تواجه قوى دولية مؤثرة، اتهامات عدّة بمحاولة بسط نفوذها على مسرح الحرب الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان، وتأجيج حدّة الصراع بين الطرفين اللذين تصاعدت شدّة المواجهات العسكرية بينهما في إقليم ناجورنو قره باغ.
وانقسم المشهد إلى 3 معسكرات، الأول داعم للموقف الأرميني بمساندة روسيا وإيران ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، والثاني مؤيد للجانب الأذربيجاني بدعم مفتوح من تركيا، والأخير يقف على الحياد بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ومجموعة مينسك المنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
ويشير محللون سياسيون إلى ضلوع تلك "القوى"، لا سيّما الجانبين الروسي والتركي بشكل كبير في إشعال الموقف بين الطرفين المتصارعين، من أجل تحقيق مصالحهما الدولية، إضافة إلى التوظيف السياسي للأزمة بغض النظر عن مصلحة يريفان وباكو.
ورغم دعوات التهدئة ووقف إطلاق النار، وإنهاء الاشتباكات، وعدم توسيع رقعة الخلافات، والتزام الدولتين بخط التماس بينهما، وإحلال السلام، إلّا أن لروسيا وتركيا يد طولى في الخلافات القائمة بين الجمهوريتين السوفيتيتين السابقتين منذ سنوات، بحسب قول المحللين.
وتعد المواجهة العسكرية القائمة حتى الآن الأشرس بين أرمينيا وأذربيجان منذ عام 2016، ما يثير من جديد مخاوف بشأن الاستقرار في منطقة جنوب القوقاز، والذي يُعد ممراً لخطوط الأنابيب التي تنقل النفط والغاز إلى الأسواق العالمية.
المعسكر الأرميني.. الدب الروسي حامياً
منذ يوليو الماضي، تواجه روسيا اتهامات أذربيجانية متلاحقة بتزويد أرمينيا بالأسلحة بكثافة منذ الاشتباكات التي وقعت بين البلدين في تلك الفترة. إضافة إلى أن لروسيا قاعدة عسكرية في أرمينيا التي تعتبرها شريكاً استراتيجياً في منطقة جنوب القوقاز. ورغم ذلك، فإن الموقف الروسي دعا إلى التهدئة ووقف إطلاق النار بين الطرفين، مع تأكيد موسكو أن الخيار السلمي هو الحل الوحيد للأزمة.
اللافت للنظر أن الموقف الروسي الحالي يختلف بشكل كبير، عن تحرك موسكو في الأزمة التي نشبت بين أرمينيا وأذربيجان في أبريل 2016، حينها اتخذت أوروبا موقف الشجب والإدانة، إلّا أن التحرك الروسي السريع والفوري جاء بنتائج توافقت مع مصالح الأطراف المتنازعة، وتم وقف إراقة الدماء واستنزاف الموارد.
المحلل السياسي والباحث في الشأن الروسي، أشرف الصباغ، قال لـ"الشرق" إن "النزاع بين الطرفين قائم منذ ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي أدّى تفككه إلى تعميق الخلاف بين جمهورياته التي توزعت بين قوى عدّة، فعادت أذربيجان إلى الفلك التركي، فيما لا تجد أرمينيا حماية إلّا في كنف روسيا".
وأضاف: "على رغم أن أرمينيا تُعد بمثابة الحديقة الخلفية لروسيا، إلّا أن هناك تقارير تتحدث عن ضلوعها في تأجيج المشاكل التي تواجه يريفان، وذلك لإحكام قبضتها عليها، إضافة إلى أنها ترغب في خلق أنظمة في آسيا الوسطى ودول ما وراء القوقاز، شبيهة بنظام بوتين السياسي، لتنفيذ مصالحها المختلفة".
وأوضح الصبّاغ أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يُطلق دعمه للنظام الحالي في يريفان بحذر شديد، بسبب موقف الأخير من قضايا تتعلق بالنظام الرأسمالي والديمقراطية، وهو ما يأتي عكس رغبة موسكو، التي تريد تبعية أرمينيا الكاملة.
من جانبه، رأى رئيس وحدة العلاقات الدولية في "مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية" محمد فايز فرحات إن الأزمة الحالية بين أرمينيا وأذربيجان تأتى في ظرف إقليمي ودولي مختلف، خاصة مع حالة التغيّر في النظام الدولي وما تشهده العلاقات الأميركية الروسية حالياً، لا سيّما أن جزءاً من توجهاتهما قائمة على استغلال الأزمات كافة في الشرق الأوسط".
وأكد فرحات في حديث لـ"الشرق" أن "لموسكو موقفاً مؤيداً ليريفان، بسبب العلاقات التاريخية التي تجمع بين الطرفين، إضافة إلى استخدامها كورقة ضغط في بسط نفوذها على مناطق الصراع الإقليمي".
