تثير جهود الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية مخاوف جديدة بشأن مستقبل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي شكّل حجر الأساس للوحدة الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويحمل هذا الأسبوع مشهداً منقسماً يعزز تنامي الشكوك في أوروبا بشأن التزام الولايات المتحدة بالتحالف، فمن جهة، يزور المبعوث الخاص للبيت الأبيض ستيف ويتكوف، موسكو لخوض جولة جديدة من محادثات السلام مع الكرملين بشأن حرب أوكرانيا، في زيارته السادسة هذا العام إلى العاصمة الروسية، علماً بأنه لم يزر أوكرانيا بعد.
وفي المقابل، يتخلف وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عن حضور الاجتماع نصف السنوي لوزراء خارجية الدول الأعضاء في "الناتو"، ويرسل نائباً عنه، وفق صحيفة "وول ستريت جورنال".
وكانت آخر مرة يتغيب فيها كبير الدبلوماسيين الأميركيين عن هذا الحدث عام 1999، حين كان تركيز واشنطن منصباً على عملية السلام في الشرق الأوسط، وفق ما ذكرته متحدثة سابقة باسم "الناتو".
وتوقّعت "وول ستريت جورنال" أن يترك غياب روبيو أثراً واضحاً، خصوصاً أنه يأتي في خضم محادثات سلام بشأن أوكرانيا دفعت كثيراً من القادة الأوروبيين للتساؤل عما إذا كانت أولويات واشنطن لا تزال متوافقة مع أولويات أوروبا.
خطة السلام
وقد أثار تسريب خطة سلام واتصالات هاتفية بين ويتكوف ومساعد بارز في الكرملين لشؤون السياسة الخارجية انطباعاً واسعاً بأن إدارة ترمب تهتم أكثر بتحسين العلاقات والتعاون الاقتصادي مع روسيا، على حساب الدفاع عن التحالف عبر الأطلسي.
وهزت الأوساط الدفاعية والدبلوماسية في أوروبا نقطتان أساسيتان في خطة السلام المؤلفة من 28 بنداً، أولها كان تعامل الخطة مع روسيا باعتبارها طرفاً منتصراً وأوكرانيا خاسرة، إذ تجبر كييف على التخلي عن أراضٍ استراتيجية لم تخسرها بعد، وتقليص جيشها، من دون ضمانات قوية بالحماية من الولايات المتحدة أو الحلفاء الأوروبيين إذا أعادت موسكو التسلح، وقررت الهجوم مجدداً.
أما النقطة الثانية فهي تصوير الخطة الولايات المتحدة كوسيط بين روسيا و"الناتو"، ما يوحي بأن واشنطن لم تعد ترى نفسها عضواً في الحلف الذي قادته طويلاً، وحمى جزءاً كبيراً من أمن أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وقال أستاذ السياسة الدولية في جامعة القوات المسلحة في ميونخ كارلو ماسالا، إن الخطة تمثّل "معاهدة فرساي جديدة، لكنها تعاقب الضحية وتكافئ المعتدي"، مشيراً إلى أن بنودها "تعكس مواقف فصيل معين داخل الحكومة الأميركية".
اتفاق محتمل
ولا تزال شروط اتفاق السلام المحتمل قيد التفاوض، وقد نجح الأوروبيون في دفع بعض التعديلات، وسيعرض ويتكوف النسخة المعدلة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الأسبوع.
ويقر بعض الدبلوماسيين الأوروبيين بأن الهدف الأكبر لإدارة ترمب هو ببساطة إنهاء القتال، بحسب "وول ستريت جورنال".
لكن الشكوك الأوروبية تعمقت بعد ظهور مزيد من المعلومات بشأن كيفية صياغة الخطة الأميركية، بما في ذلك تسريب مكالمة بدا فيها ويتكوف وكأنه يلقّن مستشار الكرملين يوري أوشاكوف، ما ينبغي على بوتين قوله لترمب، وفقاً لنص نشرته "بلومبرغ".
وقال الجنرال الأميركي المتقاعد بن هودجز: "هذا هو السيناريو الذي حلمت به روسيا. فمنذ العهد السوفييتي وهدفها إحداث شرخ بين الولايات المتحدة وأوروبا. وأعتقد أن سبب تجاهل ترمب لأوروبا هو أنه يراها غير ذات قيمة".
ولم يشكك البيت الأبيض في صحة المكالمة المسربة، ودافع عن ويتكوف. وقالت المتحدثة آنا كيلي للصحيفة، الأسبوع الماضي، إن الإدارة "جمعت مداخلات من الأوكرانيين والروس لصياغة اتفاق سلام يمكنه وقف القتل وإنهاء الحرب".
خطة "غير مقبولة"
ووصف رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك مسودة الخطة بأنها "غير مقبولة". وقال وزير الخارجية الفنلندي السابق بيكا هافيستو، إنه من المؤسف أن يطلع شركاء "الناتو" على تفاصيل خطة سلام تخص أوكرانيا من خلال تقارير إعلامية.
وأضاف هافيستو: "هذا يُظهر أن الحلف، ككيان سياسي، لم يعمل كما ينبغي".
واجتمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الاثنين، وتحدث لاحقاً إلى الرئيس ترمب، مؤكداً أهمية ضمانات الأمن لأوكرانيا، وفق مكتب ماكرون.
وقال مسؤول فرنسي في وقت سابق إن بوتين وترمب كانا سيتوصلان إلى اتفاق منذ فترة طويلة لولا تدخل الأوروبيين.
وأكد المسؤول الفرنسي أن أوروبا تجد نفسها اليوم "وحيدة"، لأن الأميركيين ينسحبون من المنطقة، ما يفرض عليها الاعتماد أكثر على نفسها.
رؤى مختلفة
وترى الخبيرة في الشأن الروسي لدى "المعهد الملكي للخدمات المتحدة" (RUSI) في لندن إميلي فيريس، أن الأميركيين والأوروبيين يدخلون مسار السلام من زاويتين مختلفتين.
وقالت فيريس: "ترى أوروبا أن روسيا تعيد التسلح، وتخشى الحرب المقبلة. أما الأميركيون فيفكرون بأمد أقصر: هم يريدون إنهاء الأمر سريعاً، ووقف إطلاق نار، وإعادة أوكرانيا إلى وضع مستقر، وإيجاد سلام بارد لعام أو عامين".
وأضافت أن اختلاف الرؤية يعود إلى قرب الأوروبيين من ساحة القتال وخوفهم من أن يكونوا الهدف التالي، بينما ينشغل الأميركيون بتهديد الصين طويل الأمد، في حين يسعى ترمب بشدة لتحقيق إنجاز دبلوماسي جديد.
وتواجه أوروبا أيضاً حملة من التكتيكات العدائية الروسية، تشمل هجمات إلكترونية وتوغلات بطائرات مُسيّرة وحوادث تتعلق بقطع كابلات الإنترنت البحرية، حسب ما ذكرت "وول ستريت جورنال".
طموح بوتين
ويتفق معظم القادة السياسيين والعسكريين الأوروبيين على أن طموح بوتين هو إعادة بناء النفوذ الإمبراطوري لروسيا، خصوصاً في أوروبا الشرقية ودول البلطيق التي شكلت جزءاً من الاتحاد السوفييتي.
ويقف في مواجهته "الناتو" وبند الدفاع المشترك، الذي ينص على أن أي هجوم على عضو واحد هو هجوم على الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة النووية.
ويعلم بوتين أنه لا يستطيع هزيمة "الناتو" عسكرياً، خصوصاً في ظل الأداء الضعيف لقواته في أوكرانيا، وأمله الوحيد هو هزيمة الحلف سياسياً عبر تقويض وحدته، وهو ما يسعى إليه دائماً، كما قال إد أرنولد، الضابط البريطاني السابق وخبير الأمن الأوروبي في "المعهد الملكي للخدمات المتحدة".
وتُعد الخطة الأميركية الأخيرة خطوة كبيرة نحو تقسيم "الناتو"، إذ تمنح روسيا عملياً "عفواً" عن الغزو، وتسمح لها بالعودة إلى مجموعة الدول الثماني، والمشاركة في مشاريع تنمية اقتصادية مشتركة مع الولايات المتحدة في مناطق مثل القطب الشمالي.
وأضاف أرنولد: "هذا سيُحدث انقسامات هائلة داخل الشراكة عبر الأطلسي. سياسياً، روسيا على وشك تحقيق انتصار".
وقال كارلو ماسالا إن إعادة دمج روسيا في الاقتصاد العالمي ستجعل من الصعب على السياسيين الأوروبيين إقناع الناخبين بزيادة الإنفاق الدفاعي.
سيناريو انتصار روسيا
واكتسب ماسالا شهرة واسعة أخيراً؛ بسبب عرضه كيفية سعي روسيا لاختبار "الناتو" بهدف تفكيكه. ويُتداول كتابه "إذا انتصرت روسيا" في العواصم الأوروبية، وهو يفسر جزءاً من قلق أوروبا بشأن الحلف والإدارة الأميركية.
ويتناول الكتاب سيناريو تفترض فيه روسيا، بعد إجبار أوكرانيا على الاستسلام، إعادة تسليح نفسها، وفي مطلع عام 2028 ترسل قوات كوماندوز للسيطرة على مدينة نارفا وجزيرة هيوما في إستونيا، بحجة حماية السكان الناطقين بالروسية.
ولا يعرف حلفاء "الناتو" كيف يتصرفون في هذا السيناريو. وفي النهاية يقرر الرئيس الأميركي أنه لا يريد المخاطرة بحرب عالمية من أجل مدينة صغيرة مجهولة. وتدعمه في ذلك حكومة فرنسية يمينية متطرفة يُفترض انتخابها آنذاك، إلى جانب حكومات موالية لروسيا في المجر وسلوفاكيا.
وترى رواية ماسالا أن فشل "الناتو" في الرد على توغل صغير ستكون له تداعيات ضخمة، إذ أن الحلف قائم على عقود من الثقة، وقد تكفي حادثة واحدة لإثارة الشكوك في فعاليته وما إذا كانت الولايات المتحدة ستتدخل للدفاع عن دولة صغيرة مثل إستونيا.
ويرى أرنولد أن سيناريو ماسالا "محتمل"، مشيراً إلى احتمال سعي القوات الروسية لتضييق "ممر سوالكي"، وهو شريط ضيق يربط ليتوانيا وبولندا، وكلاهما عضوان في "الناتو"، ويقع بين الأراضي الروسية والبيلاروسية.
وتساءل: "إذا سيطرت القوات الروسية على بضعة كيلومترات من هذا الممر، هل سيجازف رئيس مثل ترمب بحرب شاملة؟". وإذا لم يفعل، يضيف أرنولد، "فإن أساس الناتو برمته سيكون مهدداً بالانهيار".









