أعلن وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي سلشي بيكيلي، اليوم الأربعاء، بدء إثيوبيا ملء خزان سد النهضة بقرار أحادي، من دون اتفاق مع مصر والسودان، لكنه عاد وتراجع في وقت لاحق، معتذراً عما سماه "سوء التفسير" لتصريحاته السابقة، فيما طلبت القاهرة توضيحات رسمية من أديس أبابا.
وقال الوزير سيليشي بيكيلي في تصريحات بثها التلفزيون الرسمي إن "بناء السد وملء الخزان يسيران جنباً إلى جنب".
ولم تحدد تصريحات بيكيلي ما إذا كانت إثيوبيا أغلقت بالفعل بوابات السد.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية دينا مفتي "ما وصلني من تصريحه هو أنه لم يتم إغلاق البوابات".
وكتب بيكيلي في وقت سابق من اليوم على "تويتر" قائلاً إن "تدفق (المياه) صوب الخزان جاء بسبب الأمطار الغزيرة والجريان فاق التدفق الخارجي ليحدث تخزين طبيعي...".
ونقلت وسائل الإعلام الرسمية عن الوزير قوله "إن تعبئة مياه سد النهضة تتم بما يتماشى مع عملية بناء السد الطبيعية"، لكنه لم يذكر ما إذا كانت إثيوبيا اتخذت خطوات لتجميع المياه في الخزان الذي تبلغ طاقته 74 مليار متر مكعب.
وعدّلت الصفحة الرسمية لهيئة البث الإثيوبية على فيسبوك التصريحات المنسوبة إلى وزير الريّ 4 مرات.
وفشلت أمس، الثلاثاء، محادثات بين إثيوبيا ومصر والسودان في التوصل لاتفاق بشأن تنظيم تدفق المياه من السد.
ويمثل السد حجر الأساس الذي تبني عليه إثيوبيا طموحها في أن تصبح أكبر دولة مصدرة للكهرباء في إفريقيا. لكنه، في الوقت ذاته، أجج القلق في القاهرة من تراجع إمدادات المياه الشحيحة أصلاً من النيل، التي يعتمد عليها أكثر من 100 مليون نسمة بشكل شبه كامل.
مصر تستوضح
وفي أول تعليق رسمي، طلب وزارة الخارجية المصرية إيضاحاً رسمياً عاجلاً من الحكومة الإثيوبية بشأن مدى صحة قرار ملء سد النهضة. وأفاد مصدر رفيع في وزارة الخارجية المصرية لـ"الشرق"، بأن وزير الخارجية المصري سامح شكري عقد اجتماعاً مع نوابه ومساعديه، على إثر الإعلان الإثيوبي.
وقال المتحدث باسم وزارة الموارد المائية، محمد السباعي، إن القاهرة ستعلن موقفاً إزاء ما أعلنه الجانب الإثيوبي في شأن ملء سد النهضة، مؤكداً في تصريحات خاصة لـ"الشرق"، أن رداً سياسياً سيصدر ليوضح موقف القيادة المصرية من هذا الإعلان.
وأضاف السباعي أن القاهرة أبدت في المفاوضات الأخيرة رغبتها في حلحلة الأزمة بشكل يحفظ حقوق الدول الثلاث، مشيراً إلى رفع تقرير كامل إلى الاتحاد الإفريقي لتقييم جولات المفاوضات.
السودان يؤكد تراجع منسوب المياه
وجاء الإعلان الإثيوبي بعد ساعات من صور التقطت عبر الأقمار الاصطناعية تظهر تجمع كميات كبيرة من المياه في بحيرة سد النهضة، من دون رد رسمي من الجانب الإثيوبي، حتى إعلان اليوم الذي أكد الخطوة.
وفي السودان، أكد وزير الري والموارد المائية، ياسر عباس، أن قياس تدفق المياه في محطة الديم الحدودية مع إثيوبيا أوضح وجود تراجع في مستويات المياه بما يعادل 90 مليون متر مكعب يومياً، وهو أمر "يؤكد إغلاق بوابات سد النهضة".
وكانت الوزارة طلبت من أجهزتها المختصة قياس مناسيب النيل الأزرق، وذلك بهدف التحري عن صحة المعلومات والصور الملتقطة من قبل الأقمار الاصطناعية، والتي تناقلتها وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وتشير إلى بدء إثيوبيا في ملء سد النهضة بالمياه قبل التوصل لاتفاق حول الملء الأول والتشغيل. وشددت وزارة الري السودانية على رفض أية إجراءات أحادية الجانب من أي طرف.
