عام على انتفاضة السودان.. تركة البشير تثقل كاهل "الانتقال"

الرئيس السوداني السابق عمر البشير في إحدى جلسات محاكمته - AFP
الرئيس السوداني السابق عمر البشير في إحدى جلسات محاكمته - AFP
الخرطوم سالي عثمان

على الرغم من مرور عام على سقوط الرئيس السوداني عمر البشير ونظامه، ثمة تحديات كثيرة لازالت تعترض طريق البلاد وتهدد مستقبلها كدولة مدنية ديموقراطية.

وتتصدر الأزمة الاقتصادية التي لا تزال تضرب عصب معيشة المواطن التحديات التي تواجه السودان. وألقت العزلة الدولية للنظام المصرفي، إلى جانب ما يعانيه الاقتصاد من شح في النقد الأجنبي، وانهيار قيمة العملة المحلية، بظلالها على الوضع، لتزيد تعقيد المشكلات السياسية والخدمية.

إلى ذلك،يمثل إطفاء نيران الحروب التي اشتعلت في أجزاء واسعة من البلاد إبان حكم النظام السابق، تحدياً كبيراً دفع بشركاء الحكم في السودان لاعتبار السلام بمثابة الحجر الأساس لمرحلة مابعد البشير.  

ومثّل تحقيق السلام الهدف الأول للوثيقة الدستورية الموقعة بين المجلس العسكري و ائتلاف "قوى الحرية والتغيير" في 18 أغسطس الماضي.

متظاهرون سودانيون يلوحون بعلمهم الوطني وهم يحتفلون في الخرطوم في 4 أغسطس ، حكام الجيش السوداني وقادة الاحتجاج بإعلان دستوري حصل عليه بشق الأنفس يمهد الطريق للانتقال من 18 أغسطس إلى الحكم المدني بعد أكثر من سبعة أشهر من مسيرات الشوارع القاتلة . - يبني الاتفاق الذي تم توقيعه في حفل بالخرطوم على اتفاق تاريخي لتقاسم السلطة في 17 يوليو وينص على هيئة حكم مدنية عسكرية مشتركة للإشراف على تشكيل حكومة مدنية انتقالية وبرلمان للحكم لفترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات. فترة. (تصوير إبراهيم حامد / وكالة الصحافة الفرنسية), AFP
احتفالات شعبية بتوقيع الوثيقة الدستورية في الخرطوم AFP

وعلى الرغم من تصدّره أولويات السلطة الجديدة في السودان، إلا أن مفاوضات السلام التي تجرى في جنوب السودان، لم تبارح مكانها وسط العديد من العراقيل التي عطلت مسار المحادثات وتسببت في إطالة أمد الخارطة الزمنية الخاصة بها  أكثر من مرة.

الحركات المسلحة التي كانت تقاتل نظام الرئيس السابق عمر البشير، انقسمت إزاء الوصول إلى اتفاق سلام شامل في البلاد مع الحكومة الجديدة. وبينما ترفض "حركة تحرير السودان" بقيادة عبد الواحد محمد نور الجلوس إلى طاولة الحوار، تصر "الحركة الشعبية - شمال"  التي يرأسها عبد العزيز الحلو على رفض أي تفاوض مع الحكومة الانتقالية إلا بعد القبول بعلمانية الدولة.

واقتصر التقدم المحرز في المحادثات على بعض أطراف "الجبهة الثورية السودانية" التي أحدثت اختراقات وتوصلت إلى تفاهمات ملزمة في ما بات يعرف بمسارات الشمال والشرق والوسط.

توطيد الثقة

العراقيل الكثيرة التي واجهت الحكام الجدد للسودان، عززت الثقة بينهم وجعلتها العنوان الأبرز للعلاقات بين شركاء حكم ما بعد البشير، بحسب ما يقول عضو "مجلس السيادة السوداني" الفريق أول شمس الدين كباشي، الذي أكد لـ"الشرق" أن الفترة الماضية "أسهمت في توطيد دعائم الثقة بين الشركاء في البلاد".

