تحول الصراع بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن بشأن قواعد التكتل المنظمة للخدمات الرقمية، إلى شأن سياسي رفيع المستوى، فيما لا تظهر أي مؤشرات على تهدئة محتملة في عام 2026، وفق مجلة "بوليتيكو".
ففي الأسبوع الماضي، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على مسؤول رفيع سابق في المفوضية الأوروبية، متهمة إياه بأنه "العقل المدبر" لقانون الاتحاد الأوروبي لتنظيم المحتوى.
وشكل حظر السفر، إشارة إلى أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب تصعد هجماتها على ما تصفه بـ"نظام الرقابة" الأوروبي، فيما يضع هذا الضغط بروكسل أمام خيارين غير مرغوب بهما.
ورفض قادة أوروبيون، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونواب في البرلمان الأوروبي، الخطوة الأميركية، واعتبروها "ترهيباً"، بل ولمحوا إلى بحث إجراءات مضادة، ما عزز الدعوات إلى تمسك بروكسل بموقفها وتقليص اعتماد الاتحاد الأوروبي على التكنولوجيا الأميركية.
ويشير ذلك إلى أن الضغوط الأميركية، على القواعد الرقمية الأوروبية تحولت إلى "نزاع شامل عابر للأطلسي"، وليس مجرد ملف جانبي في المفاوضات التجارية، وهو ما يستدعي "رداً مناسباً".
وقال النائب الإيطالي عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، براندو بينيفيي، المسؤول عن العلاقات مع الولايات المتحدة في البرلمان الأوروبي، تعليقاً على العقوبات الأميركية: "يجب أن يكون الرد الحقيقي سياسياً"، مضيفاً: "على قادتنا الذين يسيرون وهم نائمون أن يستيقظوا، لأنه لم يعد هناك وقت".
ورغم إدانة المفوضية الأوروبية للخطوة الأميركية، اكتفت رئيسة المفوضية أورسولا فون دير بـ"رد خافت"، شددت فيه فقط على أهمية حرية التعبير، في منشور على "إكس".
تصعيد محتمل
كان قرار الولايات المتحدة، فرض حظر السفر على الفرنسي، تييري بريتون، الذي شغل منصب مفوض السوق الداخلية في الاتحاد الأوروبي بين عامي 2019 و2024، وقاد صياغة "قانون الخدمات الرقمية"، بمثابة تصعيد للحملة الأميركية ضد قواعد الاتحاد الأوروبي الخاصة بالتكنولوجيا.
وتحمل بريتون العبء الأكبر من الانتقادات بسبب هذه القواعد، لا سيما عقب سجاله العلني مع الملياردير الأميركي إيلون ماسك، مالك منصة "إكس" وحليف وحليف الرئيس الأميركي دونالد ترمب السابق، الذي يبدو أنه استعاد مكانته لدى الرئيس بعد خلاف حاد خلال الصيف الماضي.
وعقب فرض العقوبات على بريتون، أعاد موالون لترمب تداول رسالة بعث بها المفوض الأوروبي السابق في أغسطس 2024 لتحذير ماسك قبيل بث مباشر، كان سيستضيف آنذاك المرشح الرئاسي ترمب.
كما شملت العقوبات، أربعة أشخاص آخرين، بينهم اثنان من منظمة HateAid الألمانية غير الحكومية، التي قالت الجهات التنظيمية في برلين إنها منظمة "موثوقة" للإبلاغ عن المحتوى غير القانوني مثل خطاب الكراهية.
وكانت الولايات المتحدة تكتفي سابقاً في الغالب بتهديد الاتحاد الأوروبي بسبب قواعده الرقمية، أو بإثارتها عندما طالبت بروكسل واشنطن بتنازلات، مثل خفض الرسوم على الصلب والألمنيوم في مطلع ديسمبر.
لكن بعدما تجاوزت المفوضية "نقطة اللاعودة" في أوائل ديسمبر، وفرضت لأول مرة غرامة بموجب "قانون الخدمات الرقمية" على منصة "إكس" المملوكة لماسك، ردت واشنطن بقرارات حظر السفر.
وأكدت الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي بشكل متكرر، أن تطبيق "قانون الخدمات الرقمية" لا يحمل دوافع سياسية، غير أن واشنطن تصر على أنه سياسي بحت.
ومنذ الصيف، تتوالى التهديدات الأميركية بفرض قيود على السفر، لكن المفوضية امتنعت عن توضيح كيفية حماية مسؤوليها، بحسب "بوليتيكو".
نزاع تجاري عابر للأطلسي
ولا يزال لدى الطرفين هامش للمناورة، ويواجهان في الوقت نفسه دعوات داخلية للتصعيد، في نزاع عابر للأطلسي، أصبح شاملاً حول حدود حرية التعبير.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، وعندما أعلنت الولايات المتحدة نيتها مطالبة مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي بالإفصاح عن حساباتهم عند التقدم للحصول على تأشيرات مؤقتة، شددت المتحدثة الرئيسية باسم المفوضية، باولا بينيو، على أن الأمر لا يزال في إطار الخطط.
وقالت "بوليتيكو" إن بينيو رفضت التعليق على كيفية حماية موظفي المفوضية العاملين على "قانون الخدمات الرقمية".
وعند تعرضها لضغوط من الصحافيين بشأن تأثير ذلك على الموظفين المعنيين بالقواعد الرقمية، قالت إن المتحدث باسم شؤون التكنولوجيا توماس رينييه لا يعتزم زيارة الولايات المتحدة.
ومع ذلك، قد لا تكون العقوبات التي أعلنتها وزارة الخارجية سوى "طلقة تحذيرية". فالإجراءات التي أُعلنت الأسبوع الماضي استهدفت مسؤولاً سابقاً في المفوضية، لا شخصاً يشغل منصباً حالياً. ولا تزال لدى الولايات المتحدة أدوات أخرى عديدة، يقول سياسيون أميركيون إنه ينبغي استخدامها.
ودعا السيناتور الجمهوري من ولاية ميزوري إريك شميت إلى استخدام عقوبات "ماجنيتسكي"، وهي إجراءات مالية يمكن أن تتسبب في تعقيدات تشغيلية كبيرة، بما في ذلك تجميد الأصول ومنع الكيانات الأميركية من التعامل مع الجهات الخاضعة للعقوبات.
وعلى الرغم من أن هذه العقوبات تُخصص عادة لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فإن إدارة ترمب استخدمتها بالفعل لملاحقة شخص آخر اعتُبر "أداة حديثة للرقابة".
ففي يوليو، أعلنت وزارتا الخزانة والخارجية الأميركيتين فرض عقوبات "ماجنيتسكي" على القاضي البرازيلي ألكسندر دي مورايش، من بين أسباب أخرى، لقمعه "خطاباً محمياً بموجب الدستور الأميركي".
وقد واجه دي مورايش الانتقادات نفسها التي يواجهها مسؤولو الاتحاد الأوروبي من إدارة ترمب وحلفائها، بمن فيهم ماسك.
تدابير أوروبية مضادة
وعلى الجانب الآخر، تواجه المفوضية أيضاً ضغوطاً، إذ يطالب قادة دول الاتحاد الأوروبي ونواب البرلمان الأوروبي برد سياسي أقوى على الوضع.
وأصبحت القواعد الرقمية الأوروبية موضوعاً دائماً للنقاش في الجلسات العامة للبرلمان، وأشار عدد من النواب إلى أن قيود السفر الأميركية قد تُدرج على جدول أعمال جلسة يناير المقبل.
وقال النائب الألماني عن حزب الخضر، سيرجي لاجودينسكي، إنه على الاتحاد الأوروبي ألا يستبعد بحث نوع من الإجراءات المضادة.
وأضاف في بيان: "يجب على أوروبا أن ترد. عليها أن ترفع مستوى الضغط في محادثات التجارة، وأن تدرس اتخاذ إجراءات ضد كبار التنفيذيين في شركات التكنولوجيا الذين يدعمون بنشاط أجندة الإدارة الأميركية".
من جهته، اتهم بريتون مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بأنها "ضعيفة جداً"، خلال مقابلة مع قناة TF1 الفرنسية.
وقبيل العطلة، دعا نواب من أربع كتل سياسية، في بيان مشترك نادر، إلى اتخاذ إجراءات أقوى ضد شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى.
وقالت النائبة الألمانية عن حزب الخضر، ألكسندرا جيزي: "الغرامة الصغيرة على إكس بداية جيدة، لكنها جاءت متأخرة جداً، وهي بالتأكيد غير كافية".
وحاول الاشتراكيون، إطلاق لجنة تحقيق خاصة لمعرفة ما إذا كانت المفوضية قوية بما يكفي في تطبيق "قانون الخدمات الرقمية"، إلا أنهم لم يتلقوا الدعم من الكتل الأخرى.
ولم تعلن المفوضية بعد قراراتها بشأن الجزء الأكبر من تحقيقها بموجب "قانون الخدمات الرقمية" في شأن منصة "إكس" وغيرها من المنصات.
ويرى آخرون في العقوبات الأميركية "تحذيراً جديداً" بضرورة تقليص الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية وبناء القدرات التكنولوجية الذاتية للاتحاد الأوروبي.
وقالت أورور لالوك، النائبة الفرنسية ورئيسة لجنة الشؤون الاقتصادية في البرلمان الأوروبي، تعليقاً ساخراً على إدانة المفوضية للعقوبات الأميركية: "لطيف، لكنه غير كافٍ".
وأضافت: "نحتاج إلى بناء استقلالنا الآن. ويبدأ ذلك بأنظمة الدفع الخاصة بنا، وسحابة سيادية، وسياسة صناعية للبنية التحتية الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي".












