"طالبان" وتحديات سلام صعب في أفغانستان

القيادي في "طالبان" الملا عبد الغني برادار  والمندوب الأميركي زلماي خليل زاد يتصافحان بعد إبرام اتفاق الدوحة في 29 فبراير 2020 - AFP
القيادي في "طالبان" الملا عبد الغني برادار والمندوب الأميركي زلماي خليل زاد يتصافحان بعد إبرام اتفاق الدوحة في 29 فبراير 2020 - AFP
دبي -إيلي هيدموس

أثارت هدنة أعلنتها الحكومة الأفغانية وحركة "طالبان"، خلال عيد الفطر، وتبادلهما الأسرى، ترقباً في شأن التداعيات المحتملة لتلك الخطوة، وإمكان أن تسهّل المفاوضات بين الجانبين، بعد إبرام الولايات المتحدة اتفاق سلام مع الحركة.

الاتفاق الموقّع في الدوحة في 29 فبراير الماضي تضمّن تعهداً من واشنطن بسحب قواتها من أفغانستان خلال 14 شهراً. في المقابل، تعهدت "طالبان" بالتفاوض مع حكومة الرئيس أشرف غني ومنع تحويل البلاد مجدداً إلى مأوى لمجموعات مسلّحة، لاسيما تنظيم "القاعدة" الذي كان في كنف الحركة، خلال حصول هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة.

بعد أقلّ من شهر على تلك الهجمات، غزت القوات الأميركية أفغانستان وأطاحت بحكم "طالبان"، ولكن البلاد لم تعرف الاستقرار وشهدت هجمات وتفجيرات وعمليات عسكرية تزامنت مع خلل في الأداء السياسي وفساد وصراع أجنحة. كل هذه العوامل عقّدت إحلال سلام دائم وإقامة مؤسسات راسخة تدير شؤون الدولة، بل إن غني وخصمه عبد الله عبد الله لم يتفقا إلا قبل فترة وجيزة على تقاسم السلطة، بعدما أعلن كل منهما فوزه في انتخابات الرئاسة التي نُظمت في سبتمبر 2019.

"تنظيم الدولة" عدو لواشنطن و"طالبان"

توقيع اتفاق الدوحة لم يوقف الهجمات في أفغانستان التي شهدت اعتداءات مروّعة في الأسابيع الأخيرة، بينها مجزرة في مستشفى توليد في كابول، أوقعت 24 قتيلاً، بينهم أمهات ورضّع وممرّضات.

"طالبان" التي أقرّت بهجمات استهدفت مراكز للجيش والشرطة، أوقعت عشرات بين قتيل وجريح، نأت بنفسها عن الاعتداء على مستشفى التوليد والذي رجّحت السلطات أن يكون من تدبير "تنظيم الدولة" الذي يخوض صراعاً مزدوجاً في أفغانستان مع الحركة والقوات الحكومية في آن معاً.

قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي يتحدث في واشنطن في مارس 2020 - AFP
قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي يتحدث في واشنطن في مارس 2020 - AFP

ووجدت واشنطن و"طالبان" في "تنظيم الدولة" عدواً مشتركاً، إذ أبلغ الجنرال كينيث ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأميركية، المشرفة على العمليات العسكرية في أفغانستان، الكونغرس في مارس الماضي أن قوات بلاده ساندت الحركة بشكل "محدود جداً"، أثناء "سحقها" التنظيم في إقليم ننغرهار جنوب البلاد في الأشهر الأخيرة.

وأشار إلى أنه "أقل تفاؤلاً" في شأن مواجهة مسلحي "طالبان" عناصر "القاعدة"، قائلاً إن عليهم "إثبات ذلك"، وتابع: "ليس علينا أن نثق أو نعجب بهم، أو تصديق أي شيء يقولونه، بل علينا مراقبة ما يفعلونه".

شكوك أفغانية – أميركية

تصريحات ماكينزي تعكس شكوكاً عميقة في كابول وواشنطن بالتزام "طالبان" تعهداتها وامتناعها عن انتهاك الدستور الذي أُقرّ في عام 2004، وفرض إرادتها على الأفغان، كما فعلت بين عامَي 1996 و2001.

وتتفاقم تلك الشكوك، إذ إن اتفاق الدوحة لا يشير إلى الحقوق المدنية ووضع النساء. واعتبر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن مناقشة ملف حقوق النساء تقع على عاتق المفاوضين الأفغان.

وكتب دانيال فيلدمان، المسؤول عن ملفَي أفغانستان وباكستان في وزارة الخارجية الأميركية خلال عهد الرئيس السابق باراك أوباما، في صحيفة "واشنطن بوست" قائلاً: "حقيقة أن قواتنا يمكن أن تنسحب بالكامل قبل استكمال أي اتفاق بين طالبان والحكومة الأفغانية - ناهيك عن تنفيذه - لا تمنحنا أي عامل ضغط للتأكد من أن أفغانستان تسير على طريق إحلال سلام دائم". ونبّه إلى وضع "يهدد بشكل خاص التقدّم الذي حققته المرأة والمجتمع المدني".

الزعيم السابق لـ
الزعيم السابق لـ "طالبان" الملا أختر منصور في صورة التُقطت عام 2014 - AFP

المفاوضات التي أجرتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع "طالبان" لم تكن الأولى، إذ سبقتها محادثات خلال عهد أوباما. وأوردت مجلة "ذي ديبلومات" (مقرها واشنطن) أن الزعيم السابق للحركة، الملا أختر منصور، كان سيزور قصر الرئاسة في كابول للتفاوض مع الحكومة حين كان نائباً لزعيم "طالبان" عام 2010، ولكن مسؤولين اكتشفوا أنه أرسل تاجراً باكستانياً بدلاً منه، فتعطل الأمر.

ترامب يشكو حرباً "بلا نهاية"

أسفرت الحرب في أفغانستان عن مقتل نحو 160 ألف شخص بين عسكري ومدني، وبينهم قرابة 2300 جندي أميركي، علماً أن تقديرات تفيد بأن الولايات المتحدة تكبّدت تريليون دولار خلال النزاع الذي اعتبره ترامب "بلا نهاية"، متعهداً إنهاءه.

قد تكون الولايات المتحدة غزت أفغانستان في عام 2001، من دون تحليل عميق لأهداف الحرب وسبل خروج آمن منها، ربما لأن هجمات 11 سبتمبر باغتتها. وفي هذا السياق، نشرت "واشنطن بوست" أواخر عام 2019 وثائق رُفعت عنها السرية وأُطلق عليها اسم "أوراق أفغانستان"، يروي فيها مسؤولون أميركيون وأفغان بارزون تفاصيل عن "المغامرة الفاشلة" في أفغانستان ورفض رؤساء أميركيين، بينهم جورج دبليو بوش وأوباما وترامب، "بناء أمّة"، وبدل ذلك إقامة دولة "عنيفة وفاسدة ومختلّة". وأقرّ هؤلاء المسؤولون بأنهم اعتبروا منذ فترة بعيدة أن كسب الحرب في أفغانستان ليس ممكناً.

ونُقل عن جيفري إيغرز، وهو موظف سابق في مجلس الأمن القومي خلال عهدَي بوش الابن وأوباما، تساؤله: "لماذا جعلنا طالبان عدواً بعدما هوجمنا من تنظيم القاعدة؟ لماذا أردنا هزيمة طالبان"؟

"عيوب" اتفاق السلام

ولكن هل سيحقق اتفاق الدوحة السلام المنشود؟ الشكوك كثيرة، وعبّر عنها الباحث في معهد "بروكينغز"، بروس ريدل، بقوله إن الاتفاق "يُذعن لمطلب (الحركة) بانسحاب كل القوات العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في التحالف" خلال 14 شهراً. وتحدث عن "وضع مستقبل مكافحة الإرهاب في المنطقة في أيدي طالبان ورعاتها الباكستانيين"، لافتاً إلى أن الاتفاق "لا يتضمّن أي إعلان عن حقوق الإنسان لدى الأفغان، وهذا إغفال فاضح لحقوق الأفغانيات".

واعتبر أن "العيب الأساسي" في الاتفاق يكمن في إقصاء حكومة غني عن المفاوضات، متهماً إدارة ترامب بأنها "خانت حليفاً وجعلت من طالبان نداً" لواشنطن. ولفت إلى "تحويل الموارد والانتباه عن إنجاز المطلوب في أفغانستان، عبر الاجتياح الكارثي للعراق عام 2003".

رئيس معهد
رئيس معهد "بروكينغز" جون ألن في واشنطن عام 2018 - AFP

أما الجنرال جون ألن، وهو رئيس معهد "بروكينغز" وكان قائداً للقوات الأميركية ووحدات الحلف الأطلسي في أفغانستان بين عامَي 2011 و2013، فشدد على أن "الوثوق بطالبان ليس ممكناً". واعتبر أن "الولايات المتحدة التزمت بتعهدات كثيرة" ملموسة، فيما أن الحركة "لم تفعل" ذلك، إذ إنها "ليست غبية".

"طالبان" تضمن مصالح واشنطن

في المقابل، يعتبر ديفيد بترايوس، وهو مدير سابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وقائد سابق لقوات التحالف الدولي في العراق وأفغانستان، وكذلك فانس سيرشوك، وهو باحث في "المركز من أجل أمن أميركي جديد"، أن اتفاق الدوحة "يسعى إلى جعل طالبان ضامناً أساسياً لمصالح مكافحة الإرهاب الأميركية"، في محاولة لـ"تحويل أفغانستان من مشكلة تتطلب إدارة عسكرية دائمة من الولايات المتحدة إلى مشكلة يمكن تسويتها سياسياً".

واستدرك الرجلان، في مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز"، أن "الأخطار التي تنطوي عليها هذه المجازفة ضخمة، والمؤشرات المبكرة ليست مشجعة"، وسألا: "هل لدى الولايات المتحدة وطالبان تعريف مشترك للمجموعات والأفراد الذين يشكّلون تهديداً لأمن الولايات المتحدة وحلفائها"؟ وذكّرا بأن محققين في الأمم المتحدة أعلنوا في يناير الماضي أن العلاقات بين "القاعدة" و"طالبان" لا تزال "وثيقة ومفيدة للطرفين.

سجناء من
سجناء من "طالبان" أثناء إطلاقهم من سجن باغرام شمال كابول - AFP

"إنجاز المهمة" في أفغانستان

وطرح كارتر مالكاسيان، وهو مستشار سابق للجنرال جوزيف دانفورد، الرئيس السابق لأركان الجيش الأميركي، تصوّراً للأحداث التي شهدتها أفغانستان بعد الغزو عام 2001، مذكّراً برفض إدارة بوش أواخر ذاك العام عرضاً من "طالبان" بالتفاوض على اتفاق سلام شامل مع الرئيس السابق حميد قرضاي، وحديث وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد عام 2003 عن "إنجاز المهمة".

وأشار مالكاسيان إلى شنّ الحركة هجوماً مضاداً عام 2006، واضطرار أوباما إلى حشد نحو 100 ألف عسكري في أفغانستان، كانت الولايات المتحدة تنفق عليهم "قرابة 110 مليارات دولار سنوياً، أي نحو 50% أكثر من موازنتها الفيدرالية للتعليم".

ولفت إلى فشل القوات المسلحة الأفغانية في مواجهة "طالبان"، على الرغم من أن عديد الجيش والشرطة بلغ أكثر من 350 ألفاً عام 2013. وتحدث عن "عامل مهم" ساهم في فشل واشنطن، تمثل في "نفوذ باكستان" التي صاغت "استراتيجيتها في أفغانستان إلى حد كبير استناداً إلى تنافسها" مع الهند. وتابع أن زعماء أميركيين كثيرين "حاولوا تغيير السياسة الباكستانية لكن من دون جدوى".