في يناير من عام 2001، وبعد أسابيع قليلة من دخوله البيت الأبيض، أصدر الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، قراراً بإنشاء مكتب خاص داخل إدارته مخصص لـ"المبادرات المستندة إلى الإيمان" ترجمة لشعار "المحافظة المتعاطفة".
بدا القرار آنذاك كإشارة ودية نحو القاعدة المسيحية المحافظة التي ساعدته على الفوز، لكنه في نظر بعض المحافظين الكلاسيكيين مثّل أول انزلاق نحو ما وصفوه لاحقاً بـ"المحافظة ذات الحكومة الكبيرة" إذ لا يليق بالدولة، برأيهم، أن تتدخل حتى في تمويل قيم يُفترض أن تبقى فردية وكنَسية.
كان هذا الحدث صغيراً في حجمه، لكنه كبير في دلالاته، فقد كشف مبكراً عن صراع خفي داخل الحركة المحافظة، بين من أرادوا إعادة إنتاج الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريجان، بلغة العصر، ومن رأوا في بوش الابن مشروعاً مختلفاً، يملك لهجة دينية، لكنه لا يتقن الاقتصاد الحر.
بوش الابن "المحافظ المتعاطف"
في عهد جورج بوش الابن (2001–2009)، عاد المحافظون إلى الحكم ضمن سياق مختلف عن مرحلة ريجان، حيث قدّم بوش نفسه كـ"محافظ متعاطف"، غير أن سنوات حكمه لم تسلم من اتهامات الشك بـ"خيانة" المبادئ الريجانية (نسبة إلى رونالد ريجان).
داخلياً، وحّد عهد بوش المحافظين في البداية حول شعارات الوطنية والأمن بعد أحداث 11 سبتمبر، لكن زيادة الإنفاق والأزمة المالية عام 2008 أضعفت مكانته لدى اليمين.
ومع نهاية ولايته، كان كثير من المحافظين يشعرون بخيبة أمل، إذ دفعت الأزمة الاقتصادية بوش إلى إقرار خطط إنقاذ مالي وحوافز حكومية، وهي إجراءات اعتُبرت خيانة لمبادئ السوق الحر، في وقت بدأ فيه التعب من الحروب يترسخ في المجتمع.
وزاد الشرخ مع محاولة إصلاح الهجرة الشاملة في 2007، التي سعت للجمع بين تشديد الرقابة على الحدود ومنح مسار قانوني لملايين المهاجرين غير النظاميين، لكنها قوبلت بتمرّد من القاعدة المحافظة ضد البيت الأبيض، واعتُبرت "عفواً مقنّعاً" أي العفو الرئاسي، يقوّض سيادة القانون.
كما حقق اليمين بعض النجاحات البارزة في عهد بوش الابن، مثل تخفيضات الضرائب المتكررة وتعيين قضاة محافظين في المحكمة العليا وهو ما مهد لصدور حكم بارز عام 2008 يؤكد للمرة الأولى حق الأفراد في حيازة السلاح، لكن كثيراً من نشطاء المحافظين اتهموا بوش بخيانة القضية المحافظة وبأنه أدّى إلى انقسام الحركة.
ورغم محاولته ترسيخ قاعدة مسيحية محافظة عبر قضايا مثل حماية الأسرة، ورفض زواج المثليين، وتمويل برامج تعتمد على الإيمان، فإن هذه الخطوات لم تكن كافية لاستعادة ثقة المحافظين الكلاسيكيين الذين رأوا فيه انحرافاً عن الخط الاقتصادي "الريجاني" الصارم.
وفي مقال نُشر عام 2006 على موقع معهد كاتو وكتبه الباحث المحافظ بروس بارتليت، وجّه الكاتب انتقاداً لاذعاً لبوش الابن، متهماً إياه بخيانة المبادئ التقليدية للمحافظين الأميركيين.
ورأى بارتليت أن بوش لم يكن "ريجانياً" بالمعنى الحقيقي، بل أقرب إلى الرئيس الأميركي السابق (الجمهوري) ريتشارد نيكسون، (أي رئيس استخدم خطاب اليمين دون أن ينتمي له فكرياً).
وأبرز مثال على ذلك، وفقاً لبارتليت، كان قانون تغطية الأدوية في برنامج "ميديكير"، الذي مررته إدارة بوش رغم التكلفة الهائلة التي جرى إخفاؤها عن الكونجرس والرأي العام، ما مثّل، برأي الكاتب، تجسيداً صريحاً لـ"المحافظة ذات الحكومة الكبيرة"، وهو مفهوم يتناقض تماماً مع جوهر الفكر المحافظ الذي طالما دعا إلى تقليص دور الدولة "اللا توسعية".
وفي عام 2008 كتب المؤرخ جاستن فايّس في معهد بروكينجز، أن عهد جورج بوش الابن ترك "مستقبل الحزب الجمهوري الانتخابي غير واعد، إذ يعتمد جزئياً على قوة اليمين الديني والجنوب الأميركي، وهما قاعدتان انتخابيتان تزدادان تباعداً عن بقية البلاد، التي أصبحت أقل تقبلاً للمحافظية مقارنة بما كانت عليه بين السبعينيات والتسعينيات."
من التنظير إلى السلطة
بعد تلاشي الإجماع داخل الحركة المحافظة عقب الحرب الباردة، برز تياران متنازعان داخل اليمين الأميركي: الأول قومي انعزالي يدعو للانكفاء الوطني، والثاني يؤمن بدور أميركي قيادي عالمي.
ورغم هذا التباين، تمكّن المحافظون الجدد من ترجمة رؤيتهم إلى خطة عمل عبر تأسيس "مشروع القرن الأميركي الجديد" (PNAC) عام 1997، بمبادرة من شخصيات مثل ويليام كريستول وروبرت كاجان (هما شخصيتان بارزتان في الفكر والسياسة الأميركية، وخاصة في التيار المحافظ الجديد)، لتقديم رؤية أيديولوجية وسياسية واضحة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة.
ودعا المشروع إلى تجديد الريادة الأميركية عالمياً، عبر تعزيز القدرات العسكرية، وفرض نموذج ديمقراطي ليبرالي، وتحدي المؤسسات الدولية عندما تتعارض مع المصالح الأميركية، وقد شكلت وثائق المشروع الإطار المرجعي الذي مهد لصعود غير مسبوق للمحافظين الجدد إلى قلب صناعة القرار بعد انتخابات عام 2000.
"الفولكانز".. هندسة السياسة الخارجية من الداخل
مع تولي جورج دبليو بوش الرئاسة، وصل فريق من المحافظين الجدد إلى مراكز النفوذ داخل البنتاجون والبيت الأبيض، فيما عُرِف لاحقاً باسم "الفولكانز" (Vulcans)- وهو اسم استلهموه من تمثال فولكان في ألاباما، موطن مستشارة الأمن القومي السابقة كونداليزا رايس، التي قادت الفريق خلال الحملة الانتخابية.
ولم تكن التسمية رمزية فقط، بل عكست تصوراً للسياسة الخارجية بوصفها مشروعاً عقلانياً حازماً، ويُدار من وراء الكواليس بحرفية وحديدية.
ويأتي المؤرخ ستيفن ويرثايم على رأس من تناول هذا التحول، إذ وصف المحافظين الجدد بأنهم "المهندسون الأيديولوجيون" لسلسلة الحروب المفتوحة بعد 11 سبتمبر، والتي لم تهدف لاستئصال التهديدات فحسب، بل لإعادة تشكيل العالم بما يكرّس الهيمنة الأميركية. وتجلى هذا الطموح بشكل واضح في "عقيدة بوش"، التي شرعنت استخدام القوة الاستباقية، واعتبرت نشر الديمقراطية مصلحة أمنية أميركية.
وحوّل فريق "الفولكانز" أطروحات مشروع القرن الأميركي الجديد" (PNAC) إلى سياسة فعلية، حرب وقائية، تبديل أنظمة، وتعويل على الهندسة الديمقراطية بالقوة.
صانعو العقيدة: وولفويتز، فايث، وتشيني
من أبرز الوجوه التي جسدت هذا التوجه كان بول وولفويتز، الذي صاغ مبكراً في عام 1992 مسودة "توجيهات التخطيط الدفاعي"، والتي وإن رُفضت حينها لجرأتها، فإنها أرست الأسس لعقيدة "الهيمنة الأحادية" التي ستتبناها إدارة بوش لاحقاً.
وخلال عمله نائباً لوزير الدفاع، قاد وولفويتز الدفع باتجاه غزو العراق، مستنداً إلى قناعة بأن إسقاط نظام صدام حسين سيُحدث تحولاً استراتيجياً في الشرق الأوسط يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية على حد سواء.
أما دوجلاس فايث، وكيل وزارة الدفاع للسياسات، فقد أنشأ "مكتب الخطط الخاصة" داخل البنتاجون، حيث أُنتجت تقييمات استخباراتية بديلة ربطت بين العراق وتنظيم القاعدة، لتبرير الحرب خارج المسار التقليدي للاستخبارات الأميركية.
كما كان من أبرز مهندسي خطة اجتثاث البعث، التي ساهمت في تفكيك الدولة العراقية، وأطلقت العنان لفوضى ما بعد الغزو.
وعلى رأس الهرم السياسي، لعب ديك تشيني، نائب الرئيس بوش الابن، دور الراعي الأعلى لهذا التيار داخل البيت الأبيض.
ورغم أنه لم يُصنّف نفسه كمحافظ جديد، فقد نسق عن كثب مع وولفويتز وفايث وريتشارد بيرل، وساهم في الدفع باتجاه تعزيز صلاحيات الرئاسة، وتبنّي نهج الضربات الوقائية، وإعادة صياغة المنطقة وفق مقاربة راديكالية.
وقد شكّل هؤلاء حلقة متماسكة ضغطت من أجل تعزيز الهيمنة الأميركية في النظام الدولي، وتضمنت رؤيتهم استراتيجية صريحة لنشر الديمقراطية، غالباً ما كانت متوافقة مع المصالح الإسرائيلية الإقليمية، ومتشككة في جدوى التحالفات والمؤسسات متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة أو الناتو، خاصة عندما تُقيّد حرية القرار الأميركي.
أفول المحافظين الجدد وصعود الانعزالية
لكن مشروع "القرن الأميركي الجديد" لم يُثمر عن قرن من التفوق الأميركي كما أراد منظّروه، بل ترك وراءه سلسلة من الحروب المفتوحة والفوضى الجيوسياسية التي أرهقت الداخل الأميركي وأضعفت الشرعية الأخلاقية للهيمنة.
فمع تراجع الحماس الشعبي، وتعقّد الاحتلال في العراق وأفغانستان، بدأت كلفة "تصدير الديمقراطية" تُفقد المحافظين الجدد بريقهم داخل الحزب الجمهوري.
وأُغلق مشروع القرن الأميركي الجديد رسمياً عام 2006، وفشلت محاولة بعثه لاحقاً عبر "مبادرة السياسة الخارجية" التي واجهت لامبالاة جمهورية متزايدة. هذا الفراغ الأيديولوجي مهّد الطريق لصعود تيار انعزالي شعبوي، كانت أولى علاماته تمثلت في حركة "حزب الشاي" (Tea Party) التي ظهرت عام 2009، رافضة النخب الحاكمة، والتدخلات الخارجية، ومناهضة للمؤسسات التقليدية.
ولادة حركة حزب الشاي
في صيف 2009، وفي خضم الأشهر الأولى من ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، كتب المفكر المحافظ تشارلز كيسلر في مجلة كليرمونت، والتي تعد منبراً فكرياً للحركة المحافظة القومية الجديدة، أن أوباما يعتبر "أقوى سياسي ليبرالي تواجهه الحركة المحافظة منذ جيل، وربما منذ عهدي كينيدي وجونسون".
وبنبرة إنذارية، رأى كيسلر أن أوباما لم يدخل البيت الأبيض بوصفه إصلاحياً تدريجياً، بل كمشروع تحويلي شامل، يسعى لإعادة تشكيل النظام الأميركي بأكمله، من الطاقة إلى الصحة والتعليم والهجرة، ضمن ما وصفه كيسلر بـ"استراتيجية صادمة متسلسلة، يفتح كل نجاح فيها الطريق لنجاح آخر".
وأدّى انتخاب أوباما إلى إشعال موجة تعبئة في صفوف القاعدة المحافظة، فقد أثارت سياساته، خاصة حزمة التحفيز الاقتصادي الكبرى في 2009، وإنقاذ البنوك وشركات السيارات، وتمرير قانون "الرعاية الصحية الشاملة" (أوباماكير) عام 2010، رد فعل قوي تمثل في بروز "حركة حزب الشاي".
وانبثقت حركة "حزب الشاي" عام 2009 كشبكة غير مركزية من المحتجين المحافظين الشعبويين، معظمهم من المواطنين المتوسطي العمر في الطبقة الوسطى، واستعارت رموزاً من الثورة الأميركية ضد البريطانيين (ومنها الاسم نفسه) للاحتجاج على ما اعتبروه توسعاً خطيراً في دور الحكومة الفيدرالية.
ركز حراك حزب الشاي على قضايا "الحركة المحافظة" والتي تبدأ كلها بحرف T: الضرائب (Taxes)، التقاليد (Tradition)، والاستبداد (Tyranny)– إذ اعتبروا أن أميركا في عهد أوباما تنزلق نحو الاشتراكية والانحدار الأخلاقي إلى جانب ذلك أيدت بعض فصائل الحراك مواقف مناهضة للهجرة.
ورغم أن العديد من أعضائها يحملون قناعات اجتماعية محافظة، فإن الحركة تتبنّى بشكل صريح وواضح رؤية اقتصادية بحتة، وليست اجتماعية.
حرب على القيم
في نظر كثير من المحافظين الأميركيين، لم تكن سنوات حكم باراك أوباما مجرد حقبة من التغيير السياسي، بل لحظة تحوّل ثقافي عميق. فقد رأت القاعدة المحافظة أن دعم إدارته لحقوق مجتمع الميم، ومبادرات إصلاح الهجرة، والتوسع في سياسات المناخ، لم تكن خطوات نحو "التقدم" كما يصفها أنصاره، بل تجسيداً لما أسموه "حرباً على التقاليد".
في روايتهم، كانت تلك السياسات محاولة ممنهجة لإعادة تشكيل المجتمع الأميركي وتفكيك القيم التي شكلت، من وجهة نظرهم، الأساس التاريخي والثقافي للأمة.
وفي وسائل الإعلام المحافظة، تكررت التحذيرات من "الماركسية الثقافية"، وتفشي العلمانية، وتهديدات متنامية لما يعتبرونه الحريات الدينية.
من مراكز الفكر إلى ساحات الضغط
لم يقتصر رد الفعل المحافظ على الخطاب، بل برزت خلال تلك السنوات هياكل ضغط جديدة لعبت أدواراً محورية في معركة السياسة.
"هيريتج أكشن"، الذراع السياسية لمعهد هيريتج، تأسست عام 2010 وشرعت فوراً في قيادة حملات لإلغاء قانون "أوباماكير" ومقاومة برامج الإنفاق الحكومي.
وبحلول 2013، كانت في قلب محاولات لقطع تمويل القانون، في خطوة أدّت إلى إغلاق مؤقت للحكومة الفيدرالية، في موازاة ذلك، صعّد الإعلام الديني المحافظ من حضوره، لا سيما عبر شخصيات مثل المذيع براين فيشر وشبكات مثل جمعية الأسرة الأميركية (AFA)، التي دفعت نحو مزيد من التركيز على الحكم وفق مبادئ مسيحية.
وامتد تأثير هذه الجهات إلى اختيار المرشحين المحافظين وصياغة أولوياتهم التشريعية، ما منحها نفوذًا يتجاوز المنابر الإعلامية.
