شددت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، السبت، على أن الولايات المتحدة "لا تزال أكبر حليف للتكتل"، وذلك تعليقاً على الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأميركي التي تضمنت انتقادات حادة.
ونصت استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة، التي نشرها البيت الأبيض، مساء الخميس، على أن أوروبا تواجه خطر "زوال الحضارة"، و"تراجع ديموجرافي خطير، وأنها تنقصها الثقة بالنفس، وقد تفقد يوماً مكانتها كحليف يعول عليه، كما اتهمت واشنطن التكتل بأنه "معاد للديمقراطية".
وقالت كالاس، في ندوة ضمن فعاليات "منتدى الدوحة 2025" في قطر: "هناك الكثير من الانتقادات، ولكنني أعتقد أن بعضها صحيح أيضاً، إذا نظرتم إلى أوروبا، تجدون أنها تستهين بقوتها أمام روسيا".
وأضافت: "يجب أن نكون أكثر ثقة بالنفس"، مؤكدة أن "الولايات المتحدة لا تزال أكبر حليف لنا". وتابعت كالاس: "أعتقد أننا لا نتفق دائماً في الرأي إزاء مواضيع مختلفة، لكن أعتقد أن المبدأ العام لا يزال قائماً. نحن أكبر حليفين وعلينا أن نتكاتف دوماً".
وتمثل استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة "تحولاً غير مسبوق" في التاريخ الحديث لواشنطن، إذ تعكس الوثيقة، التي تمتد لنحو 30 صفحة، انقلاباً جذرياً في نظرة واشنطن التقليدية لأوروبا، من شريك استراتيجي إلى طرف يُنظر إليه باعتباره عقبة أمام المصالح الأميركية.
"وساطة أميركية" بين روسيا وأوروبا
وتضع الوثيقة دول حلف الناتو في صدارة الانتقادات، بينما تكاد تتجاهل روسيا بوصفها تهديداً مباشراً، في انقلاب كامل على عقود من السياسة الأميركية التي اعتبرت موسكو الخطر الأكبر على الأمن الغربي، بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال".
الأمر الأكثر لفتاً للانتباه في الاستراتيجية الأميركية الجديدة، بحسب الصحيفة، هي أنها تعرض الولايات المتحدة كـ "وسيط" بين أوروبا وروسيا، بدلاً من قيادة القوى الغربية في مواجهة موسكو، كما اعتادت منذ الحرب الباردة.
ويقول المؤرخ البريطاني تيموثي جارتون آش، إن الوثيقة تمثل "أكبر صفارة إنذار تُطلق في وجه أوروبا منذ 1945"، مضيفاً أن واشنطن "لم تعد ترى نفسها حليفاً طبيعياً للقارة كما ظلّت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية".
الوثيقة الأميركية، اعتبرت أن استمرار تدفقات الهجرة إلى القارة العجوز، "قد يغير الأغلبية الديموجرافية" في بعض دول الناتو، خلال عقدين، حسبما ورد في استراتيجية الدفاع الأميركية الجديدة، محذّرة من "تآكل انتمائها الحضاري" وتراجع قابلية الاعتماد عليها كحليف.
وتتهم الولايات المتحدة، في استراتيجيتها الجديدة، عدداً من الحكومات الأوروبية، دون ذكر أسماء، بـ"إسكات الأصوات الوطنية"، و"التضييق على العمليات الديمقراطية"، وتشير إلى ما تصفه بـ"تراجع القدرة الدفاعية" للقارة.
وتحت عنوان "تعزيز عظمة أوروبا"، تتبنى الوثيقة نبرة أبوية توحي بأن واشنطن ترى نفسها وصياً على مستقبل القارة؛ وهو ما اعتبرته "وول ستريت جورنال"، لغة "أقرب إلى خطاب الزجر لا الشراكة".
في خطوة أكثر إثارة للجدل، تشير صحيفة "فاينانشيال تايمز" إلى أن الاستراتيجية تدعو، بصياغة صريحة، إلى "تنمية المقاومة داخل الدول الأوروبية لمسارها السياسي الحالي"، في إشارة إلى دعم الأحزاب اليمينية الشعبوية والمعارضة للهجرة في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها.
ووصف محللون ذلك، بأنه أول اعتراف مكتوب بأن واشنطن قد تتدخل سياسياً داخل أوروبا لتغيير مساراتها، وليس فقط لموازنة نفوذ روسيا أو الصين.
وتقول الباحثة ناتالي توشي، إن الوثيقة "ترى أوروبا كطبق استعماري تتنافس عليه القوى الكبرى"، في رؤية تضع العالم في ثلاث كتل هي: الولايات المتحدة والصين وروسيا، بينما تصبح أوروبا مجرد "ساحة نفوذ".
وبحسب "فاينانشيال تايمز"، تلوم الوثيقة الأوروبيين، على "توقعات غير واقعية" في ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، وتتهمهم صراحة بـ "عرقلة جهود واشنطن" لإنهاء الحرب.
وتطالب بصيغة واضحة، بـ"وقف سريع للأعمال القتالية" لاستعادة الاستقرار الاقتصادي ومنع تصعيد غير محسوب مع موسكو.
"مبدأ مونرو"
في تحول آخر لافت، تقلل الوثيقة من الخطاب المتشدد ضد الصين، مركزة على "تصحيح العلاقات التجارية" وتجنب أي صدام عسكري.
أما الأولوية القصوى، فتذهب إلى استعادة السيطرة الأميركية على النصف الغربي من الكرة الأرضية، في عودة صريحة لروح "مبدأ مونرو"، وهو سياسة أميركية أُعلنت في عام 1823 تقضي بمنع أي نفوذ أو تدخل أوروبي في نصف الكرة الغربي مقابل عدم تدخل واشنطن في شؤون أوروبا.
وتشير الوثيقة إلى نقل قوات وموارد من الشرق الأوسط ومناطق أخرى إلى الأميركيتين لمواجهة الهجرة والجريمة والتأثير المتزايد لفنزويلا وقوى إقليمية أخرى.
صدمات أوروبية
أثارت الوثيقة موجة استياء واسعة في العواصم الأوروبية. وقال وزير الخارجية الألماني، يوهان فاديفول، إن أوروبا "لا تحتاج إلى دروس من الخارج".
وتحدثت حكومات أخرى عن "انقطاع كامل" بين الرؤية الأميركية والأوروبية، وهو الشرخ الأكبر في العلاقات عبر الأطلسي منذ عقود.
لكن المفوضية الأوروبية قالت إن العلاقة مع واشنطن ستظل "ركناً أساسياً" في أمن القارة، مع رفضها القاطع لما ورد في الوثيقة من اتهامات حول الهجرة أو الديمقراطية.
ويرى خبراء السياسة الخارجية، أن إدارة ترمب لا تتبنى سياسة انعزالية كما يُشاع، بل تسعى إلى "إعادة صياغة أوروبا نفسها بما يتماشى مع رؤيتها القومية والمحافظة"، وفي هذا السياق تقول الباحثة كاتيا بيجو من "تشاتام هاوس" في بريطانيا، إن واشنطن "لا تغادر أوروبا، لكنها تريد إعادة هندستها بالكامل"، مضيفة أن هذه الإستراتيجية تمثل "محاولة لإعادة تعريف الغرب بشروط أميركية خالصة".










