المحكمة العليا الأميركية.. مهام قانونية برداء سياسي

العلم الأميركي أمام مقر المحكمة العليا في واشنطن وتبدو عبارة "عدالة متساوية بموجب القانون" - AFP
العلم الأميركي أمام مقر المحكمة العليا في واشنطن وتبدو عبارة "عدالة متساوية بموجب القانون" - AFP
دبي-رامي زين الدين

مع وفاة القاضية في المحكمة العليا الأميركية روث بادر غينسبورغ، بدأت معركة سياسية بين الحزبين الرئيسيين (الجمهوري والديمقراطي)، لملء الشاغر في المحكمة، إذ يسعى الرئيس الجمهوري دونالد ترمب إلى زيادة عدد المحافظين فيها، لا سيما أن البلاد على مشارف بدء السباق نحو البيت الأبيض في نوفمبر المقبل.

تأسيس المحكمة العليا

في نهاية القرن الثامن عشر كانت الولايات المتحدة لا تزال بلداً حديث العهد، يُناضل أباؤه المؤسسون لتوحيده بعد الاستقلال عن بريطانيا العظمى عام 1776.

وكان من جملة التحديات آنذاك تنظيم القوانين وتحديد صلاحية السلطات الثلاث في البلاد. وهكذا كان 24 سبتمبر عام 1789، يوم تأسيس المحكمة العليا الأميركية، بعد إقرارها من الكونغرس، استناداً إلى المادة الثالثة من الدستور.

وتشكلت المحكمة العليا الأولى في عهد جورج واشنطن أول رؤساء الولايات المتحدة والذي تولى بنفسه تعيين 6 قضاة برئاسة جون جاي، غير أن الانطلاقة الحقيقية للمحكمة كانت بعد ذلك بسنوات، إذ لم تتبلور صلاحياتها فور إنشائها، بل أسهمت بعض الأحداث التي عصفت بها في تربعها نهاية المطاف على عرش السلطة القضائية في الولايات المتحدة. 

قضية "ماربري ضد ماديسون"

بدأت أحداث القضية عام 1800 خلال الأسابيع التي أعقبت خسارة الرئيس جون آدامز في انتخابات الرئاسة الأميركية، فقبل ساعات من مغادرته البيت الأبيض بشكل نهائي، أمر بتعيين قضاة جدد مقربين منه لضمان وجود شخصيات تعمل على تعزيز السلطة المركزية التي يميل إليها، ولكنه نسي أن يسلمهم القرارات بشكل رسمي.

وسرعان ما ظهرت الثغرة القانونية، حيث امتنع جيمس ماديسون، وزير خارجية الرئيس الجديد، عن تسليم القضاة قرارات التعيين، ما دفعهم إلى الادعاء لدى المحكمة العليا، ووضع رئيسها جون مارشال في مأزق. فمن ناحية، لم يكن يرغب في أن تهتز هيبة المحكمة، ومن ناحية أخرى لا يريد معاداة الإدارة الجديدة التي قد لا تنصاع لأوامره.

نقش على جدار مبنى المحكمة العليا الأميركية يعود إلى 1803 خلال قضية ماربوري ضد ماديسون - Wikimedia
نقش على جدار مبنى المحكمة العليا الأميركية يعود إلى 1803 خلال قضية ماربوري ضد ماديسون - Wikimedia

وحال ذلك الموقف دون ممارسة القضاة لعملهم، وكان من بينهم وليام ماربوري الذي لم يكن رجل قانون، بل أحد أثرياء البنوك.

وعلى الرغم من أن الكونغرس منح المحكمة صلاحية تسليم القضاة قرارات تعيينهم، إلا أن الدستور لم يمنحها سلطة القيام بذلك، وفقاً لقانون القضاء عام 1789، وفي النهاية حسم مارشال المعركة القضائية بعد 3 سنوات لصالح عدم تسليم القضاة قرار التعيين. 

وشكلت قضية "ماربري ضد مايسون" بداية فكرة الرقابة على دستورية القوانين في الولايات المتحدة، كما يعود لها الفضل في ترسيخ قوة سلطة واستقلالية المحكمة العليا. ومنذ ذلك الوقت، عندما تواجه المحاكم الأميركية قضية يتعارض فيها قانون اتحادي مع الدستور، يتم تطبيق الدستور بدلاً من القانون.

الهيكل والسلطة

تتألف المحكمة العليا الأميركية من رئيس و8 قضاة، تعود صلاحية تعيينهم إلى الرئيس الأميركي، على أن يحظى بموافقة أغلبية أصوات مجلس الشيوخ. ويحتفظ القضاة بمناصبهم مدى الحياة، بحيث لا تنتهي خدمتهم إلا بالوفاة أو الاستقالة أو التقاعد أو الإدانة.

ورغم التشابه في بعض الصلاحيات بين محاكم الولايات الفيدرالية والمحكمة العليا الأميركية، إلا أن الأخيرة تنفرد بأن اختصاصها يتمثل في المراقبة والإشراف، نظراً إلى كونها محكمة استئناف، وتوصف بأنها "المفسر الأخير للقانون الدستوري". تتولى مراجعة إجراءات الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات على حد سواء، وتملك سلطة إلغاء أو إبطال أي قوانين وقرارات تخالف الحريات الدستورية الأساسية.

الجلسة الأولى

في عام 1790 انعقدت أولى جلسات المحكمة العليا الأميركية في مقرها آنذاك بمدينة نيويورك، عندما كانت العاصمة المؤقتة للولايات المتحدة. ورغم أن الجلسات غالباً ما كانت مزدحمة، إلا أن المحكمة لم يكن لديها أي عمل فعلي على الإطلاق خلال السنوات الثلاث الأولى.