وانضم للرأي السابق علوان أمين الدين، مؤسس ومدير مركز "سيتا" للدراسات فى بيروت، الذي قال لـ"الشرق" إن روسيا ستنضم بالتأكيد إلى المعسكر الأرميني، لاعتبارات تاريخية ودينية واقتصادية، وكذلك لمعاهدة الأمن الجماعي، رغم أن موسكو ستسعى ظاهرياً إلى الوجود بشكل حيادي بين الطرفين، إلّا أنها ستكون مع أرمينيا خلف الكواليس".
المعسكر الأذربيجاني.. تركيا داعماً
لم تدخر تركيا دعماً أو تصريحات من مسؤوليها للوقوف إلى جانب أذربيجان، ما جعلها تواجه اتهامات مختلفة بالعمل على زعزعة الاستقرار في المنطقة، إضافة إلى لعب دور خطير في التصعيد في إقليم ناجورنو قره باغ، ما يمثل إزعاجاً لروسيا، حسبما ذكرت صحيفة "فزغلياد" الروسية.
وفي هذا السياق، قال الصباغ لـ"الشرق" إن "أنقرة تمتلك تأثيراً ونفوذاً كبيرين في غالبية آسيا الوسطى ودول ما وراء القوقاز"، لافتاً إلى "استفادتها من إشعال الموقف لتشتيت الانتباه عن مواقف كثيرة تهدد نظام أردوغان، بينها العلاقات السيئة مع أوروبا ومع الولايات المتحدة، إضافة إلى مشكلاتها مع سوريا وفي ليبيا، وكذلك مع شركائها في البحر المتوسط، خاصة قبرص واليونان، إضافة إلى أزمتها السياسية المستمرة مع مصر".
ولفت إلى أن "القيادة التركية تتعامل باعتبارها قوة عظمى وليست إقليمية، مفسراً الدعم التركي المفتوح، بالسعي وراء استغلال الورقة الأذربيجانية، إما للتقارب مع روسيا لتبادل المصالح، أو للتلويح بالضغط عليها في ملفات ومناطق معينة، من بينها شبه جزيرة القرم".
وأشار الصباغ إلى أن "جزءاً كبير اً من تضامن أردوغان مع أذربيجان يعود إلى الطابع الديني، وإسلامية كلا الدولتين.
بدوره، أشار فرحات إلى أن الخصومة التاريخية بين تركيا وأرمينيا، تجعلها تنحاز للموقف الأذربيجاني منذ سنوات، إضافة إلى أن استمرارها في دعم باكو بصورة مكثفة، يُعد جزءاً من توجهات أنقرة بشكل عام نحو استغلال جميع الأزمات في الإقليم".
"تركيا صارت متعهدة المرتزقة في العالم"، قال علوان أمين الدين لـ"الشرق"، وردّ ذلك إلى موقفها في سوريا وليبيا ثم أذربيجان الآن. وقال إن الدعم التركي المفتوح لأذربيجان، يعود إلى عام 2009، عندما أسس أردوغان، "المجلس التركي" الذي يضم الدول التي تتحدث التركية ومن بينها أذربيجان.
وأشار أمين الدين إلى أن "التدخل التركي في الأزمة، يخدم مشروع أردوغان فى المنطقة، ما يصب في مصلحته أمام شعبه على اعتبار أنه الرئيس الذي سيعيد أمجاد الأمبراطورية العثمانية".
إيران.. حياد إجباري
لم تقف إيران موقف المتفرج في الأزمة الأرمينية الأذربيجانية، بل سارعت لدعوة جارتيها اللتين تتشارك وإياهما حدوداً طويلة في شمالها الغربي، إلى ضبط النفس، مبدية استعدادها للمساعدة في بدء محادثات بينهما.
وتضم إيران نحو عشرة ملايين شخص من الناطقين بالأذرية، ونحو 100 ألف نسمة من الأرمن.
وحول الموقف الإيراني، قال الصباغ إن "مشكلة طهران، تكمن في أن غالبية مواقفها شكلية وغير مؤثرة، وتطلق شعارات فقط باعتبارها في أضعف حالاتها"، مرجعاً سبب ذلك إلى "وقوعها تحت تأثير الدب الروسي، الذى نجح في عزل إيران عن العالم".
ويتفق معه في الرأي، محمد فايز فرحات، الذي رأى أن "إيران فقدت كثيراً من حضورها في منطقة آسيا الوسطى، واهتمامها الأكبر تحول لمنطقة الشرق الأوسط، خاصة في السنوات الأخيرة"، لافتاً إلى أن "هذا لا يمنع أن طهران ضد فكرة استقلال الأرمن، لانعكاس ذلك على مسألة الأقليات بشكل عام في إيران"، معرباً عن اعتقاده أن "ميل طهران لطرف على حساب الآخر لن يكون في مصلحتها".
