يسود المشهد السياسي الأميركي استقطاباً متزايداً منذ تولي الرئيس دونالد ترمب السلطة في 20 يناير الماضي، وسيطرة الجمهوريين على مقاليد الحكم في واشنطن بحصولهم على الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، وكذلك، وجود أغلبية محافظة في المحكمة العليا، ما يمنح ترمب والجمهوريين سيطرة شبه مطلقة على السلطة.
وعمقت سلسلة من حوادث إطلاق النار واغتيالات لشخصيات سياسية بارزة وآخرها اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك في 10 سبتمبر، واغتيال رئيسة مجلس نواب ولاية مينيسوتا ميليسا هورتمان وزوجها، وإطلاق النار على مراكز السيطرة على الأمراض ومكافحتها، وكذلك، حادثة إطلاق النار الأخيرة بمركز احتجاز تديره وكالة الجمارك والهجرة ICE في دالاس، من حدة الاستقطاب، ورفعت من مخاوف الأميركيين من العنف السياسي.
ولعل الحادثة الأبرز كانت اغتيال تشارلي كيرك المقرب من ترمب، الذي اتهم ما أطلق عليه "اليسار المتطرف" بالمسؤولية عن اغتياله، وسط حملة في وسائل الإعلام اليمينية والمحافظة ضد اليسار والديمقراطيين.
والسبت، قال ترمب إنه أمر وزارة الحرب بإرسال قوات إلى مدينة بورتلاند في ولاية أوريجون، استجابة لما وصفه بـ"الهجمات" التي تتعرض لها منشآت إدارة الهجرة والجمارك ICE من قبل "إرهابيين محليين"، منهم حركة "أنتيفا" اليسارية المناهضة للفاشية.
كما دأب ترمب على مهاجمة الجامعات قائلاً إن "اليسار المتطرف" يسيطر عليها، وهاجم مرشحين ديمقراطيين ينتمون للجناح التقدمي للحزب، باعتبارهم "يساريين متطرفين".
لكن ما هو اليسار الأميركي؟ وما الذي يقصده ترمب تحديداً حين يشير إلى "اليسار"، و"اليسار المتطرف"؟
اليسار الأميركي وأطيافه الثلاث
يتكون ما يعرف بـ"اليسار الأميركي" بشكل عام من 3 فصائل رئيسية، اليسار الاشتراكي، واليسار الليبرالي، واليسار المعتدل، ولكن عندما نتحدث عن اليسار في أميركا، فإننا في النهاية نتحدث عن أجنحة الحزب الديمقراطي، وفق الكاتب السياسي روس باركان.
ولا يقصد باركان أن اليسار مقتصر على الحزب الديمقراطي فقط، فهناك نشاط سياسي خارج الحزب، لكنه يوضح أن الغالبية العظمى من النقاشات بشأن "اليسار" في أميركا تنتهي، غالباً، بسبب طبيعة النظام السياسي الأميركي إلى الحديث عن الاتجاه الذي يجب أن يسلكه الحزب الديمقراطي.
اليسار الاشتراكي.. ساندرز واتباعه
قبل عام 2016 لم يكن هناك سوى تمثيل هامشي لمنظمة الاشتراكيين الديمقراطيين DSA، والتي تأسست عام 1982 لترويج الاشتراكية، ومحاولة دفع الحزب الديمقراطي نحو اليسار.
في 2016، أعاد السيناتور بيرني ساندرز، الأمل لليساريين في التأثير والسلطة، إذ أحيا ساندرز التيار الاشتراكي بقيادته أول حملة انتخابية كبرى لرئاسة الولايات المتحدة منذ يوجين ديبس، مرشح المنظمة الاشتراكية الديمقراطية، قبل نحو مئة عام، وفق أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، ريتشارد جروبر.
كان ديبس قد ترشح للرئاسة خمس مرات، وحصل على ملايين الأصوات، وكانت آخرها عام 1920 من زنزانته بعد مشاركته في إضراب ضد خفض الأجور في إحدى شركات السيارات.
وفي بداية القرن العشرين، بدا وكأن منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين قادرة على منافسة الحزبين الأساسيين (الجمهوري والديمقراطي)، لكن أستاذ العلوم السياسية جروبر، قال لـ"الشرق" إن الزخم تبدد بعد الحرب العالمية الأولى، تزامناً مع موجة الخوف من المد الشيوعي وما تبعه من حملات اعتقالات واسعة ضد اليساريين.
