أثار الدمار الذي لحق بصوامع القمح في مرفأ بيروت، بعد الانفجار الذي شهده في الرابع من الشهر الجاري، تساؤلات بشأن مستقبل الأمن الغذائي في لبنان، كما أعاد قصة هذا الصرح المعماري إلى الأذهان.
في هذا التقرير، تستعرض "الشرق" قصة بناء الصوامع الشهيرة التي حوّلها الانفجار إلى أطلال.
مرفأ بيروت.. 35 قرناً من الخدمة
يفتخر الموقع الإلكتروني لميناء بيروت، بعراقته ورحلته على مدى 35 قرناً عبر التاريخ، منذ بدايات المدينة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد بحسب مراسلات فرعونية - فينيقية، مروراً بالعصرين الروماني والأموي وتحوله إلى مركز تجاري مهم، حتى أصبحت مقر أول الأساطيل العربية.
وعلى مدى العصور، استمر دور المرفأ في التعاظم كمركز تجاري وسياحي إلى أن أُنشئ بصورته الحديثة، أواخر القرن التاسع عشر.
في عام 1887، منح امتياز الميناء لشركة عثمانية، ولاحقاً شهد المرفأ عدداً من الأعمال الإنشائية التي استهدفت تطويره، بينها إقامة سد بحري لتوسيعه، كما يذكر موقعه الرسمي.
وشهد عام 1894 انتهاء أعمال إنشاء مرفأ بيروت وأقيمت الاحتفالات، لكن موقع المرفأ لا يشير إلى تشييد أو تطوير صوامع القمح في تلك الأثناء.
المثير للدهشة، أنه يمكن تتبُّع قصة تلك الصوامع في مكان آخر مختلف كلياً وغير متوقع، وهو موقع الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية.
إنشاء الصوامع
في القسم (3) المختص بالمشاريع قيد البحث، ضمن العدد السادس من التقارير السنوية للصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية، والمؤرخ بتاريخ 1967-1968، يمكن رصد "مشروع إنشاء صوامع للحبوب في مرفأ بيروت".
ويذكر الصندوق في تقريره أن لبنان "لا يمتلك صوامع حديثة لتخزين الحبوب وتيسير تفريغها، ما دفع الحكومة آنذاك للتفكير في مشروع إنشاء الصوامع، ضمن أعمال أخرى خاصة بتدعيم المرفأ وتوسيع إمكاناته".
حدد التقرير أن سعة الصوامع المُزمع تشييدها تصل إلى 105 آلاف طن، بتكلفة إجمالية تصل إلى 2.25 مليون دينار كويتي، 50% منها بالنقد الأجنبي، لتصبح من أوائل الصوامع في شرق البحر المتوسط، ما يسهم في تشجيع تجارة الحبوب عبر لبنان.
الكويت وإعادة البناء
على موقع الصندوق الكويتي وفي القسم الخاص ببيانات المشاريع المُدشنة بلبنان، يأتي ذكر مشروع الصوامع مرة أخرى.
وقال الصندوق في بيان، الثلاثاء، إن صوامع الغلال بُنيت في عام 1970 بموجب اتفاقية قرض بين الصندوق ولبنان، ليشكل جزءاً رئيسياً من الأمن الغذائي للبلاد بحفظ وإنتاج الحبوب والطحين، فضلًا عن قدرة تخزينية تكفي قرابة 85% من حاجة الشعب.
وأضاف البيان أن "الصندوق يعلن استعداده لتقديم الدعم لمواجهة تداعيات انفجار مرفأ بيروت عبر التزامات مُسبقة يعاد تخصيصها لمصلحة لبنان بقيمة 30 مليون دولار".
