"مبدأ دونرو".. كيف أعاد ترمب هيمنة واشنطن على أميركا اللاتينية؟

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال لقاء نظيره الأرجنتيني خافيير ميلي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. 23 سبتمبر 2025 - REUTERS
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال لقاء نظيره الأرجنتيني خافيير ميلي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. 23 سبتمبر 2025 - REUTERS
دبي-الشرق

أعاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب رسم دور واشنطن في أميركا اللاتينية بقوة "غير مسبوقة" منذ عقود، مستخدماً الثقل العسكري والاقتصادي لواشنطن "بلا تحفظ"، وعامل المنطقة باعتبارها "منطقة نفوذ حصرية" للولايات المتحدة، وفق صحيفة "وول ستريت  جورنال".

وذكرت الصحيفة الأميركية في تقرير، السبت، أنه لم يمارس أي رئيس أميركي ضغطاً بهذا الحجم على المنطقة منذ ذروة الحرب الباردة، حين ركز الرئيس الراحل رونالد ريجان جهوده هناك على مواجهة حركات التمرد اليسارية في أميركا الوسطى، ونظام الساندينيين في نيكاراجوا.

معاقبة الخصوم

ومن الحدود المكسيكية إلى باتاجونيا، يعاقب ترمب خصومه بفرض رسوم جمركية مرتفعة، وشن ضربات جوية وإطلاق تصريحات نارية، في حين يغدق على من يعتبرهم أصدقاءه مساعدات أمنية وصفقات اقتصادية. 

وقد وصف أحد المحللين هذا النهج بـ"مبدأ دونرو" (The Donroe Doctrine)، في تلاعب لفظي يشير إلى "مبدأ مونرو" في القرن الـ19 الذي وجّه السياسة الأميركية تجاه المنطقة.

وتعود تسمية "مبدأ دونرو" إلى الرئيس الأميركي جيمس مونرو (1817-1825)، الذي سلّم في 2 ديسمبر عام 1823، للكونجرس الأميركي، رسالة عرفت بعد ذلك باسم "مبدأ" أو "عقيدة"، مفادها ضمان سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على النصف الغربي من الكرة الأرضية، وإغلاق الطريق أمام القوى الأوروبية الاستعمارية، المتواجدة في أراضي الأميركتين الشمالية والجنوبية في ذلك الوقت. وقال مونرو في إعلانه إن "العالم القديم" و"العالم الجديد" لهما نظم مختلفة ويجب أن يظلا محيطين منفصلين.

وُتعد أميركا اللاتينية منطقة بالغة الأهمية لتحقيق أهداف ترمب المتمثلة في وقف الهجرة وتدفق المخدرات إلى الولايات المتحدة، إلى جانب مواجهة النفوذ الصيني المتنامي في المنطقة خلال العقدين الماضيين.

"الفناء الخلفي" للولايات المتحدة

وقال مايكل شيفتر، الباحث البارز في مركز "الحوار بين الأميركيتين" بواشنطن: "لم نشهد رئيساً أميركياً يتصرف بهذه الجرأة والعدائية في أميركا اللاتينية كما يفعل ترمب". 

وأضاف أن "عقلية ترمب تقوم على اعتبار المنطقة الفناء الخلفي للولايات المتحدة وحقاً استراتيجياً لها، تحت شعار حماية الوطن وتعزيز مبدأ أميركا أولاً".

ويحظى الحلفاء الذين يمتدحون الرئيس الأميركي ويتوافقون مع رؤيته للعالم، مثل الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي ورئيس السلفادور نجيب بوكيلة، بصفقات واحتضان سياسي دافئ، بينما يجد المعارضون أنفسهم في مرمى نيرانه، وعلى رأسهم الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، والرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، والكولومبي جوستافو بيترو.

دبلوماسيون متمرسون

ويتمتع كبار دبلوماسيي إدارة ترمب بخبرة واسعة في أميركا اللاتينية، من بينهم وزير الخارجية ماركو روبيو، وهو نجل مهاجرين كوبيين، أجرى زيارات عدّة إلى المنطقة رغم انشغاله بمحادثات السلام في أوكرانيا، وغزة.

ويشغل كريستوفر لاندو، السفير الأميركي السابق لدى المكسيك، منصب الرجل الثاني في وزارة الخارجية. أما السفير الجديد لدى المكسيك، رون جونسون، فهو ضابط استخبارات أميركي سابق يتمتع بخبرة واسعة في شؤون أميركا اللاتينية.

وقال روبيو إن الإدارات الأميركية السابقة تجاهلت نصف الكرة الغربي، وتغاضت عن خصوم الولايات المتحدة، ما أضر بالمصالح الأميركية.

وكتب في مقال رأي بصحيفة "وول ستريت جورنال" في وقت سابق هذا العام: "نتيجة لذلك، سمحنا للمشكلات بأن تتفاقم، وأضعنا فرصاً وأهملنا شركاءنا. هذا الوضع انتهى الآن".

الإدارات السابقة وأميركا اللاتينية

وقبل عهد ترمب، دعمت الولايات المتحدة حلفاءها في أميركا اللاتينية بينما عزلت وعاقبت الدول التي تعتبرها "أنظمة استبدادية ومعادية"، وهي كوبا وفنزويلا ونيكاراجوا، في إطار سياسة تقوم على اعتبارات أوسع نطاقاً وطويلة الأجل.

وحاول الرئيس السابق بيل كلينتون تعزيز الروابط التجارية مع المنطقة، فيما روج خلفه جورج دبليو بوش للديمقراطية وكثف الحرب الأميركية على مهربي المخدرات في كولومبيا، أما باراك أوباما فأعاد العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع كوبا، مهدئاً التوتر مؤقتاً بين البلدين. 

وعملت إدارة بايدن مع القادة المنتخبين ديمقراطياً بغض النظر عن توجهاتهم، وساعدت في تسهيل انتخابات في فنزويلا مُني فيها مادورو بهزيمة فادحة، وفقاً للصحيفة.

ومنذ اليوم الأول لإدارته، انقلب ترمب وفريقه على نهج استمر لعقود، متبعين أسلوباً أكثر تصادمية يستدعي استجابات سريعة من قادة المنطقة.

وقد تجلى ذلك منذ حفل تنصيبه، حين أعلن ترمب أن الصين تسيطر على قناة بنما، وتعهد بأن تستعيد الولايات المتحدة السيطرة عليها. وبعد أيام، هدد بفرض رسوم بنسبة 25% على كولومبيا إذا لم يسمح الرئيس اليساري جوستافو بيترو، وهو متمرد سابق، بهبوط رحلات ترحيل المهاجرين. وسرعان ما رضخ بيترو.

كما هاجم ترمب المكسيك، أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، متهماً إياها بالتحالف مع عصابات المخدرات. وضغط على الرئيسة المكسيكية كلاوديا شينباوم للسماح للقوات الأميركية بقيادة العمليات ضد العصابات، مهدداً بالتحرك بشكل أحادي إذا رفضت المكسيك، وقد رفضت شينباوم أي وجود عسكري أميركي مباشر.

رابحون وخاسرون

ويرى محللون أن ترمب بات يربط سياساته بشكل متزايد بشخصيات القادة السياسيين وأيديولوجياتهم، وبالطبيعة القائمة على المعاملات في العلاقات الثنائية. وقد أدرك بعض القادة أن المديح، إلى جانب جرعة كافية من الضغط المباشر، يمكن أن يدر عليهم مكاسب كبيرة.

ولا يستفيد أي رئيس من هذا النهج أكثر من الأرجنتيني ميلي، الذي أقام علاقات وثيقة مع إيلون ماسك، وكان قد صرح سابقاً بأن هزيمة ترمب في انتخابات 2020 "عرضت الحضارة الغربية للخطر".

وفي هذا السياق، تعهدت إدارة ترمب، الأربعاء، بتقديم شريان حياة مالي للأرجنتين وسط أزمة ثقة تهدد بإفشال برنامج ميلي الاقتصادي الحر. 

وقال وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، إن الولايات المتحدة قد تقدم تسهيلات تبادل بقيمة 20 مليار دولار، أو تشتري سندات دولارية أرجنتينية، أو تمنح البلاد تسهيلات ائتمانية عبر صندوق تثبيت الصرف التابع للخزانة الأميركية.

وفي المقابل، يواجه القادة اليساريون، مثل بيترو ومادورو، أوضاعاً أصعب. فقد منحت واشنطن هذا الشهر كولومبيا، الحليف الأبرز للولايات المتحدة في الحرب على المخدرات، تقييماً متدنياً في تقريرها السنوي. 

