بعد عام من الهدوء والوفاق، اقتربت فيه ليبيا من الخروج من أزمتها السياسية عبر بوابة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي تعثرت قبل أسابيع من فتح صناديق الاقتراع، تقف البلاد اليوم على أبواب انقسام حكومي جديد.
فبعد تكليف البرلمان في طبرق وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، تشكيل حكومة جديدة لتحل محل الحكومة التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، رفض الأخير التنحي عن منصبه وتسليم السلطة "إلا لحكومة منتخبة من البرلمان الجديد".
وعلى الرغم من أن كفة الموقف الحالي لرئيسي الوزراء (المقال والمنتخب) تميل لصالح باشاغا، بسبب الدعم الذي تلقاه من أطراف داخلية بارزة، مثل مجلس الدولة، والجيش، الذي يقوده خليفة حفتر في بنغازي واللجنة العسكرية المشتركة "5+5" وأطراف دولية وإقليمية فاعلة في المشهد الليبي، على رأسها مصر وروسيا، إلا إن الدبيبة لا يزال متشبثاً بموقفه الرافض للتغيير السياسي الذي أجراه البرلمان، تسانده في موقفه هذا قوى عسكرية محلية في الغرب الليبي، خصوصاً في مصراتة والزاوية.
ومع ارتفاع منسوب الاحتقان السياسي والأمني الذين تسبب بهما الخلاف بين البرلمان وحكومة الدبيبة، بدأت تساؤلات كثيرة تطرح نفسها حول مستقبل العملية السياسية في ليبيا، ومصير الانتخابات المنتظرة، مع مخاوف من عودة الصدام العسكري في قلب العاصمة طرابلس، بين الأذرع العسكرية المؤيدة لرئيس الوزراء المقال عبد الحميد الدبيبة وخلفه فتحي باشاغا.
مشاورات معقدة
رفض رئيس الحكومة المقال من قبل البرلمان، عبد الحميد الدبيبة، التنازل عن منصبه لفتحي باشاغا، لم يثن الأخير عن الانطلاق بمشاوراته مع الأطراف النافذة في غرب ليبيا وشرقها لتشكيل حكومة متوازنة، تلقى قبول كل الفرقاء في المشهد. وهي مهمة لن تكون سهلة بالعودة إلى التجارب السابقة مع الحكومات الست التي سبقته، والتي كانت كلها حكومات موسعة، بسبب المحاصصة الجبرية بين الكيانات الجهوية والتيارات السياسية متعددة الأسماء والمشارب.
وما يزيد من صعوبة المهمة الملقاة على عاتق باشاغا، أنه سيكون في سباق مع الزمن لإنهاء مشاوراته السياسية مع كل الأطراف، والإعلان عن تشكيلته الجديدة في ظرف زمني لا يتجاوز أسبوعين، بحسب ما نص عليه قرار تعيينه الصادر من البرلمان، والذي تعهد هو شخصياً الالتزام به.
ويبقى التحدي الحقيقي أمام رئيس الوزراء المكلف من قبل البرلمان هو إرضاء كل الفرقاء في المشهد، الذين لم يجتمعوا على شيء في السنوات الماضية مثلما اجتمعوا على دعم قرار تكليفه، وعلى رأسهم مجلسي "النواب" في طبرق و"الدولة" في طرابلس والجيش في بنغازي، إذ عليه أن يخرج بتوليفة حكومية ترضيهم جميعاً، وهي معادلة ليست سهلة، بالنظر إلى التنافس المتوقع بينهم لتقاسم المناصب السيادية البارزة، وهي وزارات: الدفاع والداخلية والخارجية والمالية ووزارة النفط.
"مهمة عسيرة"
يرى الصحافي الليبي عمر الجروشي، أن المدة المحددة لرئيس الحكومة الجديدة، فتحي باشاغا، للخروج بحكومة متوازنة ترضي كل الأطراف المتنافسة "قد لا تكون كافية" لإنجاز مهمة عسيرة مثل هذه في مشهد بتعقيد المشهد الليبي، الذي تختلط فيه الأدوار بين اللاعبين المحليين الظاهرين والتدخلات الخارجية المستترة".
