"التجنيد الطوعي والإلزامي".. خيار أوروبي في سيناريوهات مواجهة روسيا

عرض عسكري بيوم القوات المسلحة البولندية في وارسو خلال ذكرى انتصار بولندا على الجيش الأحمر السوفيتي في عام 1920. 15 أغسطس 2025 - Reuters
عرض عسكري بيوم القوات المسلحة البولندية في وارسو خلال ذكرى انتصار بولندا على الجيش الأحمر السوفيتي في عام 1920. 15 أغسطس 2025 - Reuters
دبي -عبد السلام الشامخ

بعد انقطاع دام ما يقرب من 30 عاماً، أعلنت فرنسا، الخميس، إعادة العمل بالخدمة العسكرية الطوعية، في خطوة جديدة تُظهر كيف يُعيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رسم المشهد الأمني في قارة أوروبا.

وأصبحت فرنسا أحدث دولة في الاتحاد الأوروبي تكشف عن خطط لتوسيع جيشها، إذ أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن المتطوعين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و19 عاماً، سيبدأون الخدمة العسكرية الصيف المقبل، في برنامج جديد للخدمة العسكرية مدته 10 أشهر.

وقال خلال زيارته قاعدة عسكرية في جبال الألب الفرنسية، إن "الخدمة ستكون إلزامية فقط في حالات الأزمات الكبرى"، مؤكداً رفضه إعادة التجنيد الإجباري الكامل، لكنه شدد على أن فرنسا قد تستدعي الشباب ذوي المهارات في حالة الحرب.

وأثار الجنرال فابيان ماندون، القائد الأعلى للجيش الفرنسي ورئيس هيئة الأركان، ضجة إعلامية وسياسية الأسبوع الماضي، عندما أشار إلى أن البلاد يجب أن تستعد لـ"فقدان أبنائها"، مؤكداً أن أن روسيا "تستعد لمواجهة دولنا بحلول عام 2030".

الخدمة العسكرية في دول الاتحاد الأوروبي
الخدمة العسكرية في دول الاتحاد الأوروبي - الشرق

ومن غير المرجح أن تشمل الخطة الفرنسية، إعادة التجنيد الإلزامي الذي أُلغي في عام 1997. وتقدم بعض الدول مزايا للمجندين الطوعيين، مثل مكافآت نقدية أو تفضيل في التوظيف بالقطاع العام أو الحصول على فرص تعليمية أعلى.

وفي مواجهة التهديد العسكري الروسي وعدم اليقين بشأن التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن حلفائها عبر الأطلسي، تسارع أوروبا لتعزيز صناعتها الدفاعية وقدرتها على الانتشار بعد أن قامت بتقليصهما بشكل كبير منذ الحرب الباردة.

وأصدرت ألمانيا وبلدان البلطيق (ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا) والسويد وكرواتيا، قوانين لإعادة الخدمة العسكرية، بينما حافظت فنلندا واليونان والدنمارك على نظم التجنيد الإلزامي منذ عقود. 

وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدتها روسيا في حرب أوكرانيا، إلا أن الجيوش الأوروبية تراها كـ"تهديد محتمل مباشر" خلال فترة تتراوح بين سنتين وخمس سنوات.

وفي الوقت نفسه، أوضحت واشنطن أنها تتوقع من حلفائها الأوروبيين تحمل جزء أكبر من مسؤولية الدفاع عن أنفسهم.

مفهوم "الدفاع الشامل"

تمارس عدة دول أوروبية أشكالاً من التجنيد، ففي دول الشمال ودول البلطيق، يقوم التفكير العسكري على مفهوم "الدفاع الشامل"، من خلال زيادة أعداد المجندين، إذ تمتلك فنلندا أحد أكبر الاحتياطيات في العالم، بناءً على التجنيد الإلزامي لجميع الذكور.

وأعادت السويد التجنيد الانتقائي في عام 2018، مع تسجيل إلزامي للرجال والنساء، لكن بعملية اختيار صارمة تأخذ بعين الاعتبار عدة عوامل، بما في ذلك اللياقة البدنية واستعداد الشباب للخدمة.

كما تم توسيع نظام التجنيد في الدنمارك ليشمل النساء، كما تم زيادة مدة الخدمة إلى 11 شهراً بدلاً من أربعة في يونيو الماضي.

