يضمد اللبنانيون جراحهم بعد الكارثة التي حلت ببيروت، فيما يتقاذف مسؤولون الاتهامات عن شحنة نترات الأمونيوم التي كانت مخزّنة في مرفأ العاصمة، وأدى انفجارها إلى الكارثة التي ضربت البلاد الثلاثاء، وأوقعت أكثر من مئة قتيل و4 آلاف جريح، ناهيك عن تشريد نحو 300 ألف وخسائر مادية بالمليارات.
ولكن كيف وصلت شحنة نترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، ولماذا بقيت في مستودع طيلة 6 سنوات، رغم خطورتها الشديدة على العاصمة؟ أسئلة كثيرة يطلب اللبنانيون أجوبة حاسمة عنها.
وزيرة الإعلام اللبنانية منال عبد الصمد، أعلنت بعد جلسة استثنائية للحكومة، أن الأخيرة "طلبت من السلطة العسكرية العليا فرض الإقامة الجبرية على كلّ مَن أدار شؤون تخزين مادة الأمونيوم وحراستها ومحّص ملفاتها، أياً يكن"، منذ وصولها إلى بيروت عام 2014 حتى انفجارها.
جاء ذلك بعدما تعهد رئيسا الجمهورية ميشال عون والحكومة حسان دياب بمحاسبة المقصرين في ملف تخزين 2750 طناً من نترات الأمونيوم، المُستخدمة في صنع الأسمدة والقنابل، "من دون اتخاذ إجراءات وقائية"، في مستودع "خطر" في المرفأ منذ 6 سنوات. واعتبر عون أن الأمر "غير مقبول".
"إهمال" نترات الأمونيوم
نقلت وكالة "رويترز" عن "مصدر مطلع" أن التحقيقات الأولية تشير إلى حدوث "إهمال"، مضيفاً أن مسألة سلامة التخزين عُرضت على لجان وقضاة، و"لم يفعل أحد شيئاً" لإصدار أمر بنقل هذه المادة شديدة القابلية للاشتعال، أو التخلّص منها. وتابع أن حريقاً شبّ في المستودع رقم 9 في المرفأ، وامتد إلى المستودع رقم 12، حيث خُزنت نترات الأمونيوم.
وذكرت "رويترز" أن وثيقتين اطلعت عليهما تفيدان بأن الجمارك اللبنانية ناشدت القضاء، في عامَي 2016 و2017، أن يطلب من "المؤسسات البحرية المعنية" إعادة تصدير نترات الأمونيوم، أو الموافقة على بيعها. وأضافت الوكالة أن إحدى الوثيقتين تضمّنت طلبات مشابهة، في عامَي 2014 و2015.
أما المدير العام للجمارك اللبنانية بدري ضاهر فقال لمحطة "أل.بي.سي.آي" إن الجمارك أرسلت 6 وثائق إلى القضاء، تحذر من أن المادة تشكّل خطراً. وأضاف: "طلبنا إعادة تصديرها، لكن ذلك لم يحصل. نترك للخبراء والمعنيين بالأمر تحديد السبب. الجمارك لا علاقة لها بالتخزين، بل بإدارة المرفأ".
ونسبت "رويترز" إلى مصدر آخر قوله إن فريقاً عاين نترات الأمونيوم قبل 6 أشهر، حذر من أنها "ستُفجّر بيروت كلها" إن لم تُنقل من المرفأ.
"أمر قضائي" بتخزين الشحنة
المدير العام لمرفأ بيروت حسن قريطم قال لمحطة "أو.تي.في"، المملوكة لـ "التيار الوطني الحرّ" بزعامة جبران باسيل، صهر الرئيس عون، إن تلك المادة خُزنت في المرفأ "بموجب أمر قضائي. وكنا نعلم أنها خطرة، لكن ليس إلى هذه الدرجة". وتابع أن الجمارك وجهاز أمن الدولة طلبا من السلطات تصدير هذه المواد أو إزالتها، ولكن "لم يحدث شيء".