وقال الجروشي لـ"الشرق،" إنه لن يكون مفاجئاً أن ترفض التشكيلة الوزارية التي سيقدمها باشاغا بعد أقل من أسبوعين، مرة أو مرتين، قبل نيل الثقة تحت قبة البرلمان، كما حدث مع حكومة الدبيبة العام الماضي، بسبب التنافس على بعض المناصب بين أقاليم ليبيا وفرقائها السياسيين.
وتوقع الجروشي أن يصبح التنافس محموماً على ثلاث وزارات هي: الدفاع والنفط والمالية، مثلما حدث لدى تشكيل الحكومات الليبية في السنوات الماضية.
هل يتراجع الدبيبة؟
وفيما يسابق فتحي باشاغا الزمن، ويقلب أوراقه على طاولات المفاوضات في المدن المؤثرة في المشهد السياسي الليبي، بين طرابلس ومصراتة وطبرق وبنغازي، لا سؤال يلح على خواطر المهتمين بالشأن السياسي الليبي، سوى: هل يتراجع عبد الحميد الدبيبة عن تشبثه بمنصب رئاسة الوزراء، ويجنب البلاد تبعات صدام محتمل بدأت بوادره تتواتر بشكل واضح في العاصمة طرابلس؟
وعلى الرغم من محاولات أطراف محلية في مصراتة الوساطة بين الرجلين المتنافسين على رئاسة الحكومة، واللذين يجمعهما الانتماء للمدينة، إلا إن الدبيبة يبدو مصراً على عدم التنازل عن موقفه الرافض لقرار إقالته وحل الحكومة الصادر عن البرلمان في طبرق.
وواصل رئيس الحكومة المقال تصعيده ضد إجراءات مجلس النواب خلال اليومين الماضيين، بتشكيله لجنة من بعض الوزراء في حكومته للإشراف على تنفيذ خريطة الطريق التي أعلن عنها قبل أيام قليلة، والتي تركز على إجراء انتخابات عامة في يونيو المقبل، بدلاً من تمديدها لعام ونصف، كما تقترح خريطة الطريق التي أقرها البرلمان، وتضمنت قرار تشكيل حكومة جديدة لإدارة البلاد خلال هذه الفترة.
ولا تثير تحركات الدبيبة السياسية ضد قرار إقالته من منصبه قلق الشارع الليبي، مثلما تفعل تحركات المجموعات المسلحة الموالية له في مدينتي مصراتة والزاوية، والتي استعرضت قوتها الجمعة الماضية في وسط طرابلس، وهددت باستخدام القوة لمنع تنفيذ قرار حل الحكومة، وأثارت مخاوف كبيرة من تجدد الاحتكام إلى السلاح لحسم الصراع على السلطة في ليبيا، بعد عام من انتقاله لملاعب السياسة.
تحرك باشاغا
الأطراف العسكرية الموالية لباشاغا لم ترد حتى الآن على تحركات الكتائب الموالية للدبيبة بتحركات مماثلة وتهديد مشابه، إلا إن الموقف قد لا يبقى على ما هو عليه إذا نالت الحكومة الجديدة ثقة البرلمان، وتوجهت لطرابلس لمباشرة مهامها، مع استمرار الدبيبة على موقفه الرافض لتسليم السلطة، خاصة بعد أن ألمح رئيس لجنة الدفاع في مجلس النواب طلال الميهوب، إلى طبيعة الرد المحتمل في هذه الحالة، بقوله إن "رئيس حكومة تصريف الأعمال عبد الحميد الدبيبة ليس أمامه أية خيارات سوى تسليم السلطة، وأنه حال استمرار رفضه لنقلها إلى رئيس الحكومة الجديدة سيتم التعامل معه كالانفصاليين في أي دولة".
عزلة سياسية
وتلقى عبد الحميد الدبيبة ضربة سياسية موجعة في اليومين الماضيين، تؤثر على موقفه في معركته مع البرلمان، مع تواصل الدعم من عدة أطراف سياسية محلية ودولية وإقليمية للإجراءات التي اتخذها الأخير لإعادة ترتيب المشهد حتى نهاية المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات العامة، بما فيها حل الحكومة الحالية.
الموقف الجديد في هذا السياق صدر من روسيا والتي تعتبر واحدة من أكثر الدول الخارجية التي لعبت أدواراً بارزة ومؤثرة على الساحة الليبية في السنوات الماضية، والتي أعطت ضوءاً أخضر مهماً للتغييرات التي أجراها البرلمان على السلطة التنفيذية.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في بيان، إن "موسكو تأمل في أن تتمكن الحكومة الليبية الجديدة من توحيد الليبيين، وإعداد البلاد لإجراء انتخابات وطنية".
وعبرت زاخاروفا عن "أمل" بلادها "أن تتمكن الحكومة الليبية الجديدة برئاسة فتحي باشاغا، من توحيد المجتمع الليبي، الأمر الذي سيسمح بالتعامل بنجاح مع المهام الصعبة للمرحلة الانتقالية، بما في ذلك الاستعدادات لإجراء الانتخابات الوطنية".
خلافات في مجلس الدولة
وعلى الرغم من ضعف موقفه السياسي والقانوني، يعول الدبيبة حالياً على ورقة داخلية مرتبطة بالخلافات داخل مجلس الدولة بشأن قرار تغيير الحكومة بين رئيس المجلس خالد المشري ومجموعة من الأعضاء، بعد تصريح لرئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا خالد المشري، الأربعاء، قال فيه "إن قرار مجلس النواب تكليف رئيس جديد للحكومة قبل عقد جلسة رسمية للمجلس الأعلى إجراء لا يساعد على بناء جسور الثقة بين المجلسين".
وقبل هذا التصريح أصدر 75 عضواً بمجلس الدولة بياناً أيدوا فيه ما صدر عن مجلس النواب من إجراءات خاصة بالمرحلة الانتقالية الأخيرة، وقال الأعضاء، الذين يشكل عددهم من الموقعين على البيان أغلبية في المجلس، "نعلن أن ما صدر عن مجلس النواب تعد تفاهمات تم نقاشها والتصويت عليها بجلسة رسمية بالمجلس الأعلى للدولة، وأن التعديل الدستوري الثاني عشر، أقر من لجنتي خريطة الطريق بالمجلسين بصيغته النهائية، قبل تصويت مجلس النواب، والآن مجلس الدولة عليه أن يصوت على الصياغة التي تم التوافق عليها بين اللجنتين".
وأشار البيان إلى أن "دعوة بعض أعضاء المجلس لمناقشة التعديلات هي خطوة عديمة الجدوى، إذا نتج عنها أي تعديل مخالف لما تم إقراره في تعديل مجلس النواب، فهذا يلزم تعديله عند البرلمان وإلا فلا جدوى منه، علاوة على أنها تؤدي إلى زعزعة الثقة بين المجلسين، وتفسد التوافق الذي رحب به كل الليبيين".
ورأى بيان مجلس الدولة أن "التعديل الدستوري المقترح جاء بناء على المادة (12) من الاتفاق السياسي والمادة (36) من الإعلان الدستوري بشأن آلية التصويت بالأغلبية المطلقة كما صرح بذلك رئيس مجلس النواب في الجلسة المنقولة على الهواء، والتعديل الدستوري المقترح جاء متزامناً مع اختيار رئيس الحكومة وفقا للتفاهمات المبدئية بين فريقي المجلسين، وبنود التعديل الدستوري المقترح تحوي ضمانات تنهي المرحلة، ولا تعد دسترة لتكريس وترحيل الخلاف بين أطرافه، ولا تعد تمديداً لمرحلة انتقالية أخرى طويلة الأمد".
وخلص أعضاء مجلس الدولة في بيانهم إلى أن "إجراء سحب الثقة من الحكومة جاء موافقاً للإعلان الدستوري والاتفاق السياسي، وقد عبر المجلس حينها عن ترحيبه الذي جاء متزامناً مع موعد انتهاء ولاية الحكومة في 24 ديسمبر، وآلية اختيار السلطة التنفيذية تمت بالاتفاق بين المجلسين بأن يتحصل المترشح على ثلاثين تزكية من أعضاء مجلس الدولة وأربعين من أعضاء البرلمان وهذا ما تحقق فعلا، وتحصل فقط فتحي باشاغا على العدد المطلوب بأكثر من خمسين تزكية، وبالتالي فإن دور مجلس الدولة قد انتهى في ما يتعلق بتغيير السلطة التنفيذية".