 وفي إستونيا، فإن تجنيد إلزامي للذكور، بينما تختار لاتفيا وليتوانيا، المجندين بالقرعة إذا لم يتوافر عدد كاف من المتطوعين.

وأعادت كرواتيا، التي ألغت الخدمة العسكرية الإلزامية قبل 18 عاماً، فرض التجنيد، بينما تعمل بولندا على خطة لإعداد تدريب عسكري واسع لكل الذكور البالغين في محاولة لمضاعفة حجم جيشها.

جنود من القوات المسلحة الألمانية خلال حفل أداء اليمين للمجندين الجدد أمام مجلس النواب في برلين بألمانيا. 23 مايو 2025
جنود من القوات المسلحة الألمانية خلال حفل أداء اليمين للمجندين الجدد أمام مجلس النواب في برلين. 23 مايو 2025 - Reuters

وأظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة، أن غالبية السكان في عدة دول أوروبية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وبولندا، تؤيد شكلاً من أشكال الخدمة العسكرية الإلزامية، بينما تجنبت دول أخرى هذا الخيار حتى الآن.

كما قررت الحكومة الألمانية هذا الشهر، عدم اعتماد نظام الخدمة العسكرية الإلزامية بعد جدل محتدم، واختارت نموذجاً تطوعياً بدلاً منه، لكن إذا لم يحقق هذا النموذج الأعداد المطلوبة، فستعيد النظر في فرض التجنيد على مستوى البلاد.

وتتمتع برلين بسيولة مالية كبيرة لتعزيز قوتها العسكرية بعد عقود من الإهمال، ورغم أن العديد من الدول الأوروبية تواجه نقصاً في الموارد البشرية هي الأخرى، إلى أن الإشكالية تتخذ حجماً أكبر في ألمانيا، التي يتوجب عليها رفع قوام جيشها النظامي إلى 260 ألف جندي من حوالي 180 ألف جندي حالياً، وإضافة مئات الآلاف من الجنود الاحتياطيين الذين يمكن استدعاؤهم في أوقات الأزمات.

وعلّقت ألمانيا الخدمة العسكرية الإلزامية في عام 2011، وستُمثّل إعادة فرضها تحوّلاً جذرياً في سياساتها، مدفوعاً بالتهديد المتزايد الذي تُشكله روسيا، إلى جانب القلق المتزايد بشأن موثوقية الضمانات الأمنية الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترمب.

وكتب معهد الدراسات الاستراتيجية الدولي في تقرير حديث: "تواجه معظم الجيوش الأوروبية صعوبة في تحقيق أهداف التجنيد واحتفاظها بالأفراد المدربين، بالإضافة إلى خلق احتياطي كاف".

لماذا أعادت فرنسا التجنيد؟

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الخميس الماضي، إطلاق خدمة عسكرية طوعية للشباب الفرنسيين بدءاً من الصيف المقبل، في إطار تعزيز قدرات القوات المسلحة استعداداً لأي "أزمة محتملة"، وفق "لوموند".

وبحسب صحيفة "لا تريبيون"، سيتمكن المتطوعون من الالتحاق بالبرنامج لمدة 10 أشهر عند انطلاقه، مع تلقي ما بين 900 و1000 يورو شهرياً. وستتجدد الخدمة الطوعية تلقائياً كل عام، فيما يأمل قصر الإليزيه استقطاب 50 ألف شاب إضافي سنوياً بحلول عام 2035. 

وكان ماكرون، قد لمح إلى هذا المخطط خلال خطاب ألقاه أمام القوات المسلحة في 13 يوليو الماضي، متعهداً بوضع إطار جديد لمعالجة "نقاط الضعف" في الجيش الفرنسي.

ويضم الجيش الفرنسي حالياً 200 ألف فرد و40 ألفاً من قوات الاحتياط، لكن 77 ألفاً فقط منهم يمكن نشرهم. وهذا العدد، وفقاً للجنرال السابق فنسان ديسبور، يكفي لتغطية "80 كيلومتراً فقط من الجبهة الأوكرانية"، حسبما نقلت صحيفة Euractiv.

