مثل كرة ثلج، تكبر أزمة المهاجرين الآتين من بيلاروسيا، والمتكدّسين على حدود بولندا التي تحظى بدعم من الاتحاد الأوروبي، الذي يتهم مينسك باستغلالهم في معركتها ضده.
بدأت الأزمة في العاصمة البيلاروسية، التي شهدت تظاهرات ضخمة، بعد فوز الرئيس ألكسندر لوكاشينكو بولاية سادسة، في انتخابات نُظمت في أغسطس 2020 واعتبرتها المعارضة مزوّرة، قابلتها قوات الأمن بعنف بحسب وكالة "رويترز"، قبل أن تفرض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا عقوبات على مينسك.
واتهمت الأطراف الثلاثة لوكاشينكو وقواته بتشجيع المهاجرين، ورعايتهم أحياناً للعبور إلى الاتحاد الأوروبي، عبر بولندا وليتوانيا، في ما اعتبروه شكلاً من "حرب هجينة"، انتقاماً من العقوبات الغربية.
وشدد لوكاشينكو، الثلاثاء، على أن بلاده "لن تركع" في أزمة الهجرة مع الاتحاد الأوروبي، مضيفاً: "لا نبحث عن خلافات. لست مجنوناً، أدرك تماماً إلى أين يمكن أن يؤدي كل ذلك"، بحسب وكالة "فرانس برس".
وأشارت وكالة "بلومبرغ" إلى أن لوكاشينكو هدّد، في مايو الماضي، بـ"السماح لمخدرات ومواد مشعة ومهاجرين غير شرعيين بالعبور إلى الاتحاد من دون قيود"، لافتاً إلى أن بلاده لن تمنع أشخاصاً من بلدان "يسيء إليها الغرب"، من دخول دول التكتل.
حدود "مقدسة"
توجّه رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي، برفقة وزير الدفاع ماريوش بلاشتشاك، إلى الحدود الثلاثاء، للقاء حرس الحدود ومسؤولين أمنيين آخرين، بحسب وكالة "أسوشيتد برس".
وأشاد مورافيتسكي بهؤلاء على "دفاعهم الفعّال عن حدودنا"، التي تُعد جزءاً من الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي. وأضاف: "لا نعرف ما الذي سيأتي به نظام لوكاشينكو. هذه هي الحقيقة".
وكتب بلاشتشاك على "تويتر"، أن بولندا نشرت أكثر من 12 ألف جندي على حدودها، ووضعت وحدة متطوّعين في حالة تأهب. جاء ذلك بعدما عقدت الحكومة البولندية اجتماعاً طارئاً بشأن أزمة الحدود، فيما اعتبر مورافيتسكي أن حدود بلاده "مقدسة"، و"ليست مجرد خط على الخريطة".
أما الرئيس البولندي، أندريه دودا، فرأى أن "النظام البيلاروسي يهاجم الحدود البولندية والاتحاد الأوروبي، بطريقة لا مثيل لها".
"نهج عصابات"
وأفادت وكالة "أسوشيتد برس" بأن تسجيلات مصوّرة بُثت على "تويتر"، أظهرت خياماً ونيراناً على الحدود، الثلاثاء، في وقت تحذر الشرطة البولندية المهاجرين من أن عبور الحدود البولندية ليس مسموحاً به إلا عند المعابر الرسمية، ويتطلّب نيل تأشيرات.
جاء ذلك بعد يوم على محاولة آلاف المهاجرين اقتحام حدود بولندا من بيلاروسيا، إذ قطعوا أسلاكاً شائكة واستخدموا جذوع أغصان لمحاولة تسلّقها. وذكر الناطق باسم الحكومة البولندية، بيوتر مولر، أن ما بين 3000 و4000 مهاجر كانوا قرب حدود بلاده، على الجانب البيلاروسي.
وحضّت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بيلاروسيا على "وقف استغلال المهاجرين لأغراض سياسية تعرّض حياة أناس للخطر"، فيما اعتبرت المفوضية أن مينسك تتبع نهج "عصابات" في التعامل مع هذه القضية، من خلال منح المهاجرين بشكل غير قانوني دخولاً سهلاً إلى الاتحاد الأوروبي عبر أراضيها، ملوّحة بمزيد من العقوبات على بيلاروسيا.
