يخوض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحرب في أوكرانيا مستخدماً مبرّرات أيديولوجية وسياسية يعتبر أنها تسوّغ له غزو دولة "مصطنعة" يراها جزءاً من "روسيا التاريخية"، وشعبها مجرد جزء من الشعب الروسي.
الحقيقة، أن ثمة أهدافاً كثيرة لهذه الحرب التي تخوضها روسيا تحت شعار: "حماية دونباس ونزع سلاح أوكرانيا". أهداف تبدأ شرق أوكرانيا، وتمر بالسعي المستميت لمنع الناتو من التواجد في الدول المحيطة، ولا تنتهي عند الرغبة بإعادة صياغة العلاقات الدولية، بما يعيد التوازن إليها. فماذا يريد الرئيس الروسي؟ وما الأهداف الحقيقة لهذه الحرب؟
قبل أيام من الغزو، قال بوتين إن الحدود بين روسيا وأوكرانيا تجاهلت العلاقات الحضارية العميقة بين البلدين، مضيفاً: "أوكرانيا بالنسبة إلينا ليست مجرد دولة مجاورة، إنها جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وفضائنا الروحي".
وأوردت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن خطاب بوتين يعكس شكواه طيلة سنوات، من أن الغرب يحاول إبعاد أوكرانيا عن روسيا، لا سيّما بعد "الثورة البرتقالية" في عام 2004، التي أطاحت بالمرشح الموالي لموسكو في انتخابات الرئاسة، فيكتور يانوكوفيتش، لمصلحة المرشح المؤيّد للغرب فيكتور يوتشينكو، و"ثورة الكرامة" في عام 2014 التي أطاحت أيضاً بيانوكوفيتش وقادت الكرملين للاستيلاء على شبه جزيرة القرم ودعم انفصاليين في إقليم دونباس شرق أوكرانيا.
القضاء على "النازيين"
في الخطاب الذي أعلن فيه شنّ "عملية عسكرية" في أوكرانيا، تحدث بوتين عن هدف "حماية أشخاص تعرّضوا للتنمّر والإبادة الجماعية... خلال السنوات الثماني الماضية"، لافتاً إلى سعيه إلى "نزع سلاح أوكرانيا" والقضاء على "النازيين" فيها.
اختيار بوتين لمصطلح "نازي" لم يكن عبثياً، إذ أنه الأسوأ الذي يمكن استخدامه في روسيا، مع تعبير "فاشي"، ذلك أنهما يستحضران الخسائر الهائلة التي مُني بها الاتحاد السوفياتي في مواجهته ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، بحسب "وول ستريت جورنال".
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وهو يهودي ويتحدث الروسية، علّق على خطاب بوتين، متسائلاً: "هل يستطيع شعب ضحّى بأكثر من 8 ملايين شخص من أجل الانتصار على النازية، أن يدعم النازية حقاً؟".
وذكّر زيلينسكي بأنه حفيد لناجٍ من الهولوكوست، مشيراً إلى أنه ترعرع لدى "عائلة يهودية سوفياتية عادية". ولفت إلى أن أحداً "لم يهتم" لخلفيته اليهودية، خلال حملته لانتخابات الرئاسة في عام 2019، علماً أن رئيس الوزراء لدى انتخاب زيلينسكي، كان فولوديمير غرويسمان، وهو يهودي أيضاً. وسأل زيلينسكي: "كيف يمكن أن أكون نازياً؟ إشرحوا ذلك لجدي" الذي قاتل النازيين مع الجيش الأحمر.
مسار تاريخي
اعتبرت وكالة "أسوشيتد برس" أن بوتين ينتهج مساراً سلكه حكام كثيرون لروسيا قبله، من بطرس الأكبر إلى جوزيف ستالين، في جهوده لإعادة أوكرانيا المستقلة إلى فلك روسيا.
بعد الحرب العالمية الثانية، قاتل القوميون الأوكرانيون ضد السوفيات، فيما أدت "المجاعة الكبرى" التي فرضها ستالين على أوكرانيا، في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، إلى وفاة ملايين الأشخاص وإثارة مرارة أوكرانية إزاء الحكم الروسي السوفياتي، بحسب "أسوشيتد برس"، التي اعتبرت أن اعتراف البلاشفة بأوكرانيا كجمهورية اشتراكية منفصلة، لدى إعلان الاتحاد السوفياتي، لم يكن صدفة، بل جسّد "حقيقة التاريخ والهوية المنفصلين لأوكرانيا".
"شراكة لا مفر منها"
لكن لبوتين رأياً آخر، إذ كتب في يوليو 2021، مقالاً بعنوان: "حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين"، يعتبر فيه أنهم "شعب واحد"، مضيفاً: "أثق بأن السيادة الحقيقية لأوكرانيا ممكنة فقط من خلال الشراكة مع روسيا".
أفاد "أتلانتيك كاونسل"، وهو مركز أبحاث أميركي، بأن بوتين اعتبر عودة أوكرانيا إلى دائرة النفوذ الروسي أهم مهمة له، منذ "الثورة البرتقالية" في عام 2004، كي يضمن دخوله كتب التاريخ الروسية بوصفه واحداً من أعظم الحكام في بلاده.