وفي ظل عودة التهديد الروسي واحتمال تراجع دور الولايات المتحدة في أوروبا، يجب على فرنسا تعزيز قدراتها على مستوى المعدات والكوادر البشرية، يقول الجنرال الفرنسي.

ولا يزال الإليزيه يحدد طبيعة المهام التي سيكلف بها المجندون الجدد، إلا أن ماكرون استبعد إرسالهم إلى أوكرانيا كجزء من أي "قوة طمأنة" بعد الحرب.

وتُقدِّر مذكرة صادرة عن المفوضية الفرنسية للتخطيط، أن تدريب 70 ألف شاب سيكلف 1.7 مليار يورو سنوياً، مبلغ لم يُدرج بعد في ميزانية الدفاع التي يُتوقع أن تصل إلى 64 مليار يورو في عام 2027، أي ضعف المستوى المسجّل قبل عقد.

ومع تعثر المفاوضات بشأن ميزانية الدولة لعام 2026، قال رئيس الوزراء الفرنسي، سيباستيان لوكورنو، الاثنين الماضي، إنه سيطلب من البرلمان الأسبوع المقبل التصويت على تدابير تهدف إلى "تعزيز" القوات المسلحة.

وكان الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، قد ألغى الخدمة العسكرية الإلزامية عام 1997 مع انتقال فرنسا إلى جيش مهني بالكامل بعد نهاية الحرب الباردة.

وتخطط ألمانيا لإطلاق خدمتها الطوعية الخاصة اعتباراً من الأول من يناير المقبل، مع راتب شهري قدره 2600 يورو إجمالاً. ويهدف الجيش الألماني البوندسفير" إلى استقطاب ما بين 20 و30 ألف متطوع سنوياً

ومع توقع الأوروبيين زيادة الخطر الروسي على دول الناتو بحلول عام 2030، أصبح تعزيز القوات بنقاط ضعف هيكلية أولوية قصوى لقادة الدفاع في الحلف.

يُعد الجيش الفرنسي بالفعل ثاني أكبر جيش في الاتحاد الأوروبي بعد بولندا، إذ يضم أكثر من 201 ألف عسكري. وتملك فرنسا نحو 45 ألف عنصر احتياط، وتسعى لرفع العدد إلى 105 آلاف بحلول 2035، وهو هدف يسعى برنامج الخدمة الطوعية إلى المساهمة في تحقيقه.

مخاوف أوروبية متفاوتة 

في فرنسا، تأتي العودة إلى الخدمة الطوعية بعد قرابة أربع سنوات من اندلاع حرب أوكرانيا. أما الدول الأقرب إلى روسيا، فقد وجدت أن إعادة الخدمة الإلزامية خطوة بديهية، جاءت مواكبةً لتصاعد الهجمات الروسية.

فبعد ضمّ القرم  في عام 2014، كانت ليتوانيا أول دولة تعيد الخدمة الإلزامية، تلتها السويد، ثم لاتفيا بعد حرب أوكرانيا في عام 2022.

في الوقت نفسه، ارتفعت شعبية الخدمة الوطنية، خصوصاً في دول البلطيق والدول الإسكندنافية. ففي فنلندا، التي تشترك في حدود بطول 1300 كيلومتر مع روسيا، بلغ دعم الدفاع عن الوطن مستوى قياسياً، إذ قال 83% من الفنلنديين في عام 2022 إنهم مستعدون للدفاع عن بلدهم، مقابل 65% فقط في 2020، وفق "بوليتيكو".

أما في أوروبا الغربية، البعيدة جغرافياً عن روسيا، فالنقاش أكثر تعقيداً.

وقالت كاترين ويستجارد من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية لمجلة "بوليتيكو": "الدول المجاورة لروسيا تشعر بالتهديد أكثر من غيرها، التي تعتمد في جزء كبير على عنصر الجغرافيا للحماية".

في فرنسا، المبرر العسكري واضح؛ الجيش يريد مزيداً من الجنود. لكن الخدمة تهدف أيضاً إلى كسب العقول والقلوب وزيادة وعي المجتمع بالتهديدات التي تواجه أوروبا.

وقال شخص مقرّب من ماكرون، إن "الحرب في أوكرانيا وتزايد التوترات الجيوسياسية وانسحاب القوات الأميركية من أوروبا، كلها عوامل تستدعي تعزيز الرابط بين الأمة والجيش".

