قيادة الحزب الشيوعي" للصين.
أسباب نجاح "النظام"
ونجح الحزب في الإمساك بالسلطة، لثلاثة أسباب، تتمثل في "قسوته"، والتي جُسّدت في سحق احتجاجات ساحة تيانانمين، في عام 1989؛ و"مرونته الأيديولوجية"، التي تجلّت في النهج الجديد لدينغ شياو بينغ، بعد سنتين فقط على وفاة ماو؛ وعدم تحوّل الصين إلى "نظام كليبتوقراطي" بشكل مباشر، يتيح لنخبة احتكار الثروة، وفق "وول ستريت جورنال".
وذكّرت الصحيفة بأنه "لدى ولادة الحزب الشيوعي الصيني، في عام 1921، كانت الشيوعية الأقلّ جذباً، من بين قوى سياسية متنافسة، في بلد دمّرته فيضانات، ومجاعات، وأمراء حرب وفساد". وأشارت إلى أن مؤسّسي الحزب كانوا "مفتونين بأيديولوجيا الماركسية"، الجديدة آنذاك، ونجحوا في نهاية المطاف في هزيمة القوميين، بزعامة شيانغ كاي تشيك، بعد نزاع دموي مرير، وإرغامه على الفرار إلى جزيرة تايوان.
واستدركت الصحيفة أن "ماو قاد الصين إلى سلسلة مصائب"، بينها الانخراط في الحرب الكورية (1950-1953)، التي أسفرت عن مقتل وجرح نحو مليون جندي صيني. وفي عام 1958، "أطلق القفزة العظيمة إلى الأمام، والتي أدت إلى مقتل بين 30 و40 مليون شخص، في أضخم مجاعة في التاريخ". وفي عام 1966، أطلق أيضاً "الثورة الثقافية البروليتارية العظمى"، التي تفيد تقديرات بأنها "كبّدت 100 مليون فرد، وظائفهم أو صحتهم أو حياتهم، ودمّرت الحزب بوصفه تنظيماً"، وفق "وول ستريت جورنال".
"شركة ضخمة"
لكن التحوّل الذي طرأ على الحزب الشيوعي، هائل، إذ بات نصف أعضائه من حملة الشهادات الأكاديمية، فيما تراجعت نسبة العمال والفلاحين إلى الثلث. كما أن الحزب لم يعُد يسيطر على كل مؤسسات الدولة فحسب، بل أصبح بمثابة "شركة ضخمة، ونافذة، لديها مصالح تشمل كل مجالات الاقتصاد الصيني".
ويتطلّع الحزب إلى عام 2049، الذي سيشكّل الذكرى المئوية لتسلّمه الحكم وإعلانه الصين الشعبية، من أجل "بعث الأمّة الصينية العظيمة". لكن ثمة عراقيل محتملة، تواجه "المعجزة الاقتصادية الصينية"، بما في ذلك التغيير الديموغرافي وتأثيراته الاجتماعية، وأعباء الديون الثقيلة للحكومات والشركات المحلية، والقطاع المالي غير المستقرّ، وآفاق التصدير الملتبسة في الاقتصاد العالمي.
ورجّحت "سي إن بي سي" أن تكون لدى شي جينبينغ "نافذة لعقد تقريباً، قبل التراجع الديموغرافي لبلاده، وانكماشها الاقتصادي الهيكلي، واضطرابات محلية حتمية (ستشهدها)، وتهدّد بتقليص الإمكانية التاريخية التي يتيحها له الآن التقدّم التكنولوجي لبلاده، ومكاسبها الجيوسياسية، وقبضته على السلطة".
ولفتت صحيفة "واشنطن بوست" إلى أن الصين "شدّدت، منذ تسلّم شي جينبينغ الحكم، في عام 2012، مطالبها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، وسعيها إلى التوسّع دولياً، من خلال مبادرة الحزام والطريق، التي أتاحت تشييد موانئ ومحطات للطاقة وخطوط قطارات وبنية تحتية أخرى في الخارج".
"إغواء تايوان"
وإذ يتحدث كثيرون الآن عن "التهديد الصيني"، في الولايات المتحدة ودول أخرى، في ما تعتبره بكين محاولة لكبح احتلالها مكانها الصحيح في النظام الدولي، قد تشكّل تايوان أبرز تحدٍّ يواجه شي جينبينغ، لا سيّما أنه تعهد، في عام 2019، بإعادة توحيدها مع البرّ الرئيس للصين، في ما وصفته مجلة "فورين أفيرز" بـ "إغواء تايوان".
ويستعدّ شي جينبينغ لبدء عقد ثانٍ من الحكم، بعد تعديل الدستور، في عام 2018، لإلغاء اقتصار عهده على ولايتين، كما حدث مع أسلافه، ما سيجنّبه الامتثال لقاعدة التقاعد، بعد بلوغه 68 عاماً، خلال مؤتمر الحزب الشيوعي، المرتقب في خريف 2022.
وكتب الباحث نيس غروينبيرغ، من "معهد مركاتور لدراسات الصين"، في صحيفة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست"، أن شي جينبينغ "أتاح لنفسه مزيداً من الوقت، لتأسيس رؤيته لدولة الحزب ومشروعه الوطني للصين". واستدرك أنه "أدخل أيضاً مقداراً هائلاً من عدم اليقين، في نظام القيادة مرة أخرى، والذي قد يؤدي في النهاية إلى زعزعة استقرار نظام القيادة، بمجرد رحيل شي، بوصفه مركز قوة لا يمكن تحديه".
شي جينبينغ وأباطرة الصين
أما جود بلانشيت، فكتب في "فورين أفيرز"، في إشارة إلى شي جينبينغ: "إن إيمانه بأن على الحزب الشيوعي الصيني أن يوجّه الاقتصاد، كما أن على بكين كبح القطاع الخاص، سيقيّد النموّ الاقتصادي المستقبلي للبلاد. إن مطالبته بأن تلتزم كوادر الحزب بالعقيدة الأيديولوجية، وبالولاء الشخصي له، ستقوّض مرونة نظام الحكم وكفاءته. إن تركيزه على تعريف موسّع للأمن القومي، سيقود البلاد في اتجاه داخلي أكثر، مصحوباً بجنون عظمة. إن إطلاقه لقومية الذئب المحارب، سيؤدي إلى صين أكثر عدائية وانعزالاً".
وتابع: "يعتقد شي جينبينغ أنه قادر على تشكيل مستقبل الصين، كما فعل أباطرة البلاد قديماً. إنه يُخطئ في هذه الغطرسة بالثقة، ولا يجرؤ أحد على إبلاغه بعكس ذلك. إن بيئة لا يستطيع فيها زعيم قوي جداً... سماع حقائق غير مريحة، هي وصفة لكارثة، كما أثبت التاريخ الحديث للصين".
وإذ باتت الصين "عصيّة على الاحتواء"، فإن خلافاتها "جوهرية" مع الولايات المتحدة، ما قد يؤشّر إلى أنهما "لن يتشاركا النفوذ العالمي بشكل ودي"، علماً أن شي جينبينغ يقود عملية تحديث ضخمة وسريعة للترسانة العسكرية الصينية، كما أوصل بكين إلى المريخ، مقارعاً هيمنة واشنطن على الفضاء.
ولفتت "وول ستريت جورنال" إلى أن "النظام السياسي الصيني يتطوّر منذ أكثر من قرن"، متحدثة عن "عملية لم تنتهِ بعد". وزادت: "يستحيل التكهّن بموعد تغيير النظام، وكيفيته. الأمر الوحيد المؤكد هو أن القمع وحده لا يمكنه أن يُبقي الشعب الصيني صامتاً إلى الأبد".