لماذا شعر المحافظون أن هناك "حرباً على التقاليد"؟
ترسخت هذه السردية في أوساط اليمين المحافظ عبر ثلاثة مسارات رئيسية:
إعادة اصطفاف سياسي: شهدت الخريطة الانتخابية تحوّلاً تدريجياً نحو ناخبين شباب، من سكان المدن، وأكثر تنوعاً إثنياً وثقافياً، أصبحوا يميلون بقوة نحو التيار الليبرالي.
في المقابل، ظلت ولايات متأرجحة مثل أوهايو وفلوريدا ساحة تنافس خلال عهد أوباما قبل أن تميل أوهايو للجمهوريين لاحقاً وتزداد فلوريدا يمينية في أواخر العقد، بالتوازي ترسّخ النفوذ المحافظ في كثير من الجنوب والريف.
قلق الهوية: عزّز انتخاب أوباما– كأول رئيس من أصول إفريقية– من بروز الحركات المدنية متعددة الثقافات، وأعاد الحيوية لقضايا العِرق والعدالة الاجتماعية. وهو ما أثار لدى شريحة من المحافظين، خاصة في الطبقة الوسطى البيضاء، شعوراً بالقلق من فقدان المكانة والتهميش.
تحوّل في مراكز النفوذ: شعر المحافظون أن مؤسسات كانت تقليدياً محايدة– كالمحاكم، والجامعات، وحتى بعض الهيئات الحكومية– بدأت تميل بشكل متزايد نحو قضايا ليبرالية. بالنسبة إليهم، لم تعد الحرب تدور حول السياسة فقط، بل حول الثقافة والمؤسسات التي تنتجها.
"Citizens United" وإعادة تشكيل قواعد اللعبة
في عام 2010، أصدرت المحكمة العليا الأميركية حكمًا تاريخياً في قضية "Citizens United v. FEC" (المواطنون المتحدون ضد لجنة الانتخابات الفيدرالية)، غيّر مسار تمويل السياسة الأميركية.
واعتبرت المحكمة أن إنفاق الشركات والنقابات على الرسائل السياسية المستقلة عن الحملات الانتخابية يُعدّ شكلاً من أشكال حرية التعبير التي يحميها الدستور، ما ألغى عملياً القيود على حجم هذه النفقات.
هذا القرار مهّد لظهور اللجان الفائقة (Super PACs)، وهي كيانات تستطيع جمع وإنفاق مبالغ غير محدودة لدعم أو معارضة المرشحين، شرط عدم التنسيق المباشر معهم.
بالنسبة للمحافظين، كان الحكم فرصة استراتيجية، فشبكاتهم المالية والتنظيمية، التي بُنيت على مدى عقود عبر مانحين كبار ومؤسسات ضغط، كانت جاهزة لاستغلال القواعد الجديدة، كيانات مثل "American Crossroads" و"Club for Growth"، إلى جانب شبكة "الإخوة كوخ" عبر "Americans for "Prosperity، ضخت عشرات الملايين من الدولارات في السباقات الانتخابية، من الكونجرس إلى برلمانات الولايات.
وعززت هذه الأموال قدرة الجناح المحافظ على التأثير في الانتخابات التمهيدية، ودفع مرشحين أكثر تمسكاً بأجندة تقليص الحكومة وخفض الضرائب، كما مكّنت المحافظين من الاستثمار بكثافة في انتخابات الولايات الحاسمة قبل إعادة تقسيم الدوائر بعد تعداد 2010.
ورغم أن الديمقراطيين استفادوا لاحقاً من نفس القواعد، فإن الأسبقية والجاهزية كانت لصالح المحافظين، ما منحهم ميزة حاسمة في صياغة الخريطة السياسية للعقد التالي.
سارة بالين.. أيقونة الشعبوية المحافظة
قبل سنوات من صعود الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب، كانت سارة بالين، الحاكمة السابقة لولاية ألاسكا، تفتح طريقاً جديداً في السياسة الأميركية، يعبّد لتيار شعبوي محافظ صاخب يتحدى النخب الإعلامية والسياسية في واشنطن.