وأضعفت تلك الإجراءات المنظمة الاشتراكية، وخفُت وجود اليسار وتجاهلهم الديمقراطيون بسبب وضعهم الهامشي.
وبحلول التسعينيات كان اليسار تائهاً، إذ انضم بعضهم للديمقراطيين، وتشبث البعض الآخر بحزب الخضر "الاشتراكي" الذي تأسس عام 1984، من خلال بضع عشرات من التقدميين المحبطين من تحول الحزب الديمقراطي نحو الوسط.
تبنى "الخضر" نفس برنامج منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين الذي يؤكّد على إعادة توزيع الثروة، والاقتصاد التضامني، والرؤية النقدية للرأسمالية، لكنه يتميز بوضع القضايا البيئية في مركز برنامجه الانتخابي، بينما الحزب الاشتراكي يركز على تنظيم عمالي وانتخابي محلي.
خاض حزب الخضر الانتخابات الرئاسية منذ عام 1996، لكن ذروته كانت في عام 2000 بترشيح الناشط والسياسي رالف نادر، الذي حصل على 3 ملايين صوت، لكنه لم يقترب من الفوز.
وأشار جروبر إلى أن بيرني ساندرز غير ذلك، إذ أحيا الاشتراكيين من الموات، رغم أنه ليس عضواً رسمياً داخل حزب الاشتراكي الديمقراطي.
وتابع جروبر: "ساندرز يعرف نفسه على أنه مستقل، لكنه في الحقيقة القائد الفكري لحركة الاشتراكيين الديمقراطيين، والذي أضفى شرعية عليها وجذب الكثير من اليسار. لكنه عندما أراد الترشح للرئاسة في المرتين ترشح كديمقراطي وليس كاشتراكي أو تقدمي أو مستقل".
تنظيم الاشتراكيين الديمقراطيين.. ممداني ورفاقه
ينتمي جزء كبير من التيار اليساري داخل الحزب الديمقراطي إلى منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين DSA، ومن رموزه المرشح الديمقراطي لمنصب عمدة نيويورك زهران ممداني والنائبة ألكساندريا أوكاسيو كورتيز ورشيدة طليب، وجميعهم أعضاء بالحزب الديمقراطي.
قال باركان "هؤلاء هم الديمقراطيون الذين لا يمانعون في وصف أنفسهم بالاشتراكيين، بالاضافة إلى ساندرز لكنه ليس عضواً في DSA وإن كان يحظى بدعمها".
واعتبر الكاتب السياسي باركان أن "الاشتراكيين الديمقراطيين" هو التنظيم الأساسي الذي يرشح ويدعم ديمقراطيين في الانتخابات، قائلا لـ"الشرق" إن هناك منظمات كثيرة تدعم الديمقراطيين لكنها لا تنتج حركة سياسية بحد ذاتها، بل تقدم دعماً وتمويلاً في الانتخابات مثل مجموعات المناخ، أو جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، أو اتحادات العمال.
ومع ذلك، قال باركان "ليس كل من ينتمي إلى اليسار الاشتراكي في أميركا عضواً في منظمة الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين"، رغم أن عدداً كبيراً منهم مرتبط به بالفعل.
وتضم هذه المنظمة اليوم ما يزيد عن 85 ألف عضو في مختلف الولايات، وتوقع باركان أن يتجاوز العدد الـ100 ألف قريباً.
بجانب الاشتراكي الديمقراطي، الذي دعم ساندرز، وحزب الخضر، يضم اليسار الاشتراكي، أيضاً، مجموعات أخرى "أصغر وأقل تأثيراً"، مثل "البديل الاشتراكي" Socialist Alternative و"حزب الاشتراكية والتحرير" PSL.
لكن على عكس تلك الحركات الأخرى، فإن نفوذ حركة الاشتراكيين الديمقراطيين يمتد إلى الساحة السياسية، حيث تمكن من دعم ودفع مرشحين للفوز في الانتخابات المحلية والكونجرس.
الحزب الديمقراطي بين تيارات اليسار
شهد الحزب الديمقراطي تحولًا أيديولوجياً ملحوظاً نحو اليسار. وبحسب بيانات جالوب، انخفضت نسبة المعتدلين في الحزب من أغلبية 48% إلى 35% خلال ربع قرن منذ الولاية الأولى لبيل كلينتون، بينما تضاعفت نسبة اليسار من 25% إلى 51%. وكان عام 2020 أول عام على الإطلاق يُشكل فيه اليسار تيار صاعد في الحزب.
أستاذ التاريخ السياسي في جامعة بينجامتون في نيويورك، والخبير في السياسة الأميركية الحديثة، دونالد نيمان قال لـ"الشرق" إن هناك "التكتل التقدمي" في الكونجرس، الذي يجمع من هم على يسار الحزب، ويُشكلون 94 من أصل 212 ديمقراطياً في مجلس النواب، "لذا فهم أقوياء ولكنهم لا يُشكلون أغلبية".
واعتبر نيمان أن التقدميين ليسوا متفوقين في الحزب الديمقراطي، مشيراً إلى أنه منذ ترشيح بيل كلينتون عام 1992، اتسم الحزب الديمقراطي بطابع محافظ إلى حد ما، "يميلون إلى احترام السوق، والحذر في زيادة الضرائب على الأغنياء".
لكن المحامي الحقوقي والمرشح السابق في مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي روبرت باتيلو ، أشار إلى صعود اليسار الأميركي، قائلاً "نحن في مرحلة سياسية فارقة، والمستقبل فيها لليسار".
أضاف باتيلو في حديث مع "الشرق" أن جيل Z وجيل ألفا، يميلون بوضوح نحو اليسار وقضاياه، ولن يكون هناك أي مستقبل للحزب الديمقراطي دون قيادة يسارية.
ملفات اليسار الاشتراكي
تتفق الفصائل الثلاث من "اليسار الأميركي" في القضايا الاجتماعية إلى حد كبير، لكنهم يختلفون في القضايا الاقتصادية. ويقول أستاذ العلوم السياسية جروبر إن اليسار الاشتراكي الأميركي ناقد جذري للرأسمالية ويدعو إلى بدائل لها.
ويسعى اليسار الاشتراكي إلى تجاوز الرأسمالية نحو نظام أكثر مساواة يقوم على الملكية العامة، والنقابات القوية، والرعاية الصحية الشاملة والسكن للجميع، والتعليم الجامعي المجاني، وإلغاء الديون الجامعية، وإلغاء تمويل الشرطة، مع إعادة توزيع الثروة لصالح العمال والفقراء وفرض ضرائب أعلى على الأغنياء لتحقيق المزيد من المساواة في البلاد.
كما يهتم بمكافحة تغير المناخ وحماية البيئة، ويتبنى اليسار الاشتراكي موقفاً مناهضاً للإمبريالية ويدعو لانسحاب القوات الأميركية من الخارج.
اليسار الليبرالي.. إليزابيث وارن
على عكس اليسار الاشتراكي، يفضل اليسار الليبرالي الأميركي إصلاح النظام على تفكيكه.
ومن أبرز رموز هذا التيار أستاذة القانون السيناتور إليزابيث وارن التي وصفت نفسها خلال حملتها الرئاسية 2019، بأنها "رأسمالية حتى النخاع"، وتقول إن اليساريين الليبراليين مستعدون لانتقاد الرأسمالية، وأكدت أنه من "الخطأ" وصفها بالاشتراكية.
نافست وارن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن وساندرز في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي. وبينما علّق البعض، حينها، أن الاختلافات الجوهرية بين وارن وساندرز محدودة، اقترح البعض بحسب مجلة "نيويوركر"، أن الانقسام بين ساندرز ووارن يمكن تأطيره على أنه "ثورة مقابل إصلاح"، حيث يشجع الاشتراكي ساندرز على "ثورة سياسية يشارك فيها ملايين الأشخاص ضد مجموعة من المتلاعبين بالاقتصاد"، في حين التقدمية وارن أكثر اهتماماً بالعمل داخل النظام.
وقال الكاتب السياسي باركان إن اليساريين الليبراليين يسعون إلى تسوية مع الرأسمالية، وهو ما لا يسعى إليه الاشتراكيون، مضيفاً "اليسار الليبرالي ينتقد الرأسمالية لكنه لا يذهب إلى حد وصف نفسه بالاشتراكي".
وعلى عكس اليسار الاشتراكي لا يؤسس اليسار الليبرالي سياساته على معاداة الإمبريالية، بل يميل إلى تفضيل دول مثل إسرائيل كحليف تقليدي لأميركا، ويجادلون بأهمية الحفاظ على القواعد العسكرية الأميركية في الخارج.
ويعتبر باركان أن اليسار الليبرالي يحتل مكانة بارزة ويسيطر على عقول الأميركيين، لكنه "لا يمتلك القوة التنظيمية التي يمتلكها الاشتراكيون، ولا يستطيع بناء تحالفات جماهيرية كتلك التي يمتلكها المعتدلون".
ويوضح أن "معظم القنوات والصحف الكبرى أقرب إلى الليبراليين، مثل نيويورك تايمز. أما الإعلام الذي يعرف نفسه بالاشتراكي محدود جداً، وأبرز مثال له هو مجلة جاكوبين Jacobin"، وهي مجلة محلية تابعة لمنظمة الاشتراكيين الديمقراطيين الأميركيين.
ملفات اليسار الليبرالي
مع بدء حملة 2020، كانت وارن بالنسبة لمجلة جاكوبين خياراً مثالياً. وفي مقال، قالت كاتبة العمود في جاكوبين ليزا فيذرستون، "لو لم يكن بيرني ساندرز مرشحاً، لكانت رئاسة إليزابيث وارن على الأرجح السيناريو الأمثل"، وأضافت "وارن ليبرالية صالحة".
دخلت وارن السباق وهي متبنية معظم برنامج ساندرز عام 2016، لكنها تراجعت خلال حملتها عن رؤيته "الرعاية الطبية للجميع"، وفضلت نهجاً تدريجياً.
ويتشارك اليسار الليبرالي مع الاشتراكي في دعوته لتطبيق الرعاية الصحية الشاملة، لكن مع اختلاف في النظرة.
ويرغب اليسار الاشتراكي غالباً في تطبيق نظام موحد تسيطر فيه الدولة على الرعاية الصحية، بينما اليسار الليبرالي يدعم تحسين النظام الحالي ويدعو إلى إضافة خيار عام ينافس شركات التأمين الخاصة.
وتركز النظرية الليبرالية على الحرية كمبدأ أساسي، سواءً كانت حرية الفرد أو الاختيار الاقتصادي، لذا تسعى إلى بناء مؤسسات للحقوق المدنية والسياسية.
وفي الاقتصاد، لا يقدس الليبراليون السوق كقيمة مطلقة، لكنهم يعترفون بأن الأسواق أفضل آليات لتخصيص الموارد وتحفيز الابتكار والاستثمار. حتى أن وارن قالت "أنا أدعم السوق الفعال".
وقال باركان إن الليبراليين يرون أن السوق يحتاج قواعد وضوابط ومكافحة الاحتكار، وتنظيمات لحماية المستهلك والبيئة، وحماية حقوق العاملين، "لأن السوق غير المنظم قد يقوض الحرية الفعلية للناس".
تأثير التيار الليبرالي على الحزب الديمقراطي
يختلف اليسار الليبرالي عن الاشتراكي في قاعدته الانتخابية، إذ ينتمي اليسار الليبرالي إلى طبقة مهنية متعلمة وغنية أو تلك التي يطلق عليها العمال ذوي الياقات البيضاء، وليس إلى حركة عمالية جماهيرية.
وتظهر تأثيرات هذا الاختلاف داخل الحزب الديمقراطي. وقال باركان إن الخطاب التقدّمي داخل الحزب، أصبح مرتبطاً بقاعدة انتخابية ذات نفوذ مؤسسي من أكاديميين، وموظفي مؤسسات ومدراء، وهو ما يمثل تحولاً في ارتباط الديمقراطيين بالعمال والمنظمات النقابية.
وهو انتقاد أشار إليه الديمقراطي باتيلو، قائلا إن "جذب النخبة المهنية لا يساوي بناء حركة عمالية جماهيرية"، مضيفاً أن الاعتماد على قاعدة مهنية غنية يجعل من الصعب فرض تغييرات هيكلية واسعة مثل إعادة توزيع الثروة.
ولفت باتيلو إلى أن الكتلة الأكبر من الناخبين الديمقراطيين وهم العمال يشعرون بالاغتراب عن الخطاب السائد لليسار الليبرالي، قائلاً إن تركيز الخطاب الليبرالي على أولويات الطبقة المتعلمة ونظرية العرق النقدي والهوية وليس الاقتصاد والعمال "جعلهم يفقدون جزئياً القاعدة العريضة من الناخبين العمال والفقراء، الذين يحتاج الديمقراطيون إلى كسب دعمهم في الانتخابات".
اليسار الليبرالي و"العائلات العاملة"
على عكس اليسار الاشتراكي، لا ينشط اليسار الليبرالي من خلال كيان حزبي، بل من خلال منظمات غير ربحية وغير حكومية مثل "Indivisible"، والمجموعات المناخية، والكثير من الحركات المناهضة لترمب، وكلها ليبرالية وليست اشتراكية.. على حد قول باركان.
بعض تلك المنظمات أسست مع نشطاء يساريين ونقابات عمالية حزب "العائلات العاملة" WFP الذي تأسس في نيويورك في التسعينيات، بهدف الضغط على الحزب الديمقراطي لتبني توجهات اليسار.
وخلال الحملة الرئاسية 2020، أيد حزب "العائلات العاملة" إليزابيث وارن، وهو ما أثار غضب أنصار بيرني ساندرز، خاصة أنه دعم ساندرز في سباق 2016.
وقال باركان إن الحاكم السابق لنيويورك أندرو كومو (2011- 2021) كان وسطياً ومعادياً "للعائلات العاملة"، وتمكّن من دفع معظم النقابات العمالية إلى الانسحاب منه، مضيفاً "بخروج النقابات، فقد الحزب قوة كبيرة حتى اضطر، أحياناً، لتأييد الجمهوريين. ثم بدأ الحزب يتبنى خطاب اليسار بشكل أوضح ويعبر عنه أكثر، بدلا من محاولات التوازن أو التسويات".
اليسار المعتدل
يتواجد الفصيل الثالث من اليسار الأميركي، بشكل أساسي، داخل الحزب الديمقراطي، وأشار أستاذ العلوم السياسية جروبر إلى إن الأغلبية المطلقة من أعضاء الحزب الديمقراطي لا تُؤيد أياً من الفصيلين اليساري الاشتراكي والليبرالي، وقال: "هم يعتبرون أنفسهم معتدلين".
وفي الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي 2016، خسر الاشتراكي ساندرز أم الليبرالية كلينتون، لكنها خسرت أمام الجمهوري ترمب. وفي 2020، فاز المعتدل (يسار الوسط) جو بايدن على الليبرالية وارن والاشتراكي ساندرز في انتخابات الحزب الديمقراطي التمهيدية، وفاز على الجمهوري ترمب في الانتخابات العامة.
واستبعد أستاذ التاريخ السياسي دونالد نيمان أن يفوز بالرئاسة أي تقدمي أو اشتراكي، معتبراً أن "الكفة" دائماً ما ترجح المعتدل.
ويبدو أن تجربة ساندرز، تركت درساً طويل الأمد في عقل الحركة الديمقراطية، وهي أن ترشيح أي مرشح يبتعد عن الوسط كثيراً قد يفوز بالانتخابات التمهيدية لكنه يخسر الانتخابات العامة.
وقال نيمان "منذ فوز بيل كلينتون، أدرك الديمقراطيون، ككل، أن الولايات المتحدة دولة يمينية وسطية، لذا لا يمكنهم الانحراف عنها والفوز".
لكن الديمقراطي باتيلو يرى أن هناك مستقبلاً لمرشح رئاسي تقدمي، ملقياً باللوم على الوسطيين في الحزب في صعود حركة MAGA الجمهورية وخسارة الديمقراطيين.
وقال باتيلو إن عام 2016 مع بيرني ساندرز، شكّل نقطة تحوّل استراتيجية، "ولو كان الحزب الديمقراطي قد استمع لساندرز، آنذاك، وموّل حركته، لكانت السنوات العشر الماضية من السياسة الأميركية قد أخذت مساراً مختلفاً تماماً. كنا سنعيش في عالم مختلف".
ملفات اليسار المعتدل
على عكس اليسار الاشتراكي الناقد الجذري للرأسمالية والذي يدعو إلى بدائل لها، واليسار الليبرالي الذي ينتقدها ويدعو لإصلاحها، يؤيد اليسار المعتدل الرأسمالية ومؤسساتها ويميل أكثر إلى الشركات والسوق.
وقال باركان إن اليسار المعتدل يرى السوق والملكية الخاصة جزء مقبول ومفيد من النظام، لكنه في المقابل لا يعترض على زيادة الإنفاق أو برامج اجتماعية مثل دعم الأطفال، إذا صيغت بطريقة مقنعة، موضحاً أن "الفارق الحقيقي ليس في وعيهم الاقتصادي بل في كيفية تقديم المواقف والسياسات بما يكون مقبولاً لدى الناخبين الذين ليسوا بالضرورة محافظين اقتصادياً لكنهم يميلون إلى الحذر إزاء شعارات يُمكن أن تُفسّر على أنها متطرفة".
ويضم اليسار المعتدل شخصيات مثل حكيم جيفريز وأعضاء آخرين يمثلون دوائر انتخابية أكثر محافظة. هؤلاء أقرب إلى الوسط، وهم مؤيدون للشركات، داعمون لتوجهات أكثر تقليدية في الاقتصاد والأمن.
تحالفات الضرورة
ومع ذلك، يقبل المعتدلون، أحياناً على عقد صفقات مع اليسار الليبرالي والاشتراكي إذا ما تطلبت الحاجة.
وفي أواخر يونيو الماضي، فاز المرشح الاشتراكي زهران ممداني في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في السباق على منصب عمدة مدينة نيويورك.
وبعد أشهر من الانقسام الديمقراطي حوله، تصدر ممداني السباق بفارق يتجاوز الـ20 نقطة على أقرب منافسيه، الديمقراطي المعتدل الذي يترشح كمستقل أندرو كومو.
وبعد إعلان الرئيس ترمب رغبته في تعطيل تقدم ممداني، أعلنت حاكمة ولاية نيويورك، الوسطية، كاثي هوكول، تأييدها لممداني.
وتختلف هوكول مع ممداني، بشأن الضرائب والسلامة العامة وإسرائيل وتعارض رغبته في زيادة الضرائب على سكان المدينة الأثرياء للغاية، وكذلك خفض تمويل الشرطة.
وقال نيمان إن الوسطيين سيدعمون تقدميين مثل ممداني، كما فعلت هوكول وهي وسطية، لأنها تدرك حاجتها إلى دعم التقدميين لإعادة انتخابها في 2026.
وانتقد المحلل السياسي الجمهوري أولنجر، حاكمة نيويورك لتأييدها ممداني، قائلاً لـ"الشرق" إن المتطرفين اختطفوا الحزب الديمقراطي بأكمله "ربما سيصبح عمدة مدينة نيويورك، شيوعياً. لأول مرة منذ 250 عاماً، وهذا مقبول لدى الديمقراطيين".
لكن زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، وزعيم الأقلية في مجلس النواب، حكيم جيفريز، لم يعلنا تأييدهما لممداني حتى الآن.
وأبدى باتيلو تفهمه لعدم إعلان جيفريز تأييده لممداني، قائلاً "أعلم أن بصفته زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب، وليس مجرد سياسي من نيويورك، عليه أن يفكر في الديمقراطيين الذين يترشحون في ولايات مثل ساوث كارولاينا وتينيسي وأريزونا والمناطق المحافظة. لا يستطيع جيفريز المعتدل أن يكون يسارياً بقدر ممداني المرتبط بنيويورك فقط".
الفصيل الذي يستهدفه ترمب
عندما ألقى ترمب على ما أسماه "اليسار المتطرف" مسؤولية "العنف السياسي"، أجمع المراقبون على تنوع توجهاتهم السياسية، الذين تحدثت معهم "الشرق"، على أن تصريحات ترمب لا تستهدف فصيلاً بعينه من اليسار، بل توجّه الاتهام إلى الحزب الديمقراطي بشكل عام.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، ريتشارد جروبر، قال إن الحزب الديمقراطي هو التيار اليساري الأميركي الذي ينافس الحزب الجمهوري في الانتخابات الرسمية، "لذا فهو هدف أساسي لترمب مع اقتراب الانتخابات النصفية 2026".
واتفق معه المحامي الحقوقي والمرشح السابق في مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي روبرت باتيلو مع رأي جروبر، قائلاً إن ما يحاول ترمب فعله هو تنشيط قاعدته الانتخابية، وتحفيزها على المشاركة في انتخابات التجديد النصفي.
واتفق الجمهوري سكوت أولنجر مع آراء سابقيه، قائلا "للأسف، ما يتحدث عنه الرئيس ترمب هو الحزب الديمقراطي بأكمله".
لكن أولنجر اختلف في تبرير ذلك عن سابقيه معتبراً أن الحزب الديمقراطي منذ نحو 20 عاماً أصبح "أكثر تطرفا"، مضيفاً: "ليس هذا الحزب الديمقراطي القديم، لقد تحول إلى حزب شيوعي راديكالي. انحرفوا تماماً عن مسارهم، ويدعون باستمرار إلى العنف".