في بريطانيا، حيث قال ثلث السكان فقط إنهم مستعدون للدفاع عن البلاد، طُرحت فكرة إعادة الخدمة الإلزامية لفترة قصيرة عام 2024 ثم اختفت مع وصول حكومة العمال.

أما في إسبانيا، التي وُجّهت لها انتقادات لعدم الالتزام بأهداف الإنفاق الدفاعي للناتو، فقالت وزيرة الدفاع مارجريتا روبليس، العام الماضي، إن "فكرة إعادة الخدمة العسكرية لم تخطر على بال أحد" في الحكومة.

ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، اختارت هولندا وبلغاريا وبلجيكا وألمانيا وبولندا ورومانيا، اعتماد برامج طوعية في الوقت الحالي.

احتياطي استراتيجي لروسيا

معهد دراسات الحرب الأميركي ISW، أفاد بأن روسيا بدأت منذ يوليو الماضي، في تشكيل احتياطي استراتيجي جديد من المجندين.

وأشار المعهد إلى أن قرابة 292 ألف شخص وقعوا عقوداً مع وزارة الدفاع الروسية منذ بداية عام 2025 وحتى 15 سبتمبر الماضي، أي بمعدل يقارب 7 آلاف و900 مجند أسبوعياً أو 31 ألف و600 شهرياً.

وذكر المعهد، أن بعض هولاء المجندين "ينضمون إلى الاحتياطي الاستراتيجي الذي تعمل روسيا على تشكيله"، لكنه لم يحدد عدد الذين ذهبوا إلى القوات الاحتياطية مقابل الذين يتم إرسالهم إلى الخطوط الأمامية في أوكرانيا، بحسب المعهد.

وقال محللون إن القيادة العسكرية الروسية، قد تكون رأت أن بوسعها تشكيل احتياطي استراتيجي بعدما بدأت خسائرها البشرية بالتراجع في صيف 2025.

وزعموا أن مسؤولين أوكرانيين أفادوا بأن روسيا تكبدت ما بين 32 ألفاً و48 ألف مجند شهرياً بين يناير ويوليو 2025، وهو عدد أكبر من معدل التجنيد الشهري المعلن.

لكن المسؤولين أنفسهم قالوا إن روسيا تكبدت قرابة 29 ألف مجند في أغسطس 2025، و13 ألفاً في النصف الأول من سبتمبر 2025، وهما الشهران الوحيدان في العام الجاري اللذان كانت فيهما معدلات الخسائر أقل من معدل التجنيد الشهري، وفقاً لـISW.

جنود روسيون خلال الاحتفاء بذكرى 'يوم النصر' على النازية في الساحة الحمراء بالعاصمة موسكو 9 مايو 2021
جنود روسيون خلال الاحتفاء بذكرى 'يوم النصر' على النازية في الساحة الحمراء بالعاصمة موسكو 9 مايو 2021 - AFP

ويرى المعهد، أن التقارير بشأن إنشاء روسيا احتياطي استراتيجي هي "مؤشر على أن الكرملين لا يسعى لإنهاء حربه ضد أوكرانيا، بل هو مصمم على تحقيق أهدافه العسكرية في ساحة القتال، وقد يكون في الوقت نفسه يستعد لمواجهة محتملة مع حلف الناتو".

واعتبر المعهد، أن قرار إنشاء احتياطي استراتيجي يشير إلى أن روسيا، تخطط لـ"تصعيد" عملياتها في أوكرانيا على المدى القريب إلى المتوسط بدلاً من إنهاء الحرب.

وذكر المعهد الأميركي، أن هذه الخطوة تأتي في إطار استعدادات الكرملين الأوسع لاحتمال نشوب صراع مع الناتو مستقبلاً، خصوصاً مع تكثيف برامجها العسكرية الموجهة للشباب، والتي تهدف إلى استقطابهم للانضمام إلى الجيش في السنوات المقبلة.

ويقدّر موقع Global Firepower، المختص بترتيب القوى العسكرية عالمياً، عدد الجنود الحاليين في القوات المسلحة الروسية، بنحو مليون و320 ألف فرد.

تصنيفات

قصص قد تهمك