ونقلت وكالة الأنباء الكويتية (كونا) عن عبدالوهاب البدر، المدير العام للصندوق، تأكيده أن "هناك اتصالات جارية مع المسؤولين في لبنان لوضع آلية تأخذ بعين الاعتبار حاجة الشعب للمشاريع ذات الأهمية وسيتم أخذ القرار المناسب لأي مشروع له الأولوية ومن بينها صوامع الغلال"، كما ستتم إعادة النظر في مشروع محطة التحويل الأساسية الكهربائية في بيروت التي تضررت من الانفجار.
مزاعم تاريخية تفنّدها الصور
على الرغم من التفاصيل المُتعلقة بتدشين صوامع الحبوب في المرفأ أواخر ستينات القرن الماضي، فإن البعض يشير إلى أن الصرح العملاق بُني في أواخر القرن التاسع عشر، إبان تطوير المرفأ في عهد السلطة العثمانية. إلا أن أرشيف الرسوم التوثيقية والصور الفوتوغرافية يُساعد على التحقق من تلك المزاعم.
منذ عام 1875، حظي مرفأ بيروت العريق بفرص لتوثيق مراحل تطوره عن طريق الرسوم، التي جاء أغلبها تعبيرياً، يعكس المظاهر الطبيعية الممتدة أكثر مما يصّور المرافق والمنشآت.
ومع نهايات القرن التاسع عشر، بدأت شعبية التصوير الفوتوغرافي تتسع ليظهر مرفأ بيروت مكتظاً بالمسافرين الحاملين مظلاتهم وأمتعتهم، إضافة إلى ظهور مبانٍ خشبية عتيقة الطراز. وفي لقطات أخرى، تظهر قوارب مصطفة، وعمال ينقلون حاويات وصناديق. وعلى امتداد الأفق، لا يمكن رصد أي مبنى شاهق أو بارز يماثل ارتفاع صوامع حبوب مرفأ بيروت كما نألفها، وكما صمدت حتى لحظات الانفجار.
يتكرر الأمر مع الصور المُلتقطة أوائل القرن العشرين: قوارب شراعية، وسفن كبيرة، ومنازل من طوابق متعددة وأسقف خشبية على امتداد البصر، استمر ظهورها في معظم اللقطات التي ترصد ملامح المدينة من المرسى حتى خمسينات القرن الماضي.
أما صوامع القمح الشاهقة، فلم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد عام 1967 الذي يظهر المرفأ خلاله خالياً من الصوامع. لكنها تظهر جلية في صورة مُلتقطة من على سطح مركب بالميناء في عام 1984 تعود حقوقها لمؤسسة موندادوري الإيطالية، وأخرى للمصور الأميركي باري إيفرسون عام 1994، وتظهر بشكل لافت مبانٍ شاهقة بعيدة، شاهدة على تغير معالم بيروت.
الصوامع في الصحافة اللبنانية
ثمة مقتطفات كثيرة في الأرشيف الصحافي اللبناني تؤكد حداثة عمر صوامع القمح في مرفأ بيروت، صدرت على لسان مجموعة من المسؤولين الرسميين اللبنانيين قبل أعوام عدة.
ويمكن اتخاذ تقرير أعده موقع صحيفة The Daily Star اللبنانية في أغسطس 2016، وناقش قضية سلامة الغذاء وتخزين الحبوب. وأشار التقرير إلى واقعة مُحددة في عام 2014، حين أعلنت الحملة الوطنية لسلامة الغذاء آنذاك أن قمح الميناء ملوث، ليعلّق وزير الاقتصاد حينها (آلان حكيم) قائلاً إن "صوامع الحبوب الواقعة في قلب الميناء لم تتم صيانتها بشكل سليم منذ بنائها قبل 40 عاماً".
وفي العام ذاته، عين وزير الاقتصاد مديراً عاماً جديداً لصوامع مرفأ بيروت، هو موسى الخوري، الذي قال بدوره: "استلمت الصوامع التي يعود تاريخها إلى عام 1969 أو 1970 ولم تتم صيانتها بشكل صحيح، فعلى الرغم من الجهود المبذولة، لم تكن هناك صيانة احترافية أو وقائية".