يبدو أن سياسة سول تجاه بيونج يانج تتجه نحو مسار أكثر ليونة، ويعود ذلك إلى أن الرئيس الكوري الجنوبي لي جاي ميونج، أعلن، الأسبوع الماضي، أن وزارة الوحدة ستتولى قيادة السياسة المتعلقة بكوريا الشمالية.
أما المؤشر الثاني على هذا التغيير فهو أن تشونج دونج يونج، الذي يتولى وزارة الوحدة، يدفع باتجاه جهود أكثر تصالحية تجاه بيونج يانج، بما في ذلك إزالة العقوبات، يواكبها لجم كوريا الجنوبية للتحركات الشعبية والإجراءات التي عادة ما تُقام على الحدود مع كوريا الشمالية، التي كانت الأخيرة تعتبرها مُستفزة.
من يدير العلاقة مع الشمال؟
وكانت وزارات كوريا الجنوبية أمضت جزءاً كبيراً من الأشهر القليلة الماضية في جدال حول من يتولى القيادة في ما يتعلق بكوريا الشمالية.
وعادة ما تركز وزارة الوحدة على المصالحة والانخراط مع بيونج يانج، وهي جزء مما يُعرف بـ"معسكر الاستقلالية"، الذي يدفع بسياسات الاعتماد على الذات.
أما وزارة الخارجية، من ناحية أخرى، فتنتمي إلى "معسكر التحالف"، الذي ينظر عادةً إلى قضية كوريا الشمالية على أنها مسألة يُفضل التعامل معها من خلال منظور التحالف بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة.
وخاضت الوزارتان صراعاً على دور القيادة في شؤون كوريا الشمالية لسنوات، وشهدت الإدارات السابقة التابعة للحزب الديمقراطي هذا الصراع بين المعسكرين.
ويُنظر إلى قادة الحزب الديمقراطي على أنهم يفضلون "معسكر الاستقلالية"، إلا أن إحدى الخطوات الأولى للرئيس الكوري الجنوبي كانت تعيين وي سونج-لاك، وهو عضو في "معسكر التحالف"، مستشاراً له للأمن القومي.
ومؤخراً، صعّدت وزارة الوحدة هذا الخلاف الداخلي المستمر منذ فترة طويلة، ما استدعى تدخل رئيس البلاد، الذي أظهر دعمه للوزراة في اجتماع عُقد في 19 ديسمبر، معتبراً أنه عندما يتعلق الأمر بقضايا كوريا الشمالية "فإن هذا الدور ينبغي لوزارة الوحدة أن تضطلع به".
الدعوة إلى مراجعة العقوبات
وكان لافتاً، في الاجتماع نفسه، أن الرئيس قد أشار إلى أن "الحوار والتعاون والتعايش السلمي ينبغي أن تكون هي الطريق إلى الأمام"، منتقداً "السياسات المتشددة التصادمية السابقة غير الضرورية".
وفي المناسبة نفسها، كان هناك موقف لوزير الوحدة أثار دهشة الكثيرين، اعتبر فيه "القضية الأولى هي فعالية العقوبات، فإذا كانت فعّالة، فإن تلك السياسة تكون ذات مشروعية، أما إذا لم تكن كذلك، فيجب مراجعتها".
وسلّط الضوء بشكل خاص على ما يُعرف بـ"عقوبات 24 مايو"، وقال إن "فعاليتها قد تآكلت إلى حدٍّ كبير".
ما هي عقوبات الجنوب على الشمال؟
و"عقوبات 24 مايو" هي إجراءات عقابية أحادية فرضتها كوريا الجنوبية على كوريا الشمالية، وتختلف عن عقوبات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المفروضة على كوريا الشمالية.
وقد فُرضت هذه العقوبات عقب غرق السفينة الحربية الكورية الجنوبية روكس تشيونان، وسقوط 46 بحاراً في البحر الأصفر في مارس 2010. وخلص التحقيق الكوري الجنوبي اللاحق إلى أن سفينة تشيونان قد أُغرقت بواسطة طوربيد كوري شمالي.
ونتيجة لذلك، حظرت الحكومة الكورية الجنوبية في ذلك الوقت جميع زيارات الكوريين الجنوبيين إلى الشمال، وجميع أشكال التجارة والأعمال مع الشمال، وجميع مشاريع المساعدات إلى الشمال، كما حظرت أيضاً إبحار السفن الكورية الشمالية في المياه الكورية الجنوبية.
وتقول أستاذة العلوم السياسية في جامعة كانجوون الوطنية، كويون تشونج، لـ "الشرق"، إنه نظراً لأن "عقوبات 24 مايو" كانت أول عقوبات أحادية تفرضها الحكومة الكورية الجنوبية على كوريا الشمالية، فإن تخفيف هذه العقوبات سيكون بادرة رمزية للغاية.
لكنها نبهت إلى أن البعض قد ينظر إلى هذه الخطوة على أنها "تسامح" من جانب سول مع بيونج يانج بشأن إغراق سفينة تشيونان، من أجل دفع كوريا الشمالية إلى طاولة المفاوضات بشأن الأسلحة النووية.
سياسة واشنطن تجاه بيونج يانج
وترى تشونج أن كوريا الشمالية تنظر إلى سياسة الولايات المتحدة تجاه بيونج يانج من خلال 3 أبعاد: "العداء الدبلوماسي، والعداء الاقتصادي (العقوبات)، والعداء العسكري، مثل المناورات العسكرية المشتركة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية".
ومن هذا المنطلق، ترسل إزالة العقوبات رسالة مفادها أن "سول تعترف بوجهات نظر بيونج يانج بشأن أشكال العداء، وتحاول تهيئة بيئة أفضل للحوار".