ونفى معلومات عن تخزين مفرقعات قرب نترات الأمونيوم، وزاد: "بعد إجراءات اتخذها (جهاز) أمن الدولة، طُلب منا إصلاح فجوة في باب، فنفذنا، والعمل فيها كان منتهياً منذ ظهر أمس (الثلاثاء)، أما ما حصل بعد الظهر، فلا أعرف".
صحيفة "الجمهورية" أوردت أن تقريراً قدّمه رئيس جهاز أمن الدولة طوني صليبا إلى المجلس الأعلى للدفاع، خلال اجتماعه الثلاثاء، أفاد بأن "كشفاً دورياً على عنابر المرفأ" أظهر أن "باب العنبر 12 مخلوع، وهناك فجوات في حائطه"، مضيفاً أنه "حذّر حينها في تقرير من أن هذه المواد خطرة جداً، ولكن أي إجراءات فورية لم تُتخذ".
ملابسات رسوّ السفينة في بيروت
وأفاد موقع "Shiparrested.com"، وهو شبكة تتعامل مع الدعاوى القانونية في قطاع الشحن، في تقرير نشره عام 2015، بأن سفينة الشحن "روسوس"، التي ترفع علم مولدوفا، رست في بيروت في سبتمبر 2013، بعد تعرّضها لمشكلات فنية، أثناء إبحارها من جورجيا إلى موزمبيق، وهي تحمل 2750 طناً من نترات الأمونيوم.
وأضاف أن السفينة مُنعت من الإبحار، بعد تفتيشها، ثم تخلّى عنها مالكوها بعد وقت وجيز، ما دفع دائنين لرفع دعاوى قانونية. وتابع: "نتيجة الأخطار المتصلة بإبقاء نترات الأمونيوم على السفينة، نقلت سلطات المرفأ الشحنة إلى مستودعاته. السفينة والبضائع لا تزال حتى الآن في المرفأ، في انتظار (تنظيم) مزاد علني و/أو التخلّص منها بشكل مناسب".
وزاد الموقع: "تم تقديم طلب إلى قاضي الأمور المستعجلة في بيروت لنيل أمر يتيح للطاقم النزول (من السفينة) والعودة إلى الوطن. استند الطلب إلى انتهاك الحق في الحرية الشخصية، المحمي بموجب الدستور اللبناني والمعاهدة الدولية لحقوق الإنسان والحريات الشخصية. تم التركيز على خطر وشيك يواجهه الطاقم، نظراً إلى الطابع (الخطر) للبضائع المخزنة في السفينة". وأشار الموقع إلى أن "القاضي أمر بإصدار التصاريح اللازمة للطاقم، للنزول والعودة إلى الوطن".
مالك السفينة تخلى عنها
وقال موقع "فليتمون" المختص بالشؤون البحرية في يوليو 2014، إن السفينة "روسوس" عانت "عيوباً لدى تفتيشها" في بيروت، وبقي فيها 4 من أفراد طاقمها، هم قبطانها، وهو روسي، وثلاثة أوكرانيين.
وأضاف أن "السفينة كانت مملوكة ومُدارة من السيد إيغور غريشوشكين، وهو روسي مقيم الآن في قبرص"، مشيراً إلى "التخلّي" عن السفينة، إذ إن "مالكها لا يتواصل (مع أفراد طاقهما)، ولا يدفع رواتب، ولا يؤمّن إمدادات"، كما أن "مالك الشحنة تخلّى عنها أيضاً".
وتابع الموقع: "سلطات بيروت لا تسمح للطاقم المتبقي بمغادرة السفينة والعودة إلى الوطن. والسبب واضح، سلطات المرفأ لا تريد تحمّل مسؤولية سفينة مهجورة، محمّلة بشحنة خطرة، ومتفجرات، في الواقع. ليس واضحاً لماذا لا يريدون اعتقال السفينة مع البضاعة، لإطلاق الطاقم وإبداله بطاقم محلي مؤقت".
صحيفة "ذي سايبيريان تايمز" الروسية رجّحت أن غريشوشكين "لا يزال يقيم في ليماسول مع زوجته".