تصعيد سلبي
وقال وزير الري المصري الأسبق محمد نصر علام، لـ"الشرق" إنه فوجئ بالإعلان الإثيوبي عن بدء ملء سد النهضة، معتبراً أن هذه الخطوة تقطع أي فكرة للتواصل الذي كان مقرراً أن يتم بين القيادات السياسية بين مصر والسودان وإثيوبيا.
وأضاف علام، أن إثيوبيا بهذا القرار "تنتهك توصيات مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي، واتفاق إعلان المبادئ، وجميعها تدعو إلى عدم اتخاذ قرارات أحادية في شأن السد قد تضر أي دولة من الدول الثلاث".
وأشار علام إلى أن إثيوبيا "يمكنها ملء السد في أي شهر من شهور الفيضان، لكن إصرارها على ملئه في هذا التوقيت، يوضح أنها تستغل الأزمة السياسية في المنطقة لتنفيذ ما تريد"، مشيراً إلى أن رد القيادة السياسية المصرية سيكون أكثر وضوحاً في الساعات المقبلة.
من جانبه، قال عضو لجنة الشؤون الإفريقية بمجلس النواب المصري السيد فليفل، أن الخطوة الإثيوبية أحادية الجانب والمتعلقة بملء سد النهضة تشير بما لا يدع أي مجال للشك إلى خرق أديس أبابا لكافة المواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي، مؤكداً أن إثيوبيا بهذه الخطوة تعلن إنهاء المفاوضات الأخيرة وفشلها .
وأضاف فليفل أن الإجراء الإثيوبي المنفرد بملء خزان السد معناه جفاف نهر النيل وتحويله إلى مصرف يستوعب ما فاض عن حاجة إثيوبيا، وهو سلوك لن تقبل به القاهرة ولن تسمح به من الأساس.
محاولة أخيرة
وكانت جولة المفاوضات الأخيرة بين الدول الثلاثة، والتي استمرت قرابة أسبوعين، انتهت بالفشل، بعد 11 جلسة عبر الإنترنت، في محاولة لكسر الجمود حول تفاصيل ملء السد وتشغيله.
وأعلنت مصر أمس، الثلاثاء، تعثر المفاوضات، وألمح السودان من جانبه إلى مشروع مسودة اتفاق يجمع وجهات النظر الثلاث، فيما قالت وزارة الخارجية الإثيوبية إنها مستعدة لإظهار المرونة مع استمرار المحادثات، وذلك قبل 24 ساعة من إعلان أديس أبابا المفاجئ البدء في ملء السد قبل التوصل إلى اتفاق أو حسم المفاوضات الجارية برعاية الاتحاد الإفريقي.
واتهمت مصر إثيوبيا في عدة مناسبات باتخاذ قرارات أحادية في الأزمة، وانتهاك إعلان المبادئ الموقع في عام 2015 بين الدول الثلاثة، وتجاهل توصيات مجلس الأمن والاتحاد الإفريقي، والتي تدعو في المجمل إلى عدم اتخاذ قرارات أحادية بشأن السد تضر بأي من الدول الثلاث.
وانسحبت إثيوبيا في فبراير الماضي من اجتماع مع ممثلي مصر والسودان بوساطة أميركية، في المراحل الأخيرة من المفاوضات، وقبيل توقيع اتفاق حول النقاط الخلافية، ما دفع مصر للجوء إلى مجلس الأمن في نهاية يونيو الماضي، احتجاجاً على ما اعتبرته "تهديد أمنها المائي".
خطوة متوقعة
وفي توضيح للخطوة الإثيوبية، قال الصحافي نور طاهر لـ"الشرق"، إن "هذه الخطوة كانت متوقعة، فعملية التعبئة الأولى ليست لها علاقة بالمفاوضات الجارية، بل تستند فيها إثيوبيا إلى اتفاق إعلان المبادئ"، الذي تم توقيعه في عام 2015 بين الأطراف الثلاثة، موضحاً أن البند الخامس من هذا الاتفاق المكوّن من 10 بنود، "ينصّ على تعبة جزء من بناء السد".
ولفت طاهر إلى أن اتفاق إعلان المبادئ "يتضمن كل ما يتعلق بالسدّ، لذلك لا حاجة لأي اتفاقات جديدة، بل ثمة حاجة لبناء الثقة بين الأطراف الثلاثة وإبداء حُسن النية"، مشيراً إلى أن "إثيوبيا أبدت مرونة وأرجأت ملء السدّ كبادرة حسن نية ولإعطاء فرصة للمفاوضات والرعاية الإفريقية، رغم قولها إن هناك مطالب مصرية تعجيزية بحصص وتقاسم المياه".
وأكد أن "إثيوبيا لا تستطيع تأخير تعبئة السدّ لأن التوقيت الحالي هو موسم الأمطار، لمناسب لازدياد منسوب المياه".
وطمأن إلى أن التعبئة الأولى لا تشكل أي ضرر لمصر، إذ تشكل فقط 4.9 مليار متر مكعّب، مشيراً إلى أن "إثيوبيا تراعي احتياجات دول المصبّ ولا تريد إلحاق الضرر بها".
واستبعد أي ردّ سلبي من المجتمع الدولي "لأنه حق مشروع لإثيوبيا تستند فيه إلى الاتفاقية المذكورة"، لكنه توقع أن تلجأ مصر إلى التدويل مجدداً، معتبراً أن ليس هذا الحل بل يكمن في "تقبّل مصر ما وقّعت عليه"، أي اتفاق إعلان المبادئ.
تعاون مصري
ومن القاهرة، ردّ مدير المركز العربي للبحوث والدراسات هاني سليمان لـ"الشرق"، بالقول إن "توقيع مصر على اتفاق المبادئ يعبّر عن استعدادها للتعاون مع شركائها في حوض النيل، وكان له سياقه التاريخي وظروفه".
وذكّر بأن "إثيوبيا لم تقدم أي تنازلات خلال السنوات السابقة"، لافتاً إلى أن مصر كانت متمسكة بمسارات تعاونية لمحاولة البناء على النقاط المشتركة والإيجابية، لذا استمرت على المفاوضات رغم مراوغة إثيوبيا.
وأضاف: "لم تكن هناك رغبة لدى مصر بتصعيد الموقف، لأنها كانت تأمل بتحقيق توافق، غير أن إثيوبيا أضاعت فرصاً عدة لتحقيقه، مثلما حصل في واشنطن في فبراير الماضي" عندما تغيّبت أديس أبابا عن المشاركة في اجتماع لتوقيع الاتفاق.
باب التفاهم لم يغلق
ومن السودان، قال رئيس تحرير صحيفة "التيار" عثمان ميرغني لـ"الشرق"، أن "إثيوبيا بدأت الخطوات الأولى لكنها لم تغلق الباب بصورة كاملة أمام التفاهم خلال الفترة المقبلة حول اتفاق شامل يساعد الدول الثلاثة في أن تتبنى علاقات تتجاوز استراتيجية موضوع سد النهضة".
وأعرب عن اعتقاده بأن "الجانب السوداني سيحاول أن يؤدي دوراً مهدئاً للتوتر وأن يستوعب كلا الطرفين كي لا يتحول الأمر إلى أزمة سياسية بين الدول الثلاثة، أو ما فوق ذلك، إذا استمرت المطالبة المصرية لمجلس الأمن بالنظر في هذه القضية".
فرض أمر واقع
أما أستاذ العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي في "جامعة باريس" الدكتور يونس بلفلاح، فاعتبر في حديث لـ"الشرق" أن "الجانب المصري راهن على فكرة تأجيل المشروع من خلال اتفاق إعلان المبادئ، لكن الاستراتيجية الإثيوبية لعبت على فكرة المظلومية". وقال: "في الوقت ذاته، تحاول إثيوبيا فرض الأمر الواقع" عبر ملء السد".
لكنه رأى أن "فرصة الحل السياسي لا تزال قائمة"، مشدداً على أن "الحل السياسي، أي إقامة شراكة بين الدول الثلاثة، هي "الطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق"، باعتبار أن "المسألة من الصعب تدويلها في الوقت الحالي" نظراً إلى اعتبار المجتمع الدولي أن المسألة إقليمية وتتفوّق مسائل دولية عليها، وفق تحليله.