وأضاف أن حنين بوتين إلى الاتحاد السوفياتي "مدفوع برغبته في إعادة تأهيل الماضي الشمولي وإضفاء شرعية على الحاضر الاستبدادي". ورأى أن رفض بوتين للدولة الأوكرانية وإنكاره وجود أمّة أوكرانية منفصلة، يستندان إلى الماضي القيصري ويعكسان تصريحات وسياسات إزاء أوكرانيا منذ حقبة الأمبراطورية الروسية.
وذكّر المركز الأميركي بقول بوتين، في عام 2005، إن انهيار الاتحاد السوفياتي شكّل "أضخم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، معتبراً أن هذا التصريح أسيء تفسيره، إذ لفت بوتين إلى أن "عشرات الملايين من مواطنينا وجدوا أنفسهم خارج الأراضي الروسية".
وفي ديسمبر 2021، وصف بوتين سقوط الاتحاد السوفياتي بأنه "تفكّك روسيا التاريخية تحت اسم الاتحاد السوفياتي". وشكا "ضياع ما شُيّد خلال ألف سنة"، علماً أن أوكرانيا هي موطن لأكبر عدد من الروس في العالم، خارج روسيا.
بوتين والناتو
اعتبرت "وول ستريت جورنال" أن غزو أوكرانيا يشكّل "أحد أكثر الخطوات العدوانية لبوتين حتى الآن، لإعادة رسم حدود الاتحاد السوفياتي منذ نهاية الحرب الباردة قبل أكثر من 30 سنة"، في إطار سعيه إلى توسيع نطاق نفوذ بلاده، على جمهوريات سوفياتية سابقة مثل بيلاروسيا وجورجيا ومولدوفا. وأشارت الصحيفة إلى ريبة بوتين من تكامل أوكرانيا مع الغرب وسعيها إلى عضوية حلف شمال الأطلسي (ناتو).
لكن عداء بوتين للناتو لم يكن قائماً قبل عقدين. ففي عام 2000 أثناء زيارة للندن، لم يستبعد أن تنضم روسيا إلى الحلف، إذا اعترف بمصالحها، قائلاً: "لمَ لا؟ روسيا جزء من الثقافة الأوروبية، ولا أفكّر في بلدي بمعزل عن أوروبا... أتخيّل بصعوبة أن الناتو هو عدوّ".
وأثناء زيارة للولايات المتحدة في نوفمبر 2001، قال بوتين: "نختلف في الطرق والوسائل التي نتصوّر أنها مناسبة لبلوغ الهدف ذاته... (ولكن) يمكن للمرء أن يطمئنّ إلى أنه أيّاً يكن الحلّ النهائي، فلن يهدد مصالح بلدينا والعالم".
وفي مقابلة في الشهر ذاته، ذكر بوتين أن "روسيا تعترف بدور الناتو في عالم اليوم، وهي مستعدة لتوسيع تعاونها مع هذه المنظمة... وإذا بدّلنا شكل العلاقة بين روسيا والناتو، فأعتقد بأن توسيع الحلف لن يعود يشكّل مشكلة، ولن يكون قضية ذات صلة بعد الآن".
في أواخر عام 2001، سُئل بوتين هل يعارض عضوية دول البلطيق في الناتو، فأجاب: "لسنا في وضع يسمح لنا بأن نقول للناس ما عليهم فعله. لا يمكننا منع الناس من اتخاذ خيارات معيّنة، إذا أرادوا تعزيز أمن دولهم بطريقة محدّدة".
الموقف ذاته اتخذه بوتين بشأن عضوية أوكرانيا في الحلف، بقوله في مايو 2002: "أنا مقتنع تماماً بأن أوكرانيا لن تتخلّى عن عمليات توسيع التفاعل مع الناتو والحلفاء الغربيين ككل. لدى أوكرانيا علاقاتها الخاصة مع الناتو، وهناك مجلس أوكرانيا والناتو. في نهاية الأمر، سيتخذ الحلف وأوكرانيا القرار. إنها مسألة (خاصة) بهذين الشريكين".
توسّع الحلف الأطلسي
تشكو موسكو من أن الغرب "نكث بتعهده" الامتناع عن التوسّع في شرق أوروبا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وإعادة توحيد ألمانيا، بما في ذلك المفاوضات التي مهّدت لتوقيع "الوثيقة التأسيسية للناتو وروسيا" في عام 1997، التي وضعت أساس التعاون بين الجانبين.
في كتاب بعنوان "Not One Inch"، تصف المؤرخة ماري ساروت كيف حدّد وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر، في عام 1990، معالم صفقة افتراضية مع آخر زعيم للاتحاد السوفياتي، ميخائيل جورباتشوف، إذ سأله هل يمكن أن يسمح بضمّ الشطر الشرقي من ألمانيا إلى غربها، وتتفق واشنطن وموسكو على أن الناتو "لن يحيد شبراً واحداً نحو الشرق عن موقعه الحالي؟".