وذكرت أن شحنة السفينة احتُجزت بعدما أعلنت سلطات مرفأ بيروت أنها "تفتقر إلى الوثائق والشروط اللازمة للنقل". وتابعت أن طاقمها كان يضمّ 8 أوكرانيين وروسيَّين، واضطر للبقاء على السفينة، بعدما أعلن غريشوشكين إفلاسه و"تخلّى عن السفينة". وزادت أن السلطات اللبنانية "سمحت لستة من البحارة العشرة بمغادرة البلاد، فيما تُرك الآخرون عالقين على السفينة لسنة تقريباً".
قبرص تستجوب المالك
وأعلنت الشرطة القبرصية الخميس، استجوابها روسياً أفادت معلومات أنه مرتبط بالسفينة التي أقلت شحنة نترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، التي كانت خلف الانفجار الكبير الذي هز المدينة الثلاثاء. ليتبيّن أن الشخص الذي تم استجوابه، ليس سوى مالك السفينة إيغور غريشوشكين.
وقال متحدث باسم الشرطة القبرصية لـ"فرانس برس": "طلبت منا السلطات اللبنانية تحديد مكان هذا الشخص وطرح الأسئلة عليه، وهذا ما قمنا به".
وأضاف أن "تلك الأجوبة أرسلت إلى لبنان"، مشيراً إلى أنه "لم يتم توقيف الرجل الذي يدعى إيغور غريتشوشكين، بل خضع فقط للاستجواب في شأن حمولة السفينة بطلب من مكتب الشرطة الدولية (الانتربول) في لبنان".
وأفادت وسائل إعلام عدة، من بينها صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، بأن غريشوشكين استأجر السفينة التي اضطرت إلى الرسو في بيروت بسبب ضرر في هيكلها.
وبحسب صحيفة "بوليتيس" القبرصية، يقيم غريشوشكين في مدينة ليماسول التي تعد مركزاً هاماً للترانزيت في المتوسط، مع زوجته الروسية التي تحمل جواز سفر قبرصي.
القبطان ينتقد المالك.. وسلطات لبنان
الصحيفة أوردت أن قبطان السفينة بوريس بروكوشيف وجّه، في يونيو 2014، "مناشدة يائسة" إلى منظمات دولية، ودبلوماسيين والسلطات الأوكرانية وسلطات مرفأ بيروت، للإفراج عن البحارة. ووَرَدَ في المناشدة المكتوبة: "مالك السفينة إيغور غريشوشكين تخلّى عنها وعن الباقين من طاقمها. إنه لا يزوّدنا بالمال، وحرمنا تماماً من كل وسائل الاتصال. أخبرنا أنه أفلس، وبينما لا أصدّقه، فإن أهم شيء هو أنه تخلّى عن الناس والبضائع".
بروكوشيف أكد اليوم الأربعاء لـ "إذاعة أوروبا الحرة" (تموّلها واشنطن) أن السفينة كانت تنقل نترات الأمونيوم، من ميناء باتومي في جورجيا على البحر الأسود إلى موزمبيق، عندما واجهت مشكلات فنية أرغمتها على الرسوّ في بيروت. وأضاف أن السفينة "كانت قديمة جداً، وغرقت قبل سنتين أو ثلاث، إذ إنها لم تكن تخضع للصيانة".
وأشار إلى أن غريشوشكين ما زال مديناً بعشرات الآلاف من الدولارات، في أجور غير مدفوعة، له ولأفراد الطاقم الآخرين. وأضاف أن كل محاولاته لمقاضاة غريشوشكين في روسيا فشلت، لأن الأخير لم يعد يقيم هناك. ووصف احتجازه في لبنان مع أفراد الطاقم الآخرين بأنه من أشكال "الحبس".
بروكوشيف حمّل السلطات اللبنانية مسؤولية الانفجار الذي حصل الثلاثاء، قائلاً: "كان عليهم التخلّص من السفينة فوراً، بدل مصادرتها وطلب رسوم لإيوائها. وثانياً، نحن نتحدث عن نترات الأمونيوم. كان في إمكانهم استخدامها في حقولهم (الزراعية). فلم يكن أحد يطالب بها وأصبحت بلا صاحب".