واستعرض كباشي ما يقارب عام من الشراكة بين العسكر والمدنيين في حكم السودان، وقال: "على الرغم من كل الكبوات التي اعترضت مسار مفاوضات تحديد هياكل السلطة والتخصصات، إلا أن تلك المفاوضات تُوّجت بوثيقة دستورية حققت الحكم المدني المنشود، الذي كان من أول مطالب الثورة السودانية".

 

يومض زعيم الاحتجاج السوداني أحمد ربيع (الثاني إلى اليمين) بادرة النصر إلى جانب اللواء عبد الفتاح البرهان (وسط) ، رئيس المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في السودان ، خلال احتفال حيث وقعوا على
البرهان بعد توقيع الوثيقة الدستورية في السودان AFP

وحث كباشي على "التحلي بالصبر والحكمة للتوصل إلى سلام شامل في البلاد"، مشيراً إلى أن "عملية التفاوض ستؤتي أُكُلها قريباً".

وأوضح أن "السلام المنشود يجب أن يكون مستداماً، ليضمن نجاح الفترة الانتقالية ويمهد لعهد ديموقراطي مرتقب".  وأكد "حدوث اختراقات كبيرة في مسارات التفاوض الخمس"، واصفاً ما تبقى بـ  "القضايا البسيطة المتعلقة بالصياغة القانونية النهائية للاتفاق".

وفي ما يتعلق بالمفاوضات المتوقفة حالياً مع "الحركة الشعبية - شمال" بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة "جيش تحرير السودان" جناحي عبد الواحد محمد نور، ومني أركو مناوي، أكد كباشي أن "الفرصة متاحة لكل من يرغب في السلام من دون قيد أو شرط".

وشدد عضو وفد الحكومة السودانية إلى محادثات جوبا، على أن "طاولة المفاوضات هي السبيل الوحيد للوصول إلى سلام شامل ودائم يحقق مطالب الجميع".

تركة ثقيلة

العام الأول بعد البشير، شهد الكثير من التحولات في الخرطوم، فالتغيير السياسي الذي يعتبر الأكبر  في تاريخ السودان الحديث-وفقاً لمراقبين- أنهى 30 عاماً من الحكم الشمولي في البلاد.

إلا أن إزالة البشير لم تكن كافية لتصفية تركته التي أثقلت البلاد بإسقاطات تراكمت على كاهلها، أبرزها العقوبات الاقتصادية المفروضة من قبل الإدارة الأميركية منذ 1997. وهي العقوبات التي أرهقت كاهل الاقتصاد الوطني، وتسببت بعزلة دولية، وأحكمت الخناق على موازنات نظام البشير الاقتصادية عاماً تلو آخر، إلى أن أشعلت الأزمات المتتالية للخبز والوقود والخدمات العامة فتيل الثورة السودانية في ديسمبر 2018.

 وبعد مرور عام على سقوط البشير و8 أشهر من تولي عبد الله حمدوك رئاسة الوزراء وتشكيل حقائب الجهاز التنفيذي الوزارية، لا تزال هذه الأزمات تراوح مكانها.

رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك (وسط) يضيء علامة النصر خلال احتفال بمناسبة الذكرى الأولى للانتفاضة التي أطاحت عمر البشير ، في الخرطوم ، 25 ديسمبر ، 2019. (تصوير أشرف شاذلي / وكالة الصحافة الفرنسية), AFP
رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ووزرائه في احتفالات بمرور عام على الانتفاضة AFP

وعزا القيادي في "حزب المؤتمر السوداني" و"ائتلاف قوى التغيير" خالد عمر يوسف، استمرار الأزمات الاقتصادية إلى "بطء حكومة حمدوك في وضع وتنفيذ الخطط الإسعافية التي تسهم في رفع العبء عن المواطن".