كذلك أبلغ المستشار الألماني السابق هلموت كول جورباتشوف بأن الناتو لن يتمدّد شرقاً. لكن هذه التصريحات لم تكن رسمية، إذ أن الرئيس الأميركي جورج بوش الأب أراد أن يتمدد الناتو إلى ألمانيا الشرقية. كما أن الاتفاق المُبرم في عام 1990 لإعادة توحيد ألمانيا، وسّع بشكل صريح الناتو إلى أراضي ألمانيا الشرقية.
وفي عام 2014، نفى جورباتشوف أن يكون هناك أي تعهد بالامتناع عن توسيع الحلف، بقوله: "لم تُثر أيّ من دول أوروبا الشرقية هذه المسألة، ولا حتى بعد انتهاء وجود حلف وارسو في عام 1991. ولم يطرحها القادة الغربيون أيضاً". لكنه اعتبر أن توسّع الناتو كان "خطأً ضخماً و"انتهاكاً لروحية التصريحات والتأكيدات التي أُدلي بها" في عام 1990.
تصدير الفوضى
تعتبر مجلة "ذي إيكونوميست" أن بوتين لم يهاجم أوكرانيا من أجل إعادة تأسيس امبراطورية، سواء كانت روسية أو سوفياتية، وربطت ذلك بسعيه إلى حماية حكمه.
ونقلت عن فلاديسلاف سوركوف، وهو منظّر أيديولوجي موالٍ لبوتين، قوله في نوفمبر 2021: "نجت الدولة الروسية... نتيجة توسّعها الدؤوب خارج حدودها". واعتبر أن الطريقة الوحيدة التي تمكّن روسيا من أن تفلت من الفوضى، تتمثل في تصديرها إلى دولة مجاورة.
في السياق ذاته، رأى السفير الأميركي السابق في موسكو، مايكل ماكفول، والأكاديمي روبرت بيرسون، أن بوتين يخشى تداعيات "الثورات الملوّنة" التي شهدتها أوروبا والشرق الأوسط، ويسعى إلى تقويض الديمقراطية في أوكرانيا، وتكريس "مجال نفوذ متميّز وحصري عبر الأراضي التي كانت تشكّل الاتحاد السوفياتي"، يتيح لروسيا "حقاً في نقض القرارات السياسية السيادية لجيرانها".
ورأى الرجلان أن استخدام بوتين للقوة ربما عزّز الديمقراطية في أوكرانيا على المدى الوجيز، موحّداً الأوكرانيين ومعززاً شعبية زيلينسكي وصورته كزعيم للأمّة.
"عقيدة بوتين"
المؤرخة ماري ساروت تعتبر أن الزعيم الروسي يسعى الآن إلى إنشاء منطقة عازلة حول بلاده، كما حدث خلال الحقبة السوفياتية، واستعادة مكانة روسيا بوصفها قوة عظمى، مع الولايات المتحدة.
وتحدثت الباحثة في "معهد بروكينغز" أنجيلا ستينت عمّا سمّته "عقيدة بوتين"، وتتمثل عناصرها في إرغام الغرب على التعامل مع روسيا كما لو كانت الاتحاد السوفياتي، بحيث تتمتع بحقوق خاصة في جوارها وبكلمة مسموعة في كل ملف دولي جدي، إضافة إلى الدفاع عن الأنظمة الاستبدادية الحالية وتقويض الديمقراطيات، ناهيك عن هدف بوتين في عكس تداعيات انهيار الاتحاد السوفياتي، وتقسيم الناتو، وإعادة التفاوض بشأن التسوية الجغرافية التي أنهت الحرب الباردة.
وثمة مَن يرى بعداً ديموغرافياً في غزو أوكرانيا، إذ تخشى روسيا أن تذوب في آسيا، نتيجة تقلّص عدد سكانها، وارتفاع عدد سكان آسيا الوسطى، وبروز نفوذ صيني في الجزء الشرقي من الاتحاد السوفياتي.
ولكن هل سيتمكّن بوتين من حكم أوكرانيا؟ يرى موقع "ذي كونفرسيشن" أن الرئيس الروسي لن ينجح في ذلك، ولو انتصر في الحرب، إذ أنه سيحكم بلداً محتلاً ضد إرادته.
واعتبر أن حكماً محتملاً لبوتين في أوكرانيا يمثل إشكالية، إذ أنه لن يتماشى مع نموذج القوة الذي يقرّه الأوكرانيون. وذكّر بأن رفض السلطة الاستبدادية متجذر بعمق في الثقافة الأوكرانية، لافتاً إلى تناقض بين روسيا وأوكرانيا.
وأضاف الموقع أن "الحرب في أوكرانيا تؤكد أن السلطة في عقلية روسيا تتمحور حول القوة"، وزاد: "بالنسبة إلى بوتين، إن نقل هذه العقلية إلى الأوكرانيين سيكون مهمة صعبة جداً، إن لم تكن مستحيلة".
اقرأ أيضاً: