في سبتمبر من عام 2010، تصدّر ثلاثة مشرعين جمهوريين غلاف كتاب حمل عنوان "البنادق الشابة: جيل جديد من القادة المحافظين" (Young Guns: A New Generation of Conservative Leaders) ليتحول الغلاف إلى أيقونة سياسية في أوساط الحزب.
وكان هؤلاء الثلاثة (إريك كانتور، بول رايان، وكيفن مكارثي) يُنظر إليهم آنذاك كرموز الجيل الصاعد الذي سيقود الحزب نحو تجديد فكر المحافظين، في خضم صعود حركة حزب الشاي وتعاظم الغضب الشعبي ضد إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، قدّم الثلاثي أنفسهم كجسر بين النخبة الجمهورية التقليدية وقواعد الغضب الشعبي، واضعين نصب أعينهم استعادة السيطرة على الكونجرس والدفع بأجندة اقتصادية واجتماعية أكثر تشدداً.
جسّد الكتاب، بحسب مؤلفيه، بياناً أيديولوجياً وأداة دعائية، لكنه كان أيضاً لحظة ذروة في صعود رجال سرعان ما ستعصف بهم تحولات الحزب نفسه.
وقدّم الكتاب "خطة جريئة" لمستقبل الحزب الجمهوري، واضعاً مؤلفيه في موقع طليعة ثورة محافظة متجددة، وكان كانتور، الذي شغل آنذاك نائب رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب، يُقدَّم كقائد هذه المجموعة، بينما كان رايان، الخبير في الموازنة، يمثل العقل المفكر، أما مكارثي، صاحب الخبرة في تجنيد المرشحين، فكان هو الاستراتيجي.
وبفضل موجة "حزب الشاي" التي اجتاحت انتخابات منتصف عام 2010، اعتُبر هؤلاء الثلاثة "أملاً جديداً" للحركة المحافظة في واشنطن، لكن بعد خمسة عشر عاماً، انقلب هذا السيناريو التفاؤلي رأساً على عقب.
أعاد الصعود الصاخب للرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب رسم مسار الحزب الجمهوري، ودفع بالكثير ممن كانوا يُنظر إليهم على أنهم مستقبل الحزب إلى الهامش.
خسر كانتور في انتخابات تمهيدية مفاجئة عام 2014 أمام مرشح من حركة "حزب الشاي"، في إشارة إلى أن الغضب الشعبي لن يستثني أحداً يُعتبر معتدلاً أكثر مما يجب، أما رايان، فارتقى إلى رئاسة مجلس النواب عام 2015، لكنه وجد نفسه عاجزاً عن قيادة حزب صار يتشكّل أكثر فأكثر تحت تأثير ترمب.
وبحلول عام 2018، ومع وجود ترمب في البيت الأبيض، واكتمال إعادة تشكيل الحزب على صورته، اختار رايان التقاعد، غير راغب في البقاء ضمن حزب وصفه المراقبون بأنه "شركة مملوكة بالكامل لدونالد ترمب".
أما مكارثي، فكان الوحيد الذي استمر، وحرص على محاذاة نفسه بعناية مع النظام الجديد، فأصبح زعيم الجمهوريين في مجلس النواب، ثم رئيساً له، لكنه مع ذلك واجه تمرّداً من الجناح الموالي لترمب داخل الحزب.
وفي أكتوبر 2023، أجبره نواب متشددون مؤيدون لترمب على التنحي من رئاسة المجلس، وكان بذلك آخر "بندقية شابة" تسقط تحت وطأة القوى التي أطلقها الحزب نفسه.
صعود وسقوط "البنادق الشابة"
يمثل سقوط "البنادق الشابة" مفارقة لافتة، فقد راهن الثلاثي على أن نمطهم من المحافظة، القائم على الانضباط المالي، وتخفيض الضرائب، وأفكار الجمهوريين التقليدية، سيكون هو المسار الذي يقود الحزب إلى المستقبل.
وتمكّنوا لبعض الوقت من توجيه أجندة الحزب. لكن الاتجاه الذي أراد كانتور ورايان ومكارثي قيادة الحزب نحوه لم يكن هو الاتجاه الذي أرادته القاعدة الشعبية في نهاية المطاف.
بدلًا من ذلك، وصلت ثورة محافظة مختلفة تماماً، حمل لواءها رجل أعمال من خارج المؤسسة، تحوّل إلى ما تحب أن تصفه الأوساط السياسية بالـ"شعبوي الجامح".
"تشريح الحزب" 2013
بعد خسارة الجمهوريين في انتخابات 2012، كلّفت اللجنة الوطنية الجمهورية إعداد تقرير "Growth & Opportunity Project" (المعروف إعلامياً بـ"تشريح 2013").
وخلص التقرير إلى أن صورة الحزب تضرّرت بين الشباب والنساء والأقليات (اللاتينيين، الأفارقة الأميركيين، الآسيويين)، ودعا إلى تحديث الرسالة والنبرة، وتبنّي مسارٍ عملي لإصلاح الهجرة، والاستثمار بكثافة في البيانات والبنية الرقمية والعمل الميداني.
أوصى التقرير أيضاً بتقليص عدد المناظرات الحزبية، وضبط روزنامة الانتخابات التمهيدية لتجنّب الاستنزاف الداخلي، وبناء شراكات محلية طويلة الأمد بدل الحملات الموسمية.
عملياً، رسم التقرير خريطة طريق نحو حزب أكثر شمولًا وأقل حدّةً في الخطاب، لكن ابتداءً من 2014 ومع احتدام قضايا الهوية والهجرة، اتجهت القاعدة في منحى معاكس، ما فتح فجوةً بين توصيات القيادة ومزاج الناخبين المحافظين، وهي الفجوة التي استثمرها دونالد ترمب لاحقاً بخطاب قومي مباشر أطاح برؤية “التشريح” ووضع الحزب على مسار MAGA.
سيطرة ترمب على الحركة المحافظة
أحدث الصعود المفاجئ لدونالد ترمب عام 2016 تحدياً غير مسبوق للحركة المحافظة الأميركية، فقد شكّل فوزه صدمة ليس فقط لليبراليين، بل أيضاً لكثير من نخب الحزب الجمهوري، ما فرض لحظة حاسمة من المراجعة داخل التيار اليميني.
في بدايات الأمر، شكك العديد من المفكرين المحافظين وشخصيات المؤسسة الجمهورية في صدقية انتماء ترمب للمحافظة، فمثلًا، أصدرت مجلة National Review المحافظة عدداً شهيراً بعنوان "ضد ترمب" عام 2016، أكدت فيه أنه “لا يستحق دعم المحافظين”.
ورفض شخصيات بارزة من الجمهوريين، مثل عائلة بوش، (التي خرج منها رئيسان سابقان، ومثلا جناحاً تقليدياً معتدلاً داخل الحزب الجمهوري) والسيناتور ميت رومني، والكاتب جورج ويل، تأييد ترمب، انطلاقاً من قناعة بأن شعبويته الجريئة انحرفت عن المبادئ الجوهرية للمحافظة، مثل الحكومة المحدودة، والتجارة الحرة، والقيادة الأخلاقية.
لكن على مستوى القواعد الشعبية، احتضن كثير من الناخبين الجمهوريين خطاب ترمب الشعبوي المناهض للمؤسسة ونزعته القومية، إذ جذب شريحة من المحافظين شعروا بالتهميش من قِبل “النخبة العالمية” في الحزب الجمهوري، التي اعتبروها متساهلة مع الرأي الليبرالي.
هذه القاعدة لم تدعم "النخبة" بل انحازوا إلى "دخيل" وهو ترمب، الذي عبّر عن مشاعر إحباطهم، وهاجم ما اعتبره "الأيديولوجية المهيمنة لليبرالية اليسارية وسرديتها المدمرة التي تصوّر أميركا كأمة آثمة"، ورفع شعار الوطنية والدفاع الحازم عن المصالح الأميركية دون أي تنازل.
ورأى كثير من أنصاره أنه يعيد إحياء روح المحافظة الأميركية بالعودة إلى المبادئ التأسيسية، من خلال "الاستناد إلى الآباء المؤسسين، والدستور، والفخر الوطني"، ومواجهة الليبرالية الثقافية على نحو مباشر.
وبفوزه الصادم في 2016، كشف ترمب عن انقسامات داخلية في صفوف اليمين وعمّقها. وكما يشير تحليل الباحث أندجيه بريك، فإن الحركة المحافظة التي كانت موحدة نسبياً في عهد رونالد ريجان تحت راية مناهضة الشيوعية، انقسمت في عهد ترمب إلى معسكرين:
المحافظون الشعبويون: تحركهم مواقف ترمب المتشددة تجاه الهجرة، وتشكيكه في العولمة، وخوضه حرباً ثقافية ضد "الصوابية السياسية".
المحافظون التقليديون من المؤسسة: المتمسكون بإرث ريجان- بوش (اقتصاد السوق الحرة، التحالفات الدولية القوية، وأدب الخطاب السياسي)، وكثير منهم شعر بالاستياء من أسلوب ترمب وانحرافاته عن المعايير المحافظة.
هذا الانقسام كانت جذوره موجودة منذ بروز حركة "حزب الشاي" وسارة بالين، لكن ترمب جعله واضحاً تماماً.
الفصائل المحافظة: مؤيدو ترمب في مواجهة "لن ندعم ترمب"
مع تولي ترمب الرئاسة عام 2017، التفت أغلبية الناخبين والمسؤولين الجمهوريين حوله تدريجياً، لكن ذلك لم يخلُ من التحفظات ووجود أقلية معارضة صاخبة، فقد برزت حركة "لن ندعم ترمب" (Never Trump) بين محافظين بارزين رفضوا تأييده حتى بعد حصوله على ترشيح الحزب.
هذا التيار، الذي ضم كتاباً ومحللين استراتيجيين وعدداً قليلاً من السياسيين الجمهوريين، رأى في معارضته لترمب موقفاً مبدئياً دفاعاً عن المحافظة التقليدية والمعايير الديمقراطية في 2016 ومرة أخرى في 2020، قادت مجموعات مثل "Lincoln Project"، التي يديرها مستشارون جمهوريون سابقون، حملات ضد ترمب من اليمين، معتبرة أنه خان مبادئ المحافظة، خاصة النزاهة الشخصية والحكومة المحدودة. وذهب بعض الجمهوريين المخضرمين إلى حد تأييد الديمقراطيين، معتقدين أن "الترامبية" تهدد جوهر الحزب الجمهوري.
لكن "رافضي ترمب" كانوا أقلية صغيرة أمام جمهور المحافظين المؤيدين له، ومع مرور الوقت "انحنى" كثير من قادة الحزب في النهاية لسلطته، فقد التحق مسؤولون جمهوريون عارضوه في البداية، مثل السيناتور ليندسي جراهام، بركب داعميه، وساندوا سياساته الكبرى، مثل التخفيضات الضريبية، وإلغاء القيود التنظيمية، وتعيين القضاة المحافظين.
وبحلول نهاية ولايته، أصبح الحزب الجمهوري، وبحسب بوليتيكو "حزب ترمب بالكامل".
أما الشخصيات الجمهورية التي رفضت الانصياع، مثل السيناتور جيف فليك أو النائبة ليز تشيني، فقد همشت أو أُقصيت من المشهد، مما عزز قبضة ترمب على الحزب.هذا التماسك تحت قيادة ترمب دفع محللين إلى القول إن الحزب لم يعد حزب "المحافظة الريجانية"، بل تحول إلى كيان جديد.
وأشار خبراء واستطلاعات رأي إلى أن ترمب جذب ناخبين بمزيج أيديولوجي مختلف: أكثر انتماءً إلى الطبقة العاملة، أكثر تشككاً في الشركات الكبرى والتجارة الحرة، وأكثر عداءً للتأثير الثقافي الليبرالي.
وأظهرت دراسة أكاديمية بعنوان "Conservatism in the Era of Trump"، نُشرت في مجلة "Perspectives on Politics" عام 2019 أن ثمة فروقاً أيديولوجية واضحة بين مؤيدي ترمب ومعارضيه داخل الحزب.
فالذين دعموا ترمب باستمرار كانوا أقل التزاماً بالأيديولوجية التقليدية، كثير منهم يصفون أنفسهم بالمحافظين رمزياً، لكنهم أكثر مرونة في المواقف السياسية، بينما كان "رافضو ترمب" أكثر تمسكاً بالمبادئ الكلاسيكية للمحافظة وأقدر على صياغتها.
بمعنى آخر، كان الجمهوريون المعارضون لترمب أقرب إلى الوسط اليميني (يدعمون الأسواق الحرة، والحكومة المحدودة، والانفتاح الدولي) حتى لو لم يصفوا أنفسهم بـ"محافظين جداً"، بينما تبنى مؤيدو ترمب صفة المحافظة، لكنهم أعادوا تعريفها بصبغة قومية شعبوية. وتؤكد هذه الأبحاث أن الائتلاف الجمهوري في عهد ترمب "بعيد عن التوحد في تعريف معنى أن تكون محافظاً".
داخل المؤسسات المحافظة، ظهرت انقسامات مشابهة، فقد اختلفت مواقف مراكز الأبحاث المؤثرة ذات التوجه اليميني في تعاملها مع ترمب. سارعت مؤسسة هيريتيج، وهي إحدى ركائز المؤسسة السياسية المحافظة، إلى بناء روابط وثيقة مع فريق ترمب، مقدمةً أفكاراً للسياسات وحتى قوائم بمرشحين قضائيين.
ورأت هيريتيج وغيرها من المؤسسات في ولاية ترمب فرصة لتحقيق أهداف طال انتظارها، مثل الإصلاح الضريبي، وإلغاء القيود التنظيمية، والسياسات المؤيدة للحياة (Pro-life)، وكانت راضية عموماً عن أجندته.
في المقابل، كانت المؤسسات ذات التوجه الليبرتاري (التحررية) أو ذات النزعة الدولية التقليدية، مثل معهد كاتو أو مجلة ويكلي ستاندرد (التي أُغلقت لاحقاً)، أكثر انتقاداً، إذ رفضت سياسات ترمب الجمركية، وعجز الموازنة، واضطراب سياسته الخارجية.
كما واصل بعض الكُتّاب المحافظين– مثل العاملين في "National Review وThe Dispatch"– القول إن شعبوية ترمب تمثل خيانة للمبادئ الأساسية، كالتجارة الحرة وسيادة القانون.
لكن في المجمل، عقدت المحافظة المؤسسية تسوية براجماتية معه بمجرد توليه المنصب. وقد كافأها ترمب بتعيين قضاة محافظين في المحكمة العليا وإجراءات واسعة لإلغاء القيود التنظيمية، وحصل بالمقابل على الدعم المؤسسي (أو الصمت) اللازم للحفاظ على تماسك الائتلاف الجمهوري.
هل يمكن اعتبار ترمب "محافظاً" حقيقياً؟
ظل سؤال رئيسي يرافق رئاسة ترمب: هل يمكن اعتباره "محافظاً" حقيقياً؟ فلم تكن له قبل 2016 روابط قوية بالحركة المحافظة، كما أنه تبنى في الماضي بعض المواقف الليبرالية، ما دفع المشككين إلى اعتباره انتهازياً أكثر منه مؤمنًا بالفكر المحافظ.
ومع ذلك، تبنى الرئيس ترمب عملياً كثيراً من أولويات المحافظين التقليدية: خفّض الضرائب والقيود على الأعمال، عيّن عشرات القضاة الملتزمين بتفسير الدستور الأصلي، دافع عن حرية الدين، تبنى سياسات مناهضة للإجهاض، وانتهج موقفاً متشدداً تجاه خصوم أميركا (مع إبداء مرونة لفظية تجاه بعض النُظم المصنفة مستبدة)، هذه السياسات أكسبته تأييد معظم الناخبين الجمهوريين، بما في ذلك المحافظون التقليديون الذين شككوا فيه في البداية.
وبحلول عام 2020، أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يحظى بتأييد كاسح بين من يصفون أنفسهم بالمحافظين. وكما أشار مركز "بيو للأبحاث" آنذاك، جاءت "أعلى تقييماته الإيجابية" من أكثر شرائح الناخبين محافظةً وانتماءً إلى الجمهوريين. ومن هذا المنطلق، اعتبره كثير من المحافظين أداة فعالة لتنفيذ أجندتهم، وإن لم يكن ملتزماً حرفياً بالعقيدة المحافظة.
ومع ذلك، استمر الجدل بين المفكرين والقيادات الفكرية المحافظة. المؤرخ الأميركي جورج ناش، أحد أبرز المراجع في دراسة التيار المحافظ، يرى في كتاباته أن الترامبية تمثل قطيعة حقيقية مع التقاليد الفكرية للمحافظين.
من وجهة نظر ناش، فإن ترمب لم يُكمل مسيرة الحركة المحافظة، بل "مزّق" التوافق الذي جمعها، وابتعد عن إرث مفكريها الأوائل، وركّز على الزعامة الشخصية والسياسات القائمة على الصفقات، في ابتعاد واضح عن الفلسفات المؤسسة للمحافظة الكلاسيكية.
كما أشار منتقدون مثل الكاتب جورج ويل (الذي غادر الحزب الجمهوري احتجاجاً) إلى عدم احترامه للمعايير الدستورية والانضباط المالي، معتبرين أن المحافظة ليست مجرد نتائج سياسية، بل هي أيضاً التزام بحدود السلطة التنفيذية، والقيادة الأخلاقية، ودور أميركا كمنارة ديمقراطية. واستشهدوا بإعجابه العلني بالقادة المستبدين، ومحاولاته الضغط على وزارة العدل، ونظرته التعاقدية للتحالفات التي أزعجت المحافظين الدوليين على نهج الرئيس الأميركي السابق رونالد ريجان.
كما صرّح مسؤولون سابقون في إدارة ترمب، مثل مستشار الأمن القومي جون بولتون، بأن "الرجل ليست لديه فلسفة"، في إشارة إلى أن "الترامبية" مدفوعة بالشخصية والدوافع الاحتجاجية أكثر من أي أيديولوجيا محافظة متماسكة.
وبحلول عام 2024، أقرّت شخصيات جمهورية مخضرمة مثل ميتش ماكونيل، بأن قبضة ترمب على الحزب قائمة على الولاء والهوية أكثر من ارتكازها على برامج الحزب التقليدية.
وكما نقلت "بوليتيكو" في تقرير سابق “أصبح الحزب حزباً قومياً شعبوياً لا يرتكز إلى أيديولوجيا، وبالتأكيد ليس المحافظة… الثورة اكتملت".
لكن قراءات صادرة عن معهد "هدسون" تقدّم رؤية مغايرة. ناديا شادلو، التي شغلت منصب نائبة مستشار الأمن القومي في إدارة ترمب الأولى، تصف نهجه بـ"الواقعية المحافظة" حيث تتركز الأولويات على السيادة الوطنية، ومنافسة القوى الكبرى، وتقاسم الأعباء مع الحلفاء، بدل الانخراط في تدخلات عسكرية واسعة.
وتضع هذه المقاربة إعادة بناء القاعدة الصناعية الأميركية في صلب الأجندة، باعتبارها عنصراً أساسياً للأمن القومي، مع التركيز على سلاسل الإمداد والقطاعات الاستراتيجية.
أما الباحث جون فونتي، فيرى أن هذا التوجه ليس حالة عابرة أو انحرافاً مؤقتاً، بل امتداد طويل الأمد لتيار قومي، محافظ متجذر في التاريخ الأميركي، وجد في ترمب شخصية قادرة على تجسيده وترسيخه داخل الحزب الجمهوري، ليصبح جزءاً من بنيته السياسية حتى بعد رحيل ترمب عن المشهد.
عالم MAGA: المحافظون في فلك ترمب
خلال الولاية الأولى لترمب، استوعبت حركة اجعل أميركا عظيمة مجدداً (MAGA) إلى حد كبير الحركة المحافظة. فقد أصبحت قاعدته المتحمسة القوة المهيمنة في الحزب الجمهوري، وارتقى من ينسجمون مع الشعبوية الترامبية إلى مواقع بارزة في الأوساط المحافظة.
تكيفت المنتديات والمنظمات المحافظة التقليدية مع هذا التحول، فعلى سبيل المثال، تحوّل المؤتمر السنوي للعمل السياسي المحافظ (CPAC)، الذي كان في السابق ملتقى واسعاً للمفكرين والسياسيين من اليمين، إلى مهرجان يتمحور حول ترمب، حيث تصدر قائمة المتحدثين الرئيسيين، وتضمنت الجلسات موضوعات عن مكافحة الاشتراكية و"ثقافة الإلغاء".
كما انحازت وسائل الإعلام المحافظة بشكل شبه كامل إلى ترمب. فشبكة "فوكس نيوز"، ومقدمو البرامج الحوارية الإذاعية، والمنصات الإعلامية الجديدة، جميعها ضخت رسائله.
أما الأصوات المعارضة داخل الإعلام اليميني فجرى تهميشها في مساحات أصغر مثل "The Bulwark وThe Dispatch" أو بعض الكتّاب المعارضين، وكان تأثيرها محدوداً بين القاعدة.
ومن أبرز التطورات صعود مؤثرين محافظين جدد، خاصة على البودكاست ويوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحوا مروجين أقوياء لأجندة ترمب.
وبحلول حملته لإعادة الانتخاب وما بعدها، كان صانعو المحتوى اليمينيون قد جمعوا جمهوراً ضخماً، ووصل بعضهم إلى علاقات شخصية مع فريقه. وقد أُطلق إعلامياً على انتخابات 2024 -في مراحل مختلفة منها- بـ"انتخابات المؤثرين".
شخصيات مشهورة ومؤثرة في البودكاست مثل بن شابيرو، مات وولش، وديف روبن– الذين يقدّمون أنفسهم غالباً بوصفهم "الجناح الفكري" للمحافظة الحديثة، وصلوا إلى ملايين المستمعين، وروّجوا لأجندة ترمب دون معارضة تُذكر.
وحتى شخصيات ليست سياسية في الأساس، مثل مؤثرين فيما يُعرف بمجتمع "عالم الرجال" (Manosphere)، مثل جو روجن الذي يناقش قضايا الذكورة ونمط الحياة، ويستضيف شخصيات مثيرة للجدل، أو الأخوين بول المشهورين على يوتيوب، منحوا ترمب منابرهم، وساهموا في تقديم أفكاره بشكل طبيعي لجماهير جديدة.
ووفقًا لمجلة "Wired"، "ضخّم هؤلاء المذيعون ترمب وأجندته.. ومن المرجح أن يكونوا عنصراً أساسياً في حشد الدعم لقرارات إدارته".
وسعى ترمب ومستشاروه عمداً لاستقطاب هؤلاء المؤثرين، مدركين أن تأثيرهم في القاعدة المحافظة يفوق تأثير العديد من وسائل الإعلام التقليدية.
وخارج الفضاء الرقمي، اكتسب النشاط المحافظ الشعبي أيضاً طابع MAGA. فقد قامت منظمات مثل "Turning Point USA" بقيادة تشارلي كيرك بتعبئة الشباب المحافظين حول القضايا الترامبية، وحتى ضمّت صانعي "الميمز" على وسائل التواصل لدعم الرسائل اليمينية.
والنتيجة كانت حركة محافظة باتت أقل تعريفاً من خلال أوراق السياسات الصادرة عن مراكز الأبحاث أو برامج الحزب الجمهوري، وأكثر ارتباطاً بطاقة وغضب قاعدة MAGA.
حتى القضايا التقليدية للمحافظين– مثل خفض العجز – تراجعت أهميتها أمام معارك الحرب الثقافية والغضب المناهض للمؤسسة الذي ركز عليه ترمب.
مع ذلك، لم تبق الحركة المحافظة كتلة واحدة متجانسة داخل عالم MAGA، فقد بقيت جيوب من المعارضة والتنوع: فبعض المحافظين على نهج ريجان استمروا بهدوء في الدفاع عن التجارة الحرة والهجرة، وعدد قليل من الجمهوريين في الكونجرس كان أحياناً يخالف خط ترمب السياسي (كما حدث عندما صوت 12 سيناتوراً جمهورياً ضد تمويله الطارئ لجدار الحدود في 2019). لكن مثل هذا الاعتراض نادراً ما غيّر النتائج، وغالباً ما أثار غضب ترمب.
بعد 2020: الانقسامات في ولاية ترمب الثانية
رغم خسارته انتخابات 2020، ظل ترمب الشخصية المهيمنة على اليمين الأميركي. وخلال فترة ما بعد الرئاسة، حافظ تقريباً جميع قادة الحزب الجمهوري علناً على الولاء له أو على الأقل لقاعدة MAGA، مما يعكس تأثيره المستمر على الناخبين المحافظين.
وعندما ترشح مجدداً في 2024، تلاشت آخر آمال المحافظين من تيار "لن ندعم ترمب" في "إنقاذ" الحزب الجمهوري.
وبحلول الانتخابات التمهيدية للحزب في أوائل 2024، هُزمت شخصيات الحرس القديم (مثل السياسية البارزة في الحزب الجمهوري نيكي هايلي) أو جرى استيعابها سياسياً.
حتى من قدّم نفسها محافظاً كلاسيكياً مثل حاكم فلوريدا رون دي سانتِس الذي روج لنفسه كبديل جمهوري أقل صخباً من ترمب، جامعاً بين تشدد ثقافي ونهج إداري منضبط على طريقة ريجان.