وقال الباحث الزميل الأول سانجمين شيم، من معهد "آسان" لدراسات السياسات وهو مركز أبحاث مقره سول، لـ"الشرق"، إن "هذه العقوبات يمكن من الناحية التقنية إلغاؤها من قبل إدارة لي عبر سلطتها التنفيذية من دون المرور بالبرلمان، لكنه جزم بأن الحكومة الكورية تشاورت مع الإدارة الأميركية عند تطبيق هذه العقوبات في البداية".
واعتبر شيم أن "عقوبات 24 مايو" نفسها كانت رمزية، ولم يكن لها تأثير حقيقي على اقتصاد كوريا الشمالية، ولذلك فإن إلغاؤها سيكون رمزياً كذلك.
ومن الناحية النظرية، يمكن لسول أن "ترفع هذه العقوبات بشكل أحادي، لكنها على الأرجح ستتشاور مع الولايات المتحدة قبل اتخاذ أي خطوة من هذا النوع".
وخلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترمب، نظرت كوريا الجنوبية في رفع هذه العقوبات، لكن ترمب قال حينها: "لن يفعلوا ذلك من دون موافقتنا".
ما مصير عقوبات مجلس الأمن على كوريا الشمالية؟
يبدو أن تصريحات وزير الوحدة تجاوزت مجرد الحديث عن "عقوبات 24 مايو"، إذ أدلى بتصريحات إضافية يبدو أنها تشير إلى عقوبات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مشيراً إلى أن كوريا الشمالية تتاجر مع الصين، ما يقوّض فعالية عقوبات بلاده، وإن بيونج يانج تنظر إلى العقوبات باعتبارها من "أكثر الأعمال عدائية".
وتبلغ تجارة كوريا الشمالية مع الصين حالياً أعلى مستوياتها منذ ما قبل جائحة كوفيد-19.
وذكر تشونج أن "كوريا الشمالية واصلت تطوير برامجها النووية، وبرامج الصواريخ رغم العقوبات، وأن بيونج يانج تقول إنها لا تستطيع قبول عروض الحوار والسكين على عنقها".
لكن إزالة عقوبات مجلس الأمن الدولي تتطلب موافقة جميع الأعضاء الدائمين في المجلس، وهم: الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الصين وروسيا.
ويرى شيم، في حديثه لـ"الشرق"، أنه إذا ما سلكت سول مسار الدفع نحو إنهاء هذه العقوبات، وهو ما لم يُقدِم عليه الرئيس لي بعد بشكل صريح، فقد تحاول إقناع الرئيس ترمب، من خلال استمالة رغبته في الفوز بجائزة نوبل للسلام وترك بصمة في التاريخ، إلا أن إقناع المملكة المتحدة وفرنسا قد يكون أكثر صعوبة.
أما روسيا والصين، فمن المرجح أن تدعما رفع العقوبات، غير أنه في حال أُزيلت أي عقوبات لمجلس الأمن، فإن استخدام بكين وموسكو لحق النقض (الفيتو) سيجعل من الصعب جداً إعادة فرض أي عقوبات.
مؤشرات على رغبة سول بالحوار
في حين أن الرئيس الكوري الجنوبي لم يكن صريحاً بقدر وزير الوحدة في ما يتعلق بتخفيف العقوبات، فإن تعليقاته العامة تشير إلى أنه يسعى إلى الحوار مع الشمال.
وقد اتخذت إدارته بالفعل بعض الخطوات الأحادية، مثل إيقاف مكبرات الصوت على طول الحدود، وجعل إرسال المواطنين الكوريين الجنوبيين "بالونات دعائية" إلى الشمال أمراً غير قانوني.
ويبدو أن قول الرئيس لي إنه "من خلال جهود استباقية وقيادية، يجب أن نحاول تخفيف العداء بين الكوريتين"، إذ يشير إلى جملة من الخطوات، ويظهر أن الإجراءات المذكورة، من بينها.
وفي مؤشر آخر على سعي إدارة لي إلى الحوار مع بيونج يانج، أعادت وزارة الدفاع فتح قسم سياسة كوريا الشمالية، الذي كان مسؤولاً عن المحادثات العسكرية مع الشمال، بعدما كان قد أُلغي من قبل الإدارة السابقة.
وتقول البروفيسورة تشونج إن إدارة لي تعتقد أن هذه الجهود ستلقى ترحيباً من جانب بيونج يانج، لكنها تشير إلى أن الولايات المتحدة سترغب في تولي زمام القيادة في سياسة كوريا الشمالية، وأن واشنطن على الأرجح ترى أن المقاربات القائمة على الحوافز لم تكن فعّالة خلال إدارة ترمب الأولى، وقد تشعر بأن خطاب "النار والغضب" كان أكثر جدوى في المرة السابقة.
وتشير تشونج إلى أن تركيز الولايات المتحدة منصب حالياً على قضايا أخرى في سياستها الخارجية، مثل فنزويلا وأوكرانيا. ومن المرجح ألا نشهد أي تحركات من جانب بيونج يانج، وربما ليس قبل الفترة المحيطة بقمة الولايات المتحدة مع الصين في أبريل.
وفي ما يتعلق بالتوترات بين وزارتي الخارجية والوحدة الكوريتين الجنوبيتين، يقول شيم إن "هذه التوترات مرجحة للاستمرار طوال ما تبقى من ولاية الرئيس لي، ما لم يقع حدث كبير مثل تجربة نووية كورية شمالية أو اختراق دبلوماسي يغيّر الحسابات بشأن أي وزارة ينبغي أن تتولى القيادة".