كما أعلنت وزارة الخارجية، الجمعة، أنها ستسحب تأشيرة بيترو بعدما حض الجنود الأميركيين على "عصيان أوامر" ترمب خلال احتجاج في نيويورك.

وفي الكاريبي، شن الجيش الأميركي هذا الشهر ثلاث ضربات جوية على الأقل ضد قوارب يُشتبه في نقلها مخدرات من فنزويلا، مع تحذير ترمب من شن المزيد من الهجمات مستقبلاً.

ووفقاً للصحيفة، يهدد هذا النهج بإقصاء قادة منطقة تسعى إلى تعزيز التعاون التجاري والاستثماري مع واشنطن، لكنها تبقى حذرة بسبب تاريخ الولايات المتحدة في التدخلات العسكرية والسياسية، فيما يستغل خصوم واشنطن، وعلى رأسهم الصين، هذه التوترات لصالحهم.

في هذا الإطار، قال بنيامين جيدان، الباحث في مبادرة دراسات أميركا اللاتينية بجامعة "جونز هوبكنز": "هذا ليس سلوك قوة تسعى إلى ترسيخ نفسها كشريك دولي مفضل للمنطقة". وأضاف: "إذا كانت هذه هي الاستراتيجية، فهذا يعني أنهم خلصوا إلى أن المنطقة يمكن إرغامها على الخضوع والولاء بالقوة".

وشكك جيدان في ما إذا كانت إدارة ترمب منخرطة فعلياً مع المنطقة في قضايا تتجاوز وقف الهجرة وتهريب المخدرات، وهما قضيتان تحشدان قاعدته السياسية.

سياسات "متقلبة"

وأشارت "وول ستريت جورنال" إلى أن الولايات المتحدة قلصت مساعدات كانت تكسبها تعاطف شعوب المنطقة البالغ عددهم 660 مليون نسمة، من برامج مكافحة إزالة غابات الأمازون إلى تحسين فرص العمل في أميركا الوسطى ومساعدة المزارعين الكولومبيين في الحصول على سندات ملكية للأراضي.

ويقول محللون إن سياسة الإدارة الأميركية قد تكون متقلبة، فالإدارة تقترح أحياناً إجراء محادثات مع فنزويلا، ثم تتخذ بعد أيام نهجاً أكثر تشدداً. وتُعد الدول الأكثر اعتمادًا على الولايات المتحدة، مثل المكسيك أو دول أميركا الوسطى، الأكثر عرضة للتأثر بذلك.

أما البرازيل، القوة الإقليمية الكبرى وصاحبة الصادرات المتزايدة إلى الصين، فلديها مساحة للمناورة في علاقتها المتوترة مع ترمب.

وأبدى ترمب غضبه من إدانة أكبر دولة في أميركا اللاتينية حليفه الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، واتهم الرئيس لولا دا سيلفا بـ"ممارسة الرقابة والقمع"، وذلك في خطاب ألقاه بعد شهرين من فرض الولايات المتحدة رسوماً جمركية بنسبة 50% على البلاد.

وقال ترمب في خطابه، الثلاثاء، أمام الأمم المتحدة: "البرازيل تسير نحو الفشل، ومن دوننا ستفشل كما فشل آخرون".

ورد دا سيلفا من على منبر الأمم المتحدة قائلاً: "لا يوجد أي مبرر لإجراءات أحادية وتعسفية ضد مؤسساتنا واقتصادنا"، مضيفاً: "أمام أعين العالم، وجهت البرازيل رسالة لكل الطغاة المحتملين ومن يدعمهم: ديمقراطيتنا وسيادتنا ليستا قابلتين للتفاوض".

مع ذلك، أقرّ خبراء في شؤون أميركا اللاتينية بأنهم لا يعرفون إلى أين ستتجه سياسة ترمب المقبلة.

أما ترمب نفسه فقد بدا متردداً، ففي الخطاب نفسه الذي هاجم فيه البرازيل، روى مصادفته للرئيس دا سيلفا قبل دقائق قائلاً: "رأيته، ورآني، وتعانقنا... بدا رجلاً لطيفاً جداً في الواقع. أحبني، وأحببته. وأنا لا أتعامل إلا مع أشخاص أحبهم".

وأضاف لاحقاً: "على الأقل لمدة 39 ثانية تقريباً، كان بيننا توافق ممتاز".

تصنيفات

قصص قد تهمك