برزت بالين على المسرح الوطني في 2008 عندما اختارها المرشح الجمهوري جون ماكين لتكون نائبته في انتخابات الرئاسة، في خطوة بدت جريئة آنذاك، لم تكن مجرد مفاجأة انتخابية، بل كانت بمثابة إعلان عن تحول داخلي في التيار اليميني الأميركي.
شابة، محافظة، تتحدث بلهجة "قاعدية" صارخة، وصفت نفسها بأنها "ليست من الطبقة السياسية الدائمة"، وقالت بصراحة: "لن أذهب إلى واشنطن لأطلب رضاهم عني".
منذ ظهورها الأول، اتخذت بالين موقفاً عدائياً صريحاً من وسائل الإعلام التي رأت أنها منحازة للنخبة الليبرالية، واستخدمت في أحد أبرز خطاباتها، تعبير "افتراء الدم" لتصف ما اعتبرته حملة تشويه إعلامية تستهدفها مع أنصارها، رداً على اتهامات بكون خطابها التحريضي يغذي العنف السياسي.
وفي مناظرتها الشهيرة مع جو بايدن (والذي كان نائباً لأوباما وقتها) عام 2008، أطلقت شعار "احفر، يا عزيزي، احفر"، في دعوة لتوسيع إنتاج النفط المحلي، مهاجمة البيروقراطية الفيدرالية والنخب التي تمنع الاستقلال الطاقي.
وسرعان ما تحوّل الشعار إلى "لازمة" في تجمعات الجمهوريين ولا يزال دونالد ترمب وإدارته حتى اليوم يستخدمون هذا الشعار.
وفي عام 2009، أثارت بالين جدلاً واسعاً عندما أطلقت مصطلح "لجان الموت" في سياق رفضها لخطة أوباما للرعاية الصحية، متهمة إياها بإقامة بيروقراطيات تقرر من يستحق الرعاية ومن لا يستحق، ورغم نفي الخبراء لهذه المزاعم، إلّا أن العبارة ترسّخت في الذاكرة الشعبوية كدليل على خطر الحكومة الفيدرالية.
كانت بالين من أوائل السياسيين المحافظين الذين استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة للخطاب الشعبوي، حيث نشرت مواقفها على فيسبوك مباشرة دون المرور عبر الصحافة التقليدية، مما أضفى طابعاً شخصياً وشعبياً على خطابها.
بروفة ترمب
في وقت لاحق، وصف كثيرون، بالين، بأنها كانت "بروفة سياسية" لصعود ترمب، وكتبت مجلة "تايم" أن بالين "أعادت تشكيل المشهد السياسي الأميركي بأسلوبها الجريء وغير التقليدي"، ومهدت الطريق أمام ترمب عبر تنشيط القاعدة الغاضبة من المؤسسة الجمهورية.
ستيف بانون، الذي قاد موقع بريتبارت اليميني المتطرف وعمل لاحقاً مستشاراً لترمب، اعتبر أن حركة بالين ونشاط أنصارها في "حزب الشاي" كانت بوابته الأولى إلى السياسة، وأنها وفّرت القاعدة التي ستحمل ترمب إلى البيت الأبيض.
وفي وثائقي بثّته شبكة PBS ضمن سلسلة Frontline، أشار باحثون إلى أن العديد من ملامح ما سُمّي لاحقاً بـ"عصر ما بعد الحقيقة" (post-truth)- بما في ذلك الخطاب العاطفي المفرط وتجاهل الوقائع الدقيقة- وجدت جذورها في أسلوب سارة بالين.
ولم تترشح بالين مجدداً للرئاسة، لكن أسلوبها السياسي، القائم على المواجهة، والتحريض ضد النخبة، والشعارات الحماسية، أعاد تشكيل الحزب الجمهوري من الداخل.
بعدما فتحت الطريق أمام المرشحين الشعبويين، وغيّرت طبيعة الخطاب اليميني، ورسّخت مواقف مثل معاداة الإعلام، ومعارضة الحكومة الكبيرة، والتشكيك في نوايا مؤسسة الحكم.