من جهته، رأى مدير مركز "سيتا" للدراسات أن إيران تتخوف بشكل كبير من تأجيج هذا الصراع"، لافتاً إلى أن "يريفان تعتبر أقرب من باكو بكثير إلى طهران، رغم أن المذهب الشيعي يجمع بين الجمهورتين الإسلاميتيين". وردّ تخوف إيران من الصراع القائم إلى "العلاقات المتبادلة بين إسرائيل وأذربيجان، إضافة إلى مخاوف توحيد العرق الأذري، ما يمثل تهديداً لها بشكل كبير".
وأشار أمين الدين إلى أن "من مصلحة طهران التوازن بين الطرفين بسبب مصالحها في منطقة بحر قزوين التي تحتاج إلى باكو فيها".
الولايات المتحدة.. الأكثر استفادة
ورغم أن أذربيجان تُعد شريكاً وحليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، وتقوم بتسليحها للوقوف في وجه إيران، حسبما ذكرت تحليلات سياسية، إلّا أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب دعا إلى وقف القتال بين باكو ويريفان بشكل فوري.
ورأى المحلل السياسي أشرف الصباغ أن أميركا تعوّل على كسب أي من هذه الأطراف، معتبراً أن واشنطن تُعد الأكثر حظاً بين جميع القوى لبسط نفوذها، وأن أمامها فرصة كبير للتدخل بين البلدين.
من جانبه، قال مدير وحدة العلاقات الدولية في مركز الأهرام للدراسات السياسية" إن "الموقف الأميركي هدفه قطع الطريق على أي نفوذ روسي متنامٍ في المنطقة، خصوصاً مع تصريحات ترمب الأخيرة بشأن محاولات واشنطن الجادة لمنع تصاعد الأزمة الحالية".
وحول رؤيته للموقف الأميركي، رأى أمين الدين أن "ما يحدث في منطقة القوقاز يناسب واشنطن بشكل كبير ويصب في مصلحتها"، لافتاً إلى أن "وجود أىي خطر على الحدود الروسية أو الإيرانية أو الصينية، يعد بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية خطوة إيجابية، لانشغال المعسكرات المضادة لها بتلك النزاعات، ما يسمح لها بالعمل في مناطق أخرى بشكل أكثر أريحية، أو المساومة على إنهاء نزاعات في مناطق أخرى بطريقة تناسبها".
مجموعة مينسك ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي
في إطار وصفه لـ"مجموعة مينيسك"، المنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والمعنية بتسوية النزاع في إقليم قره باغ، قال المتخصص في الشأن الروسي أشرف الصباغ لـ"الشرق" إنها "بمثابة منظمة فرق إطفاء الحرائق، الهشّة للغاية، والتي لا تستطيع تحريك أي ساكن"، مؤكداً أنها لم تقدم أي دعم على الإطلاق في قضية النزاع الأرميني الأذربيجاني.
وأشار فرحات إلى أن المنظمة "فشلت في لعب أي دور في أزمات سابقة"، لافتاً إلى أن "الدور الأكبر لن يكون من خلالها، ولكن سيكون من خلال القوى الدولية المؤثرة".
وحول موقف منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي منظمة حكومية دولية وحلف عسكري قامت 6 دول سوفييتية سابقة بالتوقيع على معاهدته الأمنية، أكد الصباغ أنها لا تستطيع أن تدخل أي حرب، وأقصى ما تفعله هو تبادل المعلومات العسكرية وفقاً لمواثيقها "الرمادية" بحسب وصفه، باعتبارها دولاً ضعيفة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، مشيراً إلى أن موسكو تستخدمها كورقة ضغط عندما تتطلب المصالح الروسية ذلك.
مستقبل الأزمة
وتوقع فرحات انتهاء الحرب السريعة بين أرمينيا وأذربيجان قريباً، حتى مع الإجراءات التي اتخذها كل طرف، والتي وصفها بـ "الطبيعية والمنطقية" في ظل سقوط ضحايا، مؤكداً أن ذلك لا يعني إطالة أمد الأزمة، لافتاً إلى وجود متغيرات كثيرة، ستحكم المسار مستقبلاً، خاصة من مواقف القوى الدولية الأكثر تأثيراً.
وأشار رئيس وحدة العلاقات الدولية في مركز الأهرام إلى أن الأزمة ستتراجع بسرعة بسبب التدخل الأميركي والروسي، وكذلك إدراك الطرفين الأرميني والأذربيجاني بشكل كامل أن حسم الصراع بالطريقة العسكرية صعب جداً، وإلّا لكان ذلك تم خلال الصراعات السابقة.
واختلف معه الصباغ الذي لفت إلى أن تقارير أمنية وعسكرية صادرة خلال الساعات الماضية تتحدث عن نشوب حرب واسعة النطاق، بين الطرفين، تؤججها مصالح عدد من القوى الدولية المؤثرة.
ورأى أمين الدين أن "الجولة الحالية ستنتهي مثلما حدث في الجولات السابقة، فأذربيجان لن تستطيع احتلال قرة باغ، وأرمينيا لن تستطيع أن تتمدد أكثر من ذلك في الإقليم، وستعود الأمور إلى ما كانت عليه في انتظار جولات أخرى من المد والجزر".