وأشار إلى "توفر موارد يمكن أن توجه لدعم المواطن مباشرة، لاسيما مع الأوضاع الصحية الحالية في البلاد".

وأكد يوسف أن "رفع العقوبات الاقتصادية عن السودان، سيسهم بشكل فاعل وينعكس بوضوح على المشهد الاقتصادي"، مثنياً على "جهود حكومة حمدوك ومساعيها في هذا المنحى".

وقال إن "الحكومة قامت بجهد كبير في هذا الأمر، حيث تمت تسوية ودفع تعويضات ذوي المتضررين جراء انفجار المدمرة الحربية الأميركية (يو إس إس كول)، ما يدل على اتخاذها مسارات غير معهودة في توفير احتياجاتها الطارئة".

وطالب يوسف شركاء الحكم الانتقالي في السودان بـ"إجراء مراجعات كثيرة لما لم يتحقق من أهداف الثورة السودانية بعد عام على انتصارها".

 

عشرات السيارات تنتظر في محطة بنزين وسط نقص في الوقود في العاصمة الخرطوم في 6 يونيو 2019. - اعترفت السلطات السودانية بأن العشرات قتلوا في حملة على المتظاهرين لكنها نفت مزاعم الأطباء بأن عدد القتلى تجاوز 100 ، حيث وعلق الاتحاد الأفريقي الخرطوم يوم الخميس مطالبا بحكم مدني لحل الأزمة. (تصوير - / أ ف ب), AFP
زحمة سيارات بسبب أزمة الوقود أمام محطة بترول في الخرطوم   AFP

وقال إن "الثورة السودانية حددت أهدافها بوضوح، ولكن للأسف الكثير لم ينجز بعد، فهناك ملفات لا تزال مفتوحة حتى الآن، مثل التحقيق في فض اعتصام السادس من أبريل الماضي، وملف السلام، إلى جانب الوضع الاقتصادي".

 ولفت يوسف إلى أن "المشهد لا يخلو من تحديات تواجه فترة الحكم الانتقالي وتبطئ وتيرة التغيير، أهمها الممارسات الظلامية لفلول النظام السابق، التي تسهم في تعميق الأزمات القائمة".

ورأى أن "كل هذه الأزمات في الأساس، من مخلفات نظام البشير، لكن الوضع يفرض علينا إيجاد حلول من خارج الصندوق من قبل الجهاز التنفيذي، وتفعيل أكبر وأشمل لقوانين تفكيك النظام السابق".

سودان البشير

سقوط نظام البشير جاء بعد 3 عقود شكّلت مدّة حكمه للسودان، الذي بدأ في 30 يونيو 1989، بانقلاب عسكري  على حكومة رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي، الذي جاءت به آخر عملية انتخابية في البلاد في عام 1986.

البشير، الذي وقفت "الحركة الإسلامية" بزعامة الراحل حسن الترابي وراء انقلابه، عطّل العمل بالدستور وأوقف البرلمان وزج برموز العمل السياسي في السجن معلناً حال الطوارئ في البلاد.

وبدأت اتجاهات حكم الرئيس السابق تتكشف بعدما شرع بمعاونة الزعيم الإسلامي الراحل حسن الترابي في "أسلمة" المجتمع، وتمكين أعضاء تنظيم فيه المؤسسات الحكومية عبر حملة “الصالح العام” التي فقد على إثرها الآلاف وظائفهم في الخدمة المدنية لعدم انتمائهم للتيار الإسلامي.

 

أفريقيا - السودان - بشير, AFP
البشير بعد أيام من استيلائه على السلطة AFP

 وارتفعت وتيرة الحرب بجنوب السودان في عهد البشير الذي قام بتجييش الآلاف للمشاركة فيها، ما أفضى في نهاية الأمر إلى مقتل مليوني شخص من الجانبين وفقاً لإحصاءات غير رسمية.