لكن هيمنة ترمب على الإعلام اليميني وولاء القاعدة الشعبية أفشلت مسعاه، ومع تراجع الدعم، أقرّ دي سانتِس ضمنياً بأن الحزب لم يعد يميل إلى النموذج الريجاني التقليدي، بل يفضل القومية الاقتصادية والتشدد في الهجرة والتحالفات الدولية. وبدا جلياً مع نتائج الانتخابات التمهيدية أن قاعدة الحزب الجمهوري قد أعلنت خيارها: تريد "الترامبية".
ومع فوز ترمب في انتخابات 2024، توحدت الحركة المحافظة إلى حد كبير خلفه مع توليه المنصب مجدداً. ومع ذلك، فإن هذه الوحدة مبنية في الغالب على القيادة الشخصية لترمب أكثر من كونها اتفاقاً مطلقاً على الأفكار.
فقد أظهرت استطلاعات الرأي في بداية ولايته الثانية أن أغلب الجمهوريين، رغم دعمهم الواسع لأجندته، يرون أنه يجب أن يكون هناك مجال لاستقلالية القرار.
وفي أوائل 2025، قال 55% من الجمهوريين إن نوابهم في الكونجرس غير ملزمين بتأييد سياسات ترمب إذا اختلفوا معها، بينما عبّر ثلثاهم عن تأييدهم "لكل أو معظم" خططه، ما يعكس مزيجاً من الولاء لشخصه مع استعداد محدود لمخالفته.
وتعكس هذه الأرقام واقعاً معقداً: فالمحافظون قد التفوا حول ترمب باعتباره حامل رايتهم، لكن بعض الخلافات الأيديولوجية أو التكتيكية ما زالت كامنة تحت السطح.
فعلى سبيل المثال، يشعر المحافظون الماليون بالقلق من نزعة ترمب نحو "الحكومة الكبيرة" (إذ أبدى اهتماماً محدوداً بكبح الإنفاق)، بينما يبقى الصقور في الأمن القومي حذرين من نزعة ترمب للعمل منفرداً، رغم تقديرهم لموقفه التصادمي من الصين أو إيران.
أما المحافظون الاجتماعيون (اليمين المسيحي) فيُعدّون من أقوى أنصاره، ورحبوا باختياراته في المحكمة العليا التي أسفرت عن إلغاء حكم رو ضد ويد (وتُعد قضية "رو ضد ويد" التي جرى تحريكها عام 1969، قضية تاريخية أفضت بالنهاية إلى إقرار حق الإجهاض بالولايات المتحدة من قبل المحكمة العليا في 1973) وانتصارات أخرى.
ومع ذلك، يشعر بعض الإنجيليين بالحرج من سلوكه الشخصي وأسلوبه الخطابي. غير أن هذه التوترات داخل صفوف المحافظين، تبقى خافتة، ولم تهدد بشكل جدي هيمنة ترمب داخل الحركة.
ومن اللافت أن بعض المؤسسات السياسية كانت قد استعدت مسبقًا لاحتمال ولاية ثانية لترمب، ففي عام 2023 نسّقت مؤسسة Heritage Foundation المحافظة خطة شاملة لإعادة هيكلة الحكومة تحت اسم مشروع 2025، بهدف ضمان أن يتمكن أي رئيس جمهوري مستقبلي (وكان الافتراض أنه ترمب) من تنفيذ السياسات الشعبوية المحافظة بسرعة.
ورغم أن ترمب كان قد تنصّل من بعض هذه الخطط خلال الحملة الانتخابية، فإن الواقع على الأرض أظهر تقارباً كبيراً بين سياساته الفعلية وأجندة مشروع 2025.
ومع توليه الرئاسة، كان العديد من واضعي هذه الخطة قد تسلموا مناصب في إدارة ترمب الجديدة، وجاءت خطوات ترمب المبكرة في ولايته الثانية متوافقة إلى حد كبير مع خارطة طريق مشروع 2025 التي وضعتها مؤسسة هيريتج من أجل أجندة محافظة أكثر حدة.
فعلى سبيل المثال، تحرك ترمب سريعاً للحد من برامج التنوع والشمول الفيدرالية، وبدأ حتى باتخاذ خطوات نحو إلغاء وزارة التعليم، وهي سياسات أوصى بها صراحةً دليل مشروع 2025.
ويعكس هذا التنسيق مدى اندماج "مؤسسة فكرية محافظة" مع حركة ترمب. وحتى إذا حاول ترمب أحياناً إبعاد علامته الشخصية عن منتجات مراكز الأبحاث فإن التوافق العملي بين حدسه الشعبوي وأجندة المؤسسة المحافظة قوي.