مراقبة رحلات من 20 دولة
وأعلن ناطق باسم المفوضية الأوروبية أن التكتل يراقب الرحلات الجوية إلى بيلاروسيا من نحو 20 دولة، في محاولة لمنع تدفق مزيد من المهاجرين إلى حدود الاتحاد.
وأفادت "رويترز" بأن الناطق أشار إلى شركات طيران من دول، مثل المغرب وسوريا وإيران وقطر وجنوب إفريقيا والصومال والهند وسريلانكا وفنزويلا وروسيا وأذربيجان وتونس والجزائر وليبيا واليمن.
في الوقت ذاته، جمّد الاتحاد الأوروبي جزئياً اتفاقاً لتسهيل نيل المسؤولين البيلاروس تأشيرات دخول إلى دوله، مدرجاً الأمر في إطار رد على "هجوم هجين مستمر يشنّه النظام البيلاروسي". واستدرك أن هذه التدابير لن تعقد حصول المواطنين على تأشيرات.
تضامن أوروبي
وطالبت ألمانيا، في وقت سابق، المفوضية الأوروبية بـ"اتخاذ إجراءات" للحدّ من تدفّق المهاجرين من بيلاروسيا إلى بولندا، علماً بأنها سجّلت عبور نحو 5000 مهاجر إلى أراضيها في أكتوبر، آتين من بيلاروسيا عبر بولندا.
وكان لافتاً أن وزير الداخلية الألماني المنتهية ولايته، هورست زيهوفر، اعتبر أن على دول الاتحاد أن "تقف معاً، لأن لوكاشينكو يستخدم مصائر الناس، بدعم من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لزعزعة استقرار الغرب"، بحسب "أسوشيتد برس".
وأضاف أن "البولنديين تصرّفوا بشكل صحيح حتى الآن"، وتابع: "لا يمكننا انتقادهم لتأمين الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي بوسائل مقبولة.. البولنديون يقدّمون خدمة مهمة جداً لأوروبا بأكملها".
في السياق ذاته، اعتبرت فرنسا أن نظام لوكاشينكو "يشجّع تهريب مهاجرين بهدف زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي"، ملوّحة بعقوبات تستهدف "الأشخاص والكيانات المتورّطين بهذا الاتجار بالبشر".
تنسيق روسي بيلاروسي
في المقابل، سارعت موسكو إلى مساندة حليفتها مينسك، إذ أشاد الكرملين بعمل "مسؤول" لأفراد الأمن البيلاروسيين على الحدود، فيما اعتبر وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، أن أوروبا تتحمّل مسؤولية تسوية أزمة سبّبتها سياسات الغرب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وحذر لافروف الاتحاد الأوروبي من "الكيل بمكيالين"، مستشهداً بمساعدة قدّمها التكتل لتركيا لإيواء لاجئين سوريين، باعتباره مثالاً قد يكون قابلاً للتطبيق في حالة بيلاروسيا، بحسب "بلومبرغ".
وأعلن الكرملين أن بوتين ولوكاشينكو تبادلا هاتفياً "وجهات النظر بشأن وضع اللاجئين" على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، فيما أفادت وكالة الأنباء البيلاروسية الرسمية (بيلتا) بأن الرئيسين ناقشا "اتخاذ الجانب البولندي خطوات بالغة الصرامة مع مدنيين"، وأكدا أن "تجمّع قوات نظامية بولندية على الحدود هو مصدر قلق بالغ"، كما ذكرت "رويترز".
جاء ذلك بعدما حذرت وزارة الخارجية البيلاروسية وارسو من "اللجوء إلى أي استفزاز، لتبرير أعمال حربية جديدة غير مشروعة" ضد المهاجرين "المستضعفين غير المسلحين".
كذلك، شدد وزير الداخلية البيلاروسي، إيفان كوبراكوف، على أن المهاجرين موجودون على أراضي بلاده "بشكل قانوني" ولم "ينتهكوا القانون"، إذ جمد البرلمان البيلاروسي الشهر الماضي اتفاقاً مع الاتحاد الأوروبي، يلزم مينسك باستعادة المهاجرين الذين يعبرون أراضي البلاد إلى التكتل.