السياسة الخارجية

ولعب البشير في سياساته الخارجية على تناقضات المنطقة والمحاور العربية والإقليمية، إذ ساند الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في احتلاله للكويت، وسرعان ما انتقل إلى تقارب ملحوظ مع إيران، ما جعل علاقاته تتجه للفتور مع عدد من دول الخليج العربية في كثير من الأوقات.

وفي عام 2005، وقعت حكومة البشير اتفاقاً (بدعم دولي) لتقاسم السلطة والثروة مع "الحركة الشعبية" بقيادة الراحل جون قرنق في نيفاشا (كينيا)، لتمهد الطريق في ما بعد لانفصال الجنوب في عام 2011، وترسيخ هيمنة البشير وحزبه على البلاد.

حكم البشير الذي استمر زهاء 30 عاماً، تصفه منظمات حقوقية بأنه "من أشد وأقسى" أشكال الحكم التي عايشها الشعب السوداني.

وواجه نظام الرئيس السابق اتهامات بتعذيب المعتقلين السياسيي، كما اتهم البشير برفض أي حوار سياسي يفضي إلى إجراء تعديلات على القوانين التي كان يحكم بموجبها، مثل قانون الأمن الوطني، الذي شكل غطاءً للمؤسسة الأمنية للبطش بالمعارضين.

وعقد البشير تحالفاً اقتصادياً سياسياً مع الصين، التي كانت من أكبر الدول التي استفادت من النفط السوداني الذي بدأ استخراجه  في عام 1999. ولكن سرعان ما انسحبت بكين من المشهد بعد انفصال جنوب السودان، وذهاب 70 في المئة من  حقول النفط إلى الدولة الجديدة، بالإضافة إلى تفشي الفساد والمحسوبية، التي تسببت في ترهل نظم الخدمة المدنية و جعلت مناخ الاستثمار طارداً.

تفجّر الأوضاع

وفي عام 2013، ومع اشتداد قبضة البشير الداخلية، تفجرت الأوضاع في الشارع السوداني أثناء الموجة الأولى لما يسمى "الربيع العربي"، وقابل البشير الاحتجاجات التي خرجت بسبب تردي الوضع الاقتصادي بقوة وعنف، ما أسفر عن مقتل 248 شخصاً، بحسب الإحصاءات الرسمية.

 وبعد أن هدأت الأوضاع، قام البشير بإجراء تعديلات على الطاقم الوزاري للسيطرة على مقاليد الأمور وإحكام قبضته على الوضع الداخلي.

وبعد 5 أعوام، قامت النقابات المهنية السرية بتكوين "تجمع المهنيين السودانيين"، المهندس الأول لـ"تحالف الحرية والتغيير" الذي يضم قوى سياسية ومنظمات مجتمع مدني تشترك جميعها مع الجيش في حكم السودان حالياً.

ومع صدور أول بيان ممهور بتوقيع "تجمع المهنيين"، في يناير 2019، يدعو فيه للخروج إلى الشارع ضد حكم البشير والحركة الإسلامية، استجابت فئات كثيرة للنداء وخرجت منددة بتردي الوضع الاقتصادي والفساد.

ساعة الحسم

 وقوبلت الاحتجاجات بعنف مفرط من قبل نظام البشير،  واشتدت تلك الاحتجاجات بصورة كثيفة في جميع ولايات البلاد، حتى 6 أبريل 2019، حين تجمعت أعداد كبيرة من المواطنين واعتصمت حول مباني قيادة القوات المسلحة السودانية وطالبتها بالانحياز إلى خيار الشعب.

وفي العاشر من الشهر ذاته، انحازت لجنة البشير الأمنية إلى المحتجين، وألقي القبض على البشير وعدد من قيادات نظامه. وطويت صفحة حكمه التي دامت 3 عقود.

وبعد تسلم القوات المسلحة زمام الأمور في السودان، دخلت قيادات المجلس العسكري في مفاوضات مع "قوى الحرية والتغيير" التي قادت الحراك الشعبي، ليتم على إثر ذلك تشكيل حكومة الفترة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك.