باغتت الاشتباكات التي اندلعت الأسبوع الماضي بين أرمينيا وأذربيجان العالم، وأثارت تساؤلات بشأن توقيتها وأهدافها، وما إذا كانت عفوية، أم تدخل في إطار خطة لتحقيق مكاسب سياسية، وربما تغيير الواقع العسكري على الأرض.
خلال مشاركتهما في مؤتمر ميونيخ للأمن قبل أشهر، حصل "اشتباك" لفظي بين رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان والرئيس الأذري إلهام علييف. اشتباك استحضر خلاله الرجلان التاريخ لدعم حججهما السياسية.
أما المناوشات الحدودية الأخيرة بين الجانبين، فأوقعت 17 ضحية، بينهم جنرال وعقيد أذريان، علماً أنها الأعنف منذ عام 2016، حين أسفرت اشتباكات دامت 4 أيام عن سقوط 200 شخص.
تبادلت يريفان وباكو اتهامات بإشعال الوضع الميداني واستهداف مدنيين. ونبّه باشينيان أذربيجان إلى أنها "ستتحمّل المسؤولية عن عواقب لا يمكن التكهّن بها"، فيما استنكر علييف "استفزازاً أرمينيا جديداً"، وتعهد بحماية أراضي بلاده.
ملف ناغورني قره باخ
التوتر بين الجمهوريتين السوفيتيتين السابقتين في جنوب القوقاز لا يأتي من فراغ. يخوض الطرفان نزاعاً حول ناغورني قره باخ. وهو جيب في أذربيجان يخضع لسيطرة قوات غير حكومية أرمنية، مدعومة من يريفان، منذ انتهاء حرب انفصالية شهدها عام 1994، دامت 6 سنوات، وأسفرت عن 20 ألف ضحية ومليون نازح.
لا تعترف أي دولة بناغورني قره باخ بوصفها منطقة ذات سيادة، كما أن وضعها غير المحسوم يسبّب مشكلات اقتصادية لأرمينيا، إذ أغلقت أذربيجان وتركيا حدودهما معها نتيجة الصراع، وجعلاها في شبه عزلة.
بعيداً من كل التحليلات، يبقى سبب الاشتباكات غامضاً، علماً أنها حصلت في منطقة تبعد نحو 300 كيلومتر عن ناغورني قره باخ. صحيفة "نيزافيسّيمايا غازيتا" الروسية رجّحت ارتباط المناوشات باستيلاء القوات الأرمينية على تلّ استراتيجي، فيما اعتبر موقع "فزغلياد" الروسي الأمر ردّ فعل على مناورات عسكرية ضخمة نفذتها أذربيجان في مايو الماضي.
وكان علييف تطرّق، في 6 يوليو الجاري، إلى تجميد المفاوضات بشأن ناغورني قره باخ، وانتقد عدم فاعلية "مجموعة مينسك"، التي تضم أرمينيا وأذربيجان وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة، وشكّلتها "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" عام 1992، من أجل إيجاد حلّ سلمي ومتفاوض عليه للنزاع.
وخلال جلسة للحكومة في 16 يوليو، قال علييف: "سئم الشعب الأذري هذه المفاوضات الفارغة، وصبره ليس غير محدود. يجب استعادة وحدة أراضي أذربيجان، وموقفنا قاطع في هذا الصدد"، كما أفاد موقع "أذرتاغ" الأذري.
عزل وزير الخارجية الأذري
الاشتباكات لم تؤدِّ إلى سقوط قتلى فحسب، بل أسقطت أيضاً وزير الخارجية الأذري إلمار ماميدياروف، الذي تولّى تلك الحقيبة منذ عام 2004، بعدما وصف علييف دبلوماسية بلاده بأنها "سلبية ودفاعية".
وحذر الرئيس من "شعبوية"، بعدما أثارت الاشتباكات مع أرمينيا أضخم تظاهرة في باكو منذ عام 2003.. 30 ألف شخص شاركوا في التظاهرة المذكورة، دعوا إلى "شنّ حرب" على يريفان و"تحرير" ناغورني قره باخ، كما حاولوا اقتحام مبنى البرلمان. واعتقلت الشرطة عشرات منهم، إضافة إلى وزير الدفاع السابق رغيم غازييف، لاتهامه بـ"إشاعة فوضى وتضليل على مواقع التواصل الاجتماعي".
في أغسطس 2019، زار باشينيان ناغورني قره باخ. ودعا إلى إعادة توحيده مع أرمينيا، علماً أن الأخيرة لا تعترف رسمياً بحكومة الجيب، لئلا تنسف أي محاولة للتوصّل إلى تسوية سلمية مع أذربيجان.
سجال علييف وباشينيان
التسوية التي ينشدها الطرفان تبدو بعيدة المنال. هذا ما يوحي به جدل خاضه علييف وباشينيان، في ميونيخ في فبراير الماضي، إذ أعاد الأول النزاع إلى معاهدة "كوريكشاي" المُبرمة في عام 1805، والتي أخضعت قره باخ لسيطرة روسيا، معتبراً أن "70% من سكان يريفان كانوا أذريين في مطلع القرن العشرين".
أما باشينيان فعاد إلى القرن الأول قبل الميلاد، قائلاً: "خلال عهد الملك (الأرمني) تيغران العظيم، لم يكن هناك بلد اسمه أذربيجان، ولم تكن هناك سوى دولتين (في القوقاز): أرمينيا وجورجيا". واعتبر أن ناغورني قره باخ ضُمّ إلى أذربيجان نتيجة لتآمر "(فلاديمير) لينين و(جوزف) ستالين و(مصطفى كمال) أتاتورك".
في الوقت ذاته، ذكّر باشينيان بانخفاض ملحوظ في العنف بين الجانبين، بعد لقائه علييف في دوشنبه أواخر عام 2018، واتفاقهما على إقامة أول خط اتصال بين جيشَي بلديهما.
الباحث في معهد "كارنيغي" توماس دو فال، الذي أعدّ كتاباً عن الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، تحدث عن "أقدم نزاع لا يزال مستمراً في أوروبا، منذ عام 1988"، واعتبره "أول نزاع عرقي إقليمي" بين جمهوريتين سوفيتيتين خلال عهد الزعيم السابق ميخائيل غورباتشوف.
نهاية "شهر عسل"
دوفال رأى أن الاشتباكات "أنهت شهر عسل دام سنتين بين باشينيان وعلييف". ونقل عن الرئيس الأذري قوله إن "الحرب لم تنتهِ. مرحلتها الأولى انتهت فحسب"، علماً أن بلاده خسرت 15% من أراضيها في عام 1994.
ووصف دو فال أرمينيا وأذربيجان بأنهما "سجينا القوقاز"، مذكّراً بإقامة "ناغورني قره باخ بوصفه منطقة حكم ذاتي داخل أذربيجان، في عام 1923، وكانت تقطنه غالبية أرمنية تبلغ 94%". وأشار إلى "سيطرة أرمنية"، منذ نهاية الحرب عام 1994، على 7 مناطق أذرية حول الجيب، يعتبرها الأرمن مناطق عازلة تحمي مكتسباتهم.
الاندلاع المفاجئ للاشتباكات تزامن مع عنف لفظي، إذ هددت أذربيجان بقصف محطة ذرية في أرمينيا، إذا استهدفت الأخيرة مواقع استراتيجية على أراضيها. وأدرج باشينيان ذلك في إطار "جريمة ضد الإنسانية" و"تهديد بتنفيذ (عملية) إرهابية".
في الوقت ذاته، حذرت باكو من أن تؤثر الاشتباكات في واردات أوروبا من النفط والغاز، إذ تتم قرب منشآت للطاقة، بينها 3 خطوط لأنابيب نفط وغاز، تبدأ من أذربيجان وتمرّ عبر جورجيا وتركيا، وصولاً إلى البحر المتوسط وأوروبا، وتقلّل اعتماد القارة على إمدادات الغاز الروسية.
أنقرة تساند باكو
وسارعت أنقرة إلى إعلان استعدادها للتصدي لأي "هجوم" تشنّه يريفان على باكو، ولتزويد الأخيرة بأي أسلحة تطلبها. قد لا يكون ذلك غريباً، إذ "تحتلّ أذربيجان مكاناً فريداً في السياسة الخارجية لتركيا، ليس فقط في القوقاز والمنطقة الناطقة باللغة التركية بشكل عام، ولكن أيضاً خارجها"، كما كتب بايرام بالجي، مدير "المعهد الفرنسي لدراسات الأناضول" في إسطنبول.
وأضاف: "هذا ليس فقط نتيجة تقارب ثقافي ولغوي مشترك، ولكن أيضاً بسبب مصالح سياسية واستراتيجية قوية بين بلدين توصف غالباً علاقاتهما بأنهما دولتان وأمّة واحدة. كثيرون من الأتراك أصلهم أذري، والشعبان متطابقان عرقياً تقريباً. وهذا صحيح إلى حدّ محو اختلافات مذهبية، إذ إن تركيا تقطنها غالبية سنية، وأذربيجان شيعية بنسبة 65%. وعندما تتجّه أنقرة نحو تطبيع علاقاتها مع أرمينيا، تواجه مقاومة قوية من حليفها الأذري".
على أي حال فالتطبيع بين تركيا وأرمينيا مهمة معقدة، إذ ينوء تحت وطأة "مجزرة الأرمن" في فترة السلطنة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، والتي تعتبرها يريفان "إبادة جماعية"، فيما ترفض أنقرة هذا التوصيف.
يريفان حليفة لموسكو وطهران
في المقابل، لأرمينيا تحالف رسمي مع موسكو، وهي تستضيف قاعدة عسكرية روسية. لكن موسكو، التي زوّدتها بـ94% من وارداتها من السلاح، بينها مقاتلات من طراز "سوخوي-30"، تزوّد أذربيجان أيضاً بـ31% من وارداتها من السلاح، وفق تقرير أعدّه "معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام". وأضاف المعهد أن أذربيجان تستورد من إسرائيل 60% من وارداتها من السلاح، وتنفق على التسلّح أكثر من يريفان بثلاث مرات.
وعلى الرغم من أن رئيس الأركان الإيراني الجنرال محمد باقري زار باكو في عام 2019 والتقى علييف، في ثالث زيارة لمسؤولين إيرانيين بارزين إلى أذربيجان منذ ديسمبر 2018، شكّلت سابقة منذ استقلال الجمهورية السوفيتية السابقة عام 1991، تحظى يريفان بعلاقات استراتيجية مع طهران، ويعتمد اقتصادها على النفط الإيراني.
أولى الزيارات الخارجية لباشينيان، بعد انتخابه رئيساً لوزراء أرمينيا في عام 2018، كانت إلى طهران، حيث التقى نظيره الإيراني حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، إضافة إلى "المرشد الأعلى" علي خامنئي.
وأعلن رئيس الوزراء الأرميني استعداد بلاده لتصبح "دولة عبور للغاز الإيراني"، مؤكداً أن "الإرادة السياسية موجودة" في هذا الصدد، علماً أن ثمة خط أنابيب بين الجانبين سعته 2.3 مليار متر مكعب سنوياً.
لكن موقع "إيجا تايمز" ينقل عن ريتشارد غيراغوسيان، مدير "مركز الدراسات الإقليمية" في يريفان، قوله إن "لدى روسيا سيطرة قوية على قطاع الطاقة" في أرمينيا. وتابع: "غازبروم تمتلك وتشغّل شبكة توزيع الغاز في أرمينيا، وتمتلك نحو 80% من حصة السوق، وقد تضغط على يريفان بشأن الأسعار".
أذريو إيران
علاقات إيران وأذربيجان تبدو معقدة، على الرغم من أن الجانبين يتشاركان المذهب الشيعي. لكن إيران تخشى تأثيراً محتملاً لباكو في الأقلية الأذرية المقيمة على أراضيها، وتُقدّر نسبتها بـ16% من عدد السكان (85 مليوناً)، أي أكثر من عدد السكان في أذربيجان (10 ملايين).
ثمة شخصيات إيرانية بارزة من أصل أذري، بينها خامنئي ومستشاره للشؤون العسكرية الجنرال يحيى رحيم صفوي، القائد السابق لـ"الحرس الثوري"، إضافة إلى مير حسين موسوي، المرشح الخاسر في انتخابات الرئاسة المثيرة للجدل التي نُظمت في عام 2009.
معظم الأذريين في إيران يدينون بالمذهب الشيعي، لكنهم يشكون تمييزاً ثقافياً، ويُمنعون من تعليم أبنائهم بلغتهم في المدارس. في عامَي 2006 و2015، نظم الأذريون تظاهرات احتجاجاً على بثّ برنامج للأطفال على التلفزيون الإيراني، اعتبروا أنه تضمّن إهانة عرقية لهم. ونشر كاريكاتور "مسيء" في صحيفة تديرها الحكومة. كذلك قمعت السلطات "انتفاضة" أذرية في تبريز عام 1981.
دور الأذريين في إيران تقلّص كثيراً بعد تسلّم سلالة بهلوي الحكم في عام 1925. وبعدما احتلت القوات السوفيتية شمال إيران، خلال الحرب العالمية الثانية، دفعت موسكو في عام 1945، في اتجاه إعلان "جمهورية أذربيجان الديمقراطية" في أذربيجان الإيرانية. لكن تلك الجمهورية انهارت إثر انسحاب القوات السوفيتية في عام 1946، وتلا ذلك مقتل آلاف من الأذريين الإيرانيين.
وينتمي معظم أذريّي إيران إلى العرقية ذاتها لسكان أذربيجان المجاورة. وكانت معاهدة "تركمنجاي"، المُبرمة بين طهران وموسكو في عام 1828، منحت روسيا الجزء الشمالي من أذربيجان، وإيران الجزء الجنوبي.
وأوردت مجلة "فورين أفيرز" أن كتب التاريخ، في مدارس أرمينيا وأذربيجان، تتضمّن لغة "سامة" ضد "العدوّ التاريخي" المجاور. وعليه، فليس مستبعداً أن تنتهي الأزمة الحالية بهدنة.. في انتظار اندلاع أزمة أخرى.