تأشيرات سياحية إلى مينسك
وفيما تستعر حرب التصريحات بين أطراف النزاع، بات المهاجرون ضحية لصراع سياسي بين أوروبا وبيلاروسيا التي تدعمها روسيا، إذ يعانون ظروفاً صعبة في الصقيع، كما توفي 10 منهم، بينهم 7 على الجانب البولندي للحدود، وتحدث مسؤول بولندي عن تقديرات بوجود "من 12 إلى 15 ألف مهاجر في بيلاروسيا"، كما أفادت "فرانس برس".
ودعا وزير الخارجية الليتواني، جابريليوس لاندسبيرجيس، إلى فرض عقوبات على كل مطارات بيلاروسيا التي تساهم في تدفّق الهجرة غير النظامية، فيما أعلنت بولندا أن حوالي 30 ألف شخص حاولوا دخول أراضيها بشكل غير قانوني من بيلاروسيا، بينهم 17300 في أكتوبر.
وصادق البرلمان البولندي الشهر الماضي على تشييد سريع لجدار على الحدود مع بيلاروسيا، بقيمة 402 مليون دولار.
ولكن كيف وصل هؤلاء إلى حدود بولندا؟ أفادت "أسوشيتد برس" بأن كثيرين من المهاجرين يسافرون إلى مينسك بتأشيرات سياحية، ثم يستقلّون سيارة أجرة إلى الحدود مع بولندا، وتمتد على 416 كيلومتراً.
وأشارت إلى تجميد الرحلات الجوية المباشرة من العراق إلى مينسك، في أغسطس الماضي، مستدركة أن مهاجرين يسافرون إلى بيلاروسيا عبر رحلات تجارية ورحلات للطيران العارض، من سوريا وتركيا والإمارات وحتى روسيا، بحسب تقارير الهجرة الداخلية التي أعدّها الاتحاد الأوروبي. وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، روّج مهرّبون لنقل المهاجرين من بيلاروسيا إلى ألمانيا بالسيارة.
وذكرت الوكالة أن بيلاروسيا منحت تأشيرات سياحية في الأشهر الأخيرة، لآلاف المهاجرين من سوريا والعراق وأفغانستان وإفريقيا، وشجّعتهم على العبور إلى بولندا وليتوانيا، وبدرجة أقلّ لاتفيا، وهي دول في الاتحاد الأوروبي متاخمة لبيلاروسيا.
"تهريب عملاء إلى أوروبا"؟
"هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) نقلت عن مهاجرين أن جنوداً بيلاروسيين ساعدوهم على العبور غير القانوني إلى بولندا وليتوانيا. وأضافوا أن بعضهم كان يعبر في مجموعات محدودة، فيما تحدث آخرون عن نقلهم إلى الحدود في شاحنات عسكرية، وإبلاغهم بالمكان الذي يجب أن يتجهوا إليه.
وأشارت مجلة "ذي إيكونوميست" إلى تصوير حراس حدود بيلاروسيين وهم يوجّهون مهاجرين عبر الحدود إلى دول الاتحاد الأوروبي، علماً بأن حرس حدود بولنديين أرسلوا رسائل نصية قصيرة لمهاجرين يأملون العبور من بيلاروسيا إلى بولندا، جاء فيها: "الحدود البولندية مغلقة. السلطات البيلاروسية تكذب عليكم. عودوا إلى مينسك!".
وتساءل معهد "أتلانتيك كاونسل" عما إذا كانت موسكو ومينسك تستخدمان أزمة المهاجرين لـ"تهريب عملاء إلى أوروبا"، بعدما حذر وزير خارجية لاتفيا، إدجارس رينكيفيكس، من محاولة لتهريب عملاء ومحرّضين محتملين خلسة إلى أوروبا.
وقال لمجلة "نيوزويك": "تفيد تقارير بأن بعضاً من هؤلاء الأشخاص (الذين يعبرون بشكل غير شرعي من بيلاروسيا إلى أوروبا) يقيمون منذ سنوات في بيلاروسيا أو روسيا. بعضهم ينتسب إلى تنظيمات إرهابية راسخة، لذلك ثمة مخاوف أمنية أيضاً" في هذا الصدد.