القاضي في المحكمة العليا جورج ساذرلاند في بداية افتتاح المبنى الجديد بالعاصمة واشنطن عام 1937 - Supremecourt
القاضي في المحكمة العليا جورج ساذرلاند في بداية افتتاح المبنى الجديد بالعاصمة واشنطن عام 1937 - Supremecourt

ولم تحظَ المحكمة العليا بمبنى خاص بها حتى عام 1937، أي بعد 146 عاماً من إنشائها، وعند تدشين حجر الأساس قبل ذلك بعامين، قال القاضي تشارلز إيفانز هيوز: "الجمهورية باقية وهذا رمز إيمانها".

أبرز القضايا والمحطات

طوال 220 عاماً، لعبت المحكمة العليا دوراً بارزاً في الكثير من القضايا المثيرة للجدل، ولعل أبرزها إعلان عدم دستورية قانون الحقوق المدنية الذي صدر عام 1875، ورفض منح الجنسية للأميركيين من أصل إفريقي عام 1857، وتأييد قوانين الفصل العنصري عام 1896، وكذلك الأمر بالنسبة لمعسكرات الاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية.

كما شكلت بعض قرارات المحكمة العليا بداية تاريخ جديد في الولايات المتحدة، على غرار الإقرار بحق المرأة في الإجهاض عام 1973، ومنح المثليين الحق بالزواج عام 2015.

وخلال قضية "ووتر غيت" عام 1974، وجدت المحكمة أن الرئيس الأميركي المدان ريتشارد نيكسون لا يمكنه استخدام سلطته لحجب الأدلة، وفي فترة "الحرب على الإرهاب" بعد أحداث 11 سبتمبر، اعتبرت المحكمة أن الرئيس جورج بوش الابن تجاوز صلاحياته في إنشاء محاكم عسكرية استثنائية لمحاكمة معتقلي غوانتانامو.

عام 2015 قضت المحكمة العليا لصالح فتاة مسلمة في أوكلاهوما، وذلك بعد دعوى اشتكت فيها من التمييز، على خلفية حرمانها من وظيفتها بسبب حجابها، وفي يناير من العام الجاري رفضت المحكمة طعناً قدمه السودان لتجنب دفع تعويضات لضحايا تفجيرات نيروبي ودار السلام عام 1998.

القضاة التسعة خلال التقاط صورة جماعية في مقر المحكمة العليا الأميركية بواشنطن - 2018  - REUTERS
القضاة التسعة خلال التقاط صورة جماعية في مقر المحكمة العليا الأميركية بواشنطن - 2018 - REUTERS

تجاذبات سياسية

شهدت المحكمة العليا الأميركية خلال تاريخها العديد من التغييرات، ولطالما كانت مثار جدل في المشهد السياسي الأميركي، في ضوء تنافس الحزبين الرئيسيين كما يجري الآن على شغل مقاعدها.

في عام 2005 عندما توفي رئيس المحكمة العليا ويليام رينكويست، بقي المنصب شاغراً بعض الوقت، ولكن في 2016 عندما توفي القاضي أنتونين سكاليا فجأة في فبراير، منعت الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ الرئيس الديمقراطي باراك أوباما من تعيين قاض جديد، واستمرت المحكمة العليا لمدة 18 شهراً بثمانية من أعضائها فقط، قبل أن يملأ ترمب المنصب بداية 2017 عبر الدفع بأحد القضاة المحافظين.

ويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة واشنطن، الدكتور نبيل ميخائيل، في تصريح لـ"الشرق"، إن نظام المحكمة العليا بات يمثل التوازن بين السلطات الثلاث في الولايات المتحدة، التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وتابع ميخائيل أن "التوازن ما بين أعضاء المحكمة العليا يبدو في التوجهات السياسية والاعتقادات الإيديولوجية والمدارس التشريعية، وهو ما يفسّر الجدل الذي يدور دائماً بين أروقتها"، خصوصاً أن شغور المنصب يشكل فرصة للرئيس لقلب الأرجحية في المحكمة المؤلفة من 9 أعضاء نحو غالبية محافظة بواقع 6-3. 

وهناك بعض التخوف في الشارع الديمقراطي من أن تعيين ترمب لقاض جديد وحصول المحافظين على حصة الأسد في المحكمة يمكن أن يعزز حظوظ اعتراضه على نتائج الانتخابات في حال خسرها، نظراً إلى أن إحدى مهام المحكمة المصادقة على نتائج الانتخابات، على غرار المعركة الانتخابية عام 2000، بعد الخلاف الذي جرى حول المرشح الفائز، وكان قرارها لصالح جورج بوش الابن الذي أصبح الرئيس الـ43 للولايات المتحدة.

كيف تعمل بغياب أحد أعضائها؟

لا تنظر المحكمة العليا الأميركية في قضية ما إلا بعد استنفاد إجراءات التقاضي  كافة  في مختلف المحاكم، وأحياناً تبت في دستورية بعض القوانين التي يُثار الجدل حولها، على غرار ما حدث عام 1954، عندما أبطلت العمل بقانون الفصل العنصري، وفقاً لقول الدكتور نبيل ميخائيل.

مبنى المحكمة العليا للولايات المتحدة في العاصمة واشنطن والذي تم إنشاؤه عام 1937 - REUTERS
مبنى المحكمة العليا للولايات المتحدة في العاصمة واشنطن تم إنشاؤه عام 1937 - REUTERS

بعد وفاة القاضية روث بادر غينسبورغ، انتقلت مسؤولياتها إلى أحد زملائها المتبقين دون أن تتعطل المهام.

وفي حال لم تستطع المحكمة العليا البت في قضايا معينة نتيجة تعادل أصوات أعضائها، يؤجل التصويت حتى